المخيلة والتماهي في قصة "رياض النور" للقاصة كُليزار أنور
جاسم عاصي
قصة ــ كليزار أنور ــ تنظم من عنوانها (رياض النور) باتجاه عرفاني واضح ونقصد هنا الدخول في تفاصيل مثل هذا العالم، بقدر ما يأخذ منه النص شيئا يفيد الواقعة سواء كانت منعكسة في ذاكرة وذهن مشتغل أو في واقعه مائلة، فالعنوان يشير إلى الانفتاح على مكان خيالي مضاء وليس بوجود كلمة النور بل من منطلق استقلالية مفردة رياض وما تعنيه من دلالة كمثل رياض الجنة لذا فرياض النور جزء من مكان يوتيبي أخذ خصائصه من مكان كلي علوي تخيلي بمعنى غير مرئي بل يأتي التخيل من انعكاس ما ورد في المتون العرفانية كالقرآن مثلا حيث أسس المكان تصورا وانغماسا ومعتقدا لذا فالجزء هنا اشتغل من مطلق الكل آخذا بنظر الاعتبار ثنائية مهمة كالآتي:
(ثنائية الأنوثة والذكورة وتمركزها في النص يتضارب متوالي لا باعتبارهما سلطتين متعديتين على بعضهما هيمنة وعسفا وتبادلا للأدوار التاريخية بل هنا اشتغلت سلطة العلاقة المكملة علي النحو):
الأب الراحل ــ الأنثى المتوحدة مع نفسها ــ شجرة الفل (نامية ــ ميتة) ــ الرجل صاحب الرسالة ــ شجرة الفل نامية.
هذه الأطراف هي النماذج المتحركة في النص فلو لاحظنا وعبر سياق النص أن الأب في علاقته بالراوية علاقة تتجاوز الأبوة إلي علاقة هي مزيج من ذلك ومن إحساس الروحي المترشح من طبيعة شخصية الأب التي انعكست علي ابنته وقد رشح النص الكثير من المؤشرات لمثل هذه الخصائص والصفات إن هذا المتعلق العرفاني استدعى حالة التوحد مع النفس لحظة حصول انقطاع حسي بالأب، وقد لازم الإحساس هذا الفتاة ليس من باب الحزن على مفقود بقدر ما هو سموا في الشعور الصوفي إزاءه وإزاء ظلاله العرفانية حيث ظهر في النص على أنه مريد وقائد روحي مما أنتج من التعلق بالمتخيل ثم المرتقب خاصة تأكيد الراوية على أن (الموت هو بداية حياة أخرى).
لذا كان حضور الأب الذكر حضورا دائما في مجلس التوحد مع النفس يقابل هذه الصورة صورة تعويضية وهي موت شجرة الفل التي زرعها الأب في حياته ومجددا الحياة ثانيا فظهور الرجل عبر رسالته الغامضة اقترن في حضور صوته حدوث بوادر حياة في الشجرة، من كل هذا نلاحظ قوة علاقة أنشأها النص من قبل راوية تتمتع برؤيا هادئة وقادرة علي بناء النص بعيدا عن هول ما يحدث داخله من مفاجأة أو ما يفترض أن يكون كذلك، إذ حافظ على خط سيره العرفاني الروحي.
ابتداء النص من منطقة الشجرة وليس من الأب الراحل ذلك لتواصل الحياة عبر مصدرها النامي وعلاقتها بالأرض كذلك قدسيتها المثيولوجية منذ بدء الخليقة والتأكيد على عدم قلعها من السندانة على الرغم من يباسها حفاظا على وجود ظلا الأب، من هذا النص يؤسس لنفسه مسارا روحيا على منطق الميت الحي أو المغيب الحاضر بمعناه المكاني والمتصور بعبارات مثل (أتألم في قلبي كل يوم وأنا أراقب موت شجرة الفل، زرعت بجانبها نباتا آخر بدا ينمو يكبر ليستلق خشب الشجرة اليابسة).
