حكاية أسمها الحرب .. حكاية أسمها الحب
قراءة في رواية " عجلة النار " لكُليزار أنور
نقد : فخري أمين
بخلاف إيحائية عنوانها الناري ، لم تشغل الحرب في بنية الرواية الزمنية سوى لحظة واحدة / مدخل : لم تتردد أصوات الانفجارات في أجوائها ، ولم يحمل هواءها روائح وأدخنة الحرائق ، ولم يشق فضاءاتها الرعب المعدني لعواء صفارات الإنذار ، كانت الحرب مزاحة تماماً خارج السياق الزمني للرواية ، حدثاً من أحداث الماضي ، إلاّ أن حضورها كان كثيفاً ، خانقاً ، حسياً ، وبصرياً ، ومكانياً ، تجسد في الآثار والنتائج المدمرة التي غيرت شكل الحياة ، على نحو كارثي ، كانت أشبه بفاصلة زمنية من خراب وغياب ودم بين حقبتين متمايزتين من تاريخ البلاد .. حقبة الاستقرار والتفتح والبناء والآمال والعقل ( السبعينات ) وحقبة الخطابات العاطفية الحماسية ، واستشراء الدمار واليأس والهروب والخوف من حروب قادمة ( التسعينات ) . ربما صادفت الكاتبة الكثير من النجاح في التعبير عن هذه الفاصلة الزمنية بتوظيفها للـ ( الكوما ) التي كانت أصابت ( البطل ) شخصية الرواية المحورية ( راغب عبد السلام ) في عبور واختزال سنوات الحروب ، بكل ما رافقها وما نتج عنها من تعقيدات وآلام وفواجع .. الكوما التي مثلت شكلاً من أشكال الغياب ، أو العيش في الحد الفاصل بين الحياة والموت والوعي وغياب الوعي الناتج عن صدمة إعدام مجموعته من قِبل الإيرانيين بالنسبة لراغب ، لكنها أيضاً لخصت مأساة الشعب العراقي الذي تعرض _ في الممارسة اليومية للحرب _ لأشكال أخرى كثيرة من الكوما : التغييب القسري كالوقوع في الأسر ، أو الاختفاء في السجون ، أو الخدمة في مواقع الجيش النائية ، أو الجري دون وعي وراء منطق ومتطلبات استمرار الحرب .. إن الكوما حالة أصابت المجتمع العراقي بأسره في ظل الحروب . وبهذا المعنى يتحول راغب ، بسبب تكرارية تجربة الغياب الفردية والمجتمعية ، وفق المنطق الإحصائي _ وبِغَض النظر عن تعدد الأسباب المفضية إليه _ إلى حالة تكاد أن تكون عامة في مدلولاتها الوطنية . ووقت يستعيد راغب وعيه ، ويفيق من حالة الكوما ، كانت الحروب قد انتهت ، لكن الواقع الذي نتج عنها كان مثقلاً بالجراح والمخاوف والأسئلة الناتئة .. إنها ذات اللحظة التي واجهها المُسرح من الجيش ، بعد ما يزيد على العقد من الغياب في غمار حروب عبثية .. والعائد من الأسر الطويل ، ذات اللحظة الصفر الصادمة ، القاسية .. لحظة وقوف ( راغب ) خاوياً متفكراً : كيف يبدأ ؟! وهل ثمة متسع في العمر لبدء جديد ؟ وهل بالإمكان تعويض سنوات عمر واحد لا يتكرر ؟ ربما كان استمرار الحروب نوعاً من حل ، ربما كان الموت !! ووقت يغادر المشفى رفقة أخيه مصطفى .. يفاجأ بذهابهم إلى بيتٍ آخر ، يتساءل مفجوعاً : أينَ بيتنا ..؟! ثم تتوالى فقداناته التي سلبتها منه الحروب .. ليسَ البيت _ وحده _ الذي دمره صاروخ فقط .. ثمة أُمه ، خطيبته ، معظم أصدقاؤه ، أخته حنان التي هاجرت ، معالم المدينة التي ارتبطت بطفولته ، ذكريات صباه ، سنوات عمره ، منظومة قيم مجتمعه ، العديد من الشخصيات والرموز التي سحقها طوفان الحروب القاسي . وفي لحظة تراءى لنا أن الموت كان أرحم به من كل هاتهِ العذابات والفقدانات التي يصادفها أينما ذهب .. لقد تبدل طعم الحياة عنده إلى مرارة لا تطاق .. وامتلأت أيامه بظلمات اليأس الكثيفة !!
وبمصادفة عجيبة _ كتلك التي تحدث في الروايات الرومانتيكية _ يلتقي بها .. بينما كان منهمكاً بزراعة بعض بويصلات النرجس على قبر أُمه _ الذي أصبحت زياراته عادة يومية ، نوعاً من عزاء ، يبثها خلالها بعض أحزانه وأشجانه الكثيرة _ إذ " صوت ناعم يصافح أُذني ، استدرت .. واجهني وجه بريء ، صافٍ .. قالت بصوت خجل : إنا لله وإنا إليه راجعون . لست الوحيد المفجوع في هذه الدنيا .. لو نظرت قليلاً حولك ستجد الكثيرين ممن يحملون نفس ألمك .. أنا كذلك وهذه أُمي جارة أُمك " ص 38 . إنها ( روزين محمد ) .. هكذا بين وحشة المقابر ، ووسط دموع الأحزان وشموع التذكارات الأليمة .. يولد حب .. تباركه روحيّ أُمه و أُمها ( هل ثمة اتصالية ما .. ؟! ) . وتضيء نجمة أسداف الظلمات الكالحة التي تحت وطأتها ترزح أيام راغب منذ استفاقته من الكوما حتى تلك اللحظة الرائعة … فقد أحدث ذلك اللقاء تحولاً في مسارات الحدث الروائي ذاته .. واقتربت تلك النجمة لتغدو شمساً تملأ عالم راغب بكل جماليات الرومانس ، و إشراقات و أغنيات الحلم . كل الأحداث اللاحقة في الرواية والمصادفات وظفت لخدمة هذا الحب .. سقوط المطر بعد تأخر ، ولادة فاتن _ زوجة أخيه _ لطفلة أسمتها زينب على اسم أمه ، اكتشاف أن مصطفى _ شقيق راغب _ كان كاتباً قصصياً بارزاً ، وانه صديق لشقيق روزين الفنان التشكيلي ألند . وكما في كل الحكايات الرومانسية ، فإن طريق هذا الحب إلى نهايته السعيدة المقررة روائياً ينفرش بالعشب والأزهار والقصائد .. لقد تحولت كل البشاعات التي أورثتها الحرب للواقع إلى مرئيات جميلة تفيض بالحب والطيبة على كل ما يحيطها من أشياء ، فالبشر طيبون مثقفون ملائكيون ، لا يشوبهم شر ، ولا تداخلهم مصلحة أو أنانية .. والعالم في الرواية أجمل ألف مرة مما هو في الواقع ، وفق منطق ذاتي ، مزاجي ، يحول الواقع الخارجي إلى مجرد إكسسوار ، ديكور أو خلفية بعيدة .
تمتلئ الرواية بالكثير من المصادفات التعويضية لفقدانات لا تعوض .. فيجد الدكتور فوزي في راغب تعويضاً عن ولده الوحيد الذي أعدمه الإيرانيون ، وصادف أن كان معه في ذات الوحدة ، فيتفرغ للعناية به فترة الكوما حتى وفاته .. ويجد راغب في حبيبته روزين تعويضاً عن خطيبته وفاء _ مَن يعوض سنوات عمره ؟ وكم كان سيخلف لو أنه تزوج من وفاء قبل اثنتي عشر سنة ؟ _ وحين تضع فاتن مولودتها يسمونها زينب في مسعى للتعويض عن أمه المتوفاة بقصف صاروخي .. وحتى راغب الصغير كان تعويضاً عن راغب _ بطل الرواية _ لكنه تحول الآن إلى امتداد له .. وحين يزور بيت صديقه ، يفاجأ بأنه قد قتل في الحرب الأخيرة ، تخبره أم صديقه بصوت دامع حين تراه : كأن مروان عاد !
حافظت الرواية على تقاليد السرد الواقعي ، ولم تحاول أن تكسر الأنماط والأنساق البنيوية والزمنية للبنية الروائية ، فقد اتخذ الزمن خطاً مستقيماً ، يجعل التنبؤ بما سيحدث ممكناً . وهناك ثمة علاقات لفظية وظفتها المؤلفة بشاكلة تجسد روح العداء للحرب ، فبطل الرواية ( راغب عبد السلام ) وحبيبته روزين _ أي _ ( درب الحياة ) يكون حاصل اجتماعهما .. الراغب في درب الحياة العابد للسلام .
ثمة الكثير من الأعمال الأدبية كتبها رجال عن أو بصوت نسوي ، تفاوت قدراتهم في التعبير أو التقمص .. في هذه الرواية يحدث العكس ، إذ تكتب امرأة عن أو بصوت رجل ، وهذه تجربة تحتاج إلى دراسة مستقلة ، لكن لحظات الغزل عبر الرواية اتخذت اتجاهاً واحداً وثابتاً ، موظفة _ المؤلفة _ قدراتها الشعرية الأنثوية الواضحة لصالح صوت الرجل راغب ، وكانت روزين تتلقى ذلك الغزل بصمت وخفر لا يتسقان وثقافتها ووضعها الاجتماعي .
وإذا كنا نظرنا إلى راغب عبد السلام كحالة متكررة في المجتمع العراقي ، أو كنموذج ، هل كان استئناف الحياة بعد حربين مدمرتين ممكناً بهذه البساطة ؟ إن متناقضات البنية التي نتجت عن الحروب ، كانت على درجة كبيرة من القسوة والصعوبة والفظاعة والتعقيد ، ما يجعل مهمة البدء من جديد عملاً يحتاج إلى قدر من البطولة لم يتوفر في راغب !
ومهما يكن .. فقد قدمت لنا كُليزار رواية حب رومانسية من طراز جميل ، تدور أحداثها وسط الخراب المادي والنفسي لفترة ما بعد الحروب ، وربما تعمدت الاشتغال في روايتها على ( الحب ) ذلك الدائم والإنساني والنبيل .. ربما أرادت به انتشال الإنسان العراقي من براثن الواقع المتقلب ، المادي ، النفعي ، القاسي .. أو سعت عبره لإعادة التوازن للحياة في مقابل الحقد واليأس والقبح والبشاعة .. ربما كان بطلها رجلاً عادياً بلا بطولة ، ولