هيمنة الذكريات في قصص كليزار أنور
هدية حسين
لم أقرأ من قبل إلاّ القليل من قصص كليزار أنور ، وأعترف أن هذا تقصير مني إزاء صوت متميز يعي الواقع العراقي ، ويلتصق به ، ويلامس همومه وأوجاعه.. وها أنا أقرأ مجموعتها القصصية (عنقود الكهرمان) التي تضم ( 18) قصة قصيرة، صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد 2006م. القصة الأولى حملت عنوان (النصف بالنصف) وهي الفائزة بجائزة مسابقة الشباب الأدبية. تتحدث عن صديقتين متلازمتين، حميمتين، وإن كانتا مختلفتي الطباع.. هذه الصداقة التي جمعتهما تأخذ أكثر الأمكنة الدافئة في القلب الأمين كما تصفها المؤلفة. ومع أن الراوية- وهي إحدى الصديقتين- تصف صديقة روحها بأنها مرهفة الشعور، عندما تكلمها تشعر بأنها كنسمة ندية.. وأنها رائعة وجديرة بالحب.. إلاّ أن عيبها الوحيد هو الفضول الذي يسكنها، ولذلك فهذه الصديقة الحميمة الفضولية تتدخل في أدق خصوصيات صديقتها، ويصل هذا التدخل الى ما تفكر به الصديقة التي تكتشف شيئاً آخر إضافة الى الفضول، وهو عادة السرقة، بعد أن انتبهت الصديقة الأولى التي تروي لنا الأحداث، باختفاء بعض أشيائها، مع أن الثانية ميسورة الحال. تخبرنا كليزار أنور في منتصف القصة أن هاتين الصديقتين تكتبان القصص القصيرة وتنشرانها، وأيضاً لهما قدرة على الترجمة، ولهذا تقوم الفضولية بترجمة قصة لصديقتها ، تتناول هذه القصة حادثاً معيناً يجري لعائلة معينة، تسكن قصراً واسعاً في ضواحي مدينة ما.. وتكتشف كاتبة القصة بعد الترجمة أمراً مثيراً للعجب، وباعثاً على الحزن، وهو أن الأرقام التي ذكرتها في القصة لتصف عدد الغرف والنوافذ والثريات والكراسي واللوحات، قد تقلّص عددها الى النصف، مما جعلها تغضب وتسأل صديقتها عن السبب.. ويأتي الجواب عبر الهاتف وبضحكة هادئة من تلك الصديقة: كيف تمتلكين هذا القصر الواسع وحدك؟
وفي قصة (البيت القديم) وهي القصة الفائزة بجائزة أور الإبداعية العام 1999، تتناول الكاتبة موضوعة الرحيل عن الوطن، إذ تخبرنا بطلة القصة عن شريط ذكرياتها الذي يأخذها الى البيت القديم ويسقطها في ألم الذكريات.. البيت كما تصفه (واسع يغفو في حضن الجبل) تصله وتطرق بابه، في الوقت الذي تعرف أن لا أحد فيه ، تدفعه وتدخل فتداهمها روائح الطفولة.. كل شيء ساكن من حوله، غرفة الجد، والعالم والسماء والشمس أيضاً.. وهنا في هذه اللحظة لحظة التقاء الحاضر بالماضي، تستيقظ الذكريات وتأخذ دورها ككائنات حية، لكن الطفولة غادرت والبيت شاخ وشجرة التوت هرمت.. الغربة تعم كل شيء حتى بيت الجيران إذ رحل أهله وجاء آخرون.. كل شيء مضى، ركض مع الزمن وأخذ معه كل شيء.. حتى كلمات الحبيب ووعوده رحلت، بل كل البيوت الآن يسكنها الغرباء الذين لا يشكلون أية ذكرى في نفس وروح البطلة، غادر الأحباب دونما وداع وتوزعوا في مدن العالم ، ومن بقي على أرض الوطن راح ينبش في رماد الذكريات لعله يُذكي جمرات الحياة فيه. وفي قصة ( على عجل ) تعود بنا كليزار أنور الى تلك الحرب اللعينة في العام 1991، ولكن قبل ذلك تطلعنا على حكاية حبيبين تزوّجا بعد قصة حب سريعة، وأنجبا أول طفل لهما ، لكن القدر يكتب لهما قصة أخرى، ففي يوم 15 / 1 / 1991 عندما قامت الحرب، يستدعى الزوج الى الجبهة وهنا تضعنا الكاتبة في لجة الهواجس التي تعيشها الزوجة دون أن تشأ وضع نهاية تقليدية لقصتها، وهي بهذه النهاية الموفقة إنما تريد إشراك قارئها بوضع النهاية التي يريد ، ولو أنها أفصحت عما حدث للزوج لفقدت القصة شرطاً من شروطها الفنية . وتكاد تكون قصة ( نوافذ الذكرى) مشابهة لقصة (على عجل) .. زوجان حبيبان وطفل واحد وذكريات حلوة، ثم، رحيل الزوج الى الجبهة.. لكن قصة (خيط الزمن) لها حكاية أخرى ، إنها قصة تمزج بين الخيال والواقع فالفتاة في هذه القصة طالبة تدعى بدور ، منقادة بشكل لا إرادي إلى أفكار غريبة تبعدها عما يحيط بها، وتأخذها إلى عوالم لا تدركها، تميل إلى الصمت وتجلس تحت فيء شجرة وترى العالم كما لو كان مرآة لا ترى فيها إلاّ نفسها التي انشطرت إلى نصفين، نصف يقبع في الصمت ويعيش الغربة، ونصف آخر يأمرها فتطيع وتنفذ.. نصفان يشكلان صورة وقناعاً، ولكنها لا تدرك أيهما الصورة وأيهما القناع. في الصف وهي تشرح مادة التاريخ يتعجب المدرس ويسألها: بدور، من أين لك هذه المعلومات الدقيقة عن هذه المرحلة التاريخية ، فهي ليست من ضمن المنهاج ؟
وفي إحدى سفرات المدرسة، الى الملوية في سامراء، تقول أشياء يستغربها زميلها ويسألها: بدور، هل أتيت الى هنا سابقاً؟ فتفاجأ هي الأخرى. ثم يأتي الليل فإذا بها تسمع صوتاً يناديها ويطلب منها أن تتبعه .. وترى وجهاً قادماً من أعماق الزمن لامرأة تشبهها وكأنها توأمها، أخذتها من يدها الى مدينة أثرية من العالم القديم، وحين سألتها بدور عن اسمها أجابتها: أنا الأميرة بدور، ابنة حاكم هذه المدينة ، في ليلة كان فيها القمر بدراً لقيت مصرعي هناك... وأشارت الى قمة الملوية.. لكن المرأة اختفت بعد هذا الجواب، ووجدت بدور نفسها على درج الملوية، لا تدري متى جاءت إليه ولماذا تصعد .. وحين وصلت القمة انتابها دوار وبدأت النجوم تتساقط، وامتدت إليها أيد طويلة وغليظة لترمي بها الى الأرض. قصة (ذكريات للبيع) تعود بنا الى زمن الحصار، حيث باع الكثير من الكتاب مكتباتهم من أجل لقمة العيش، أما هيام، بطلة هذه القصة، فلم تتصور أن تجد كتابها معروضاً للبيع.. كانت مع الرجل الذي تحبه، يدخلان معاً شارع المكتبات، خفق قلبها وامتدت يدها للكتاب، فتحته وقرأت الإهداء عليه، انهارت عواطفها، بينما الحبيب الذي أهدته هذا الكتاب لم يستطع النطق .. ثم لمّا أراد تبرير ما جرى كانت هيام قد غادرت المكان. لكن الأمر يحدث على العكس في قصة (الفيل) عندما أحب أحدهم زميلته في العمل وصارحها بحبه، إلاّ أنها فضلت الصداقة على الحب، وأهدته تمثال فيل من العاج للذكرى، وبقي محتفظاً بهذا التمثال، حريصاً عليه، برغم مرور السنين. وفي قصة (نافذة من القلب) نطل على لون آخر من الحب، فالكاتبة غصون تحرر زاوية أسبوعية في إحدى المجلات، لهذه الزاوية وقع لدى القارئ.. أحد القراء يُعجب بما تكتب فيقع في حبها، ويحلم برؤية هذه الكاتبة التي، كما يصفها، هي مزيج من الرقة والعذوبة، وما دامت تكتب بهذا الإحساس فهي حتماً امرأة جميلة جداً.. وهكذا يبدأ بمراسلتها حول رأيه بما تكتب، وصار يرسل لها البطاقات الملونة والورود، لقد وقع في غرامها فعلاً، وما عليه إلاّ أن يقابلها.. يذهب الى المجلة ويسأل عنها، وبعد معاناة يخبره أحد الكتاب، وهو رجل في الخمسين من عمره بأن غصون تكتب للمجلة بالمراسلة.. وتحت إصرار الحبيب الولهان يقول له الرجل بأن غصون متزوجة ، فيشعر بالخيبة، لكنه لم يفقد الأمل برؤيتها، ويكرر المحاولة بالذهاب الى المجلة، وتحت إلحاحه يُضطر الرجل لمكاشفته، بأن اسم غصون مستعار وأنه هو من يحرر زاوية ( نافذة من القلب).
في معظم قصص كليزار أنور هناك حنين للماضي، وهيمنة للذكريات، وأبرز ما يميز قصص (عنقود الكهرمان) أنها مكتوبة من زوايا متعددة وبأسلوب فني رفيع.. إنها قصص تستحق منا أكثر من وقفة.
* عنقود الكهرمان. قصص . كليزار أنور. دار الشؤون الثقافية العامة . بغداد
View gulizaranwar's Full Portfolio