وهنا يبدأ التعويض ليس الموت أي بقاء الجسد اليابس ومن حوله متسلقا نباتا شابا، وللنظر إلى ثبات شاخ ومات، لكنه بقي شامخا ونباتا نما شاب متسلقا حول وليس بجانب، وهذا المقطع إشارة إلي المتعلق المستقبلي والتشوق المشروع في تحويل رحم المرأة إلى منتج وذلك بتحويل الموت إلى الانبعاث عبر البحث عن علاقة مشروعة أي الرجل المنتظر ليشكل مع الأنثى علاقة إنتاج مغايرة.
(كحجر يرمي في بحيرة ركدت منذ زمن) أكلت نفسها فهي جملة تشير إلى وصول صوت الرجل عبر الرسالة المرسلة إليها، حيث تتواءم جمل مثل أكدت لي هذا، (فبينما كنت أسقي كعادتي في كل صباح لفت انتباهي أني أرى ما يشبه رؤوس دبابيس خضراء تلمع على ساق تلك الشجرة اليابسة).
وهذا اقترن بحضور صوت الرجل المغيب وهو دلالة على البحث الدائم والدائب لاستكمال طرفي ثنائية العطاء وما أكدته الراوية في سياق النص لهو إعلان صريح ومباشر على معتقد لم يضمره النص( شجرة الفل ماتت مع رحيل رجل وها هي تحيا مع قدوم رجل آخر) هذه الإشارات لمت شكل عبئا جاهزا داخل النص بل هي جزء من حيثيات فكرته وانسيابها في نمو مداخلات إشكالية كهذه وما كان من مجريات اللقاء به إلا الدليل على البحث على صفات معينة أكدتها الراوية فإن ذكرها يؤكد حقيقتين أولهما شروط وخصائص الرجل وثانيهما تعلقها به دون الإشارة إلى ذلك وكالآتي:
(اضطرب في داخلي شيء عندما التقت عيوننا، فقد لمحت القوة والجرأة فيهما) وهنا واضح أمر الانتظار والتشوق والتعلق اللاحق له ثم ( مشينا معا جديدة يدعوني للجلوس فجلست وجلس بقربي لم أشعر بالغربة قط، ولا هو وكأننا نعرف بعضنا منذ ألف عام).(رجل ذكي تبدو عليه إمارات الطيبة والنبل وتمتع بحضور طاغ وشخصية آسرة جذابة).(واكتشفنا ما نحن إلا وجهان لعملة واحدة).
وتميز ذلك بالكثير لكن ما تؤكده أن هذه الخصائص كانت من متعلقات ذهن الراوية وتشوقها وهي مرتبطة جدليا بالمثل من الخصائص عند الأب فالاكتمال في نظر الفتاة كان قد توفر عليه الأب المفقود واستعاد هذه الصفات والخصائص في الرجل الحاضر، لذا فإن موازين الترقب والاختيار تمت على قياس خصائص الأب وما الإشارة إلى ألف عام، ألا أولاً: المتعلق التاريخي الدال علي صفات الإنسان المكتمل روحيا. وثانيا: تمثل ذلك في صورة الأب والخلاصة هو حضور البديل المثل، من هذا المنطلق تحققت ثنائية الذكورة والأنوثة ليس من باب التناصر والسلطوية بل من باب اجتماع الصفات والتكميل والاكتمال.
ويبقى لا بد من الإشارة إلى أن النص في فضائه الفتي اعتمد على التقطيع والسيناريو ليس من باب المقاطع المنفصلة بل من رؤية الافتعال بين الأزمنة بسببه الحسي حيث لم يخل يجري النص فالقاصة اختارت لنصها أسلوبا سهلا ومناسبا ولغة شفافة تنم عن تشبع روحي، أما الشكل العام فإنه بين وجدانه على متوالية حديثة منها ذهنية وأخرى واقعية.
AZZAMAN NEWSPAPER --- Issue 1634 --- Date 13/10/2003
جريدة (الزمان) --- العدد 1634 --- التاريخ 2003 - 10 -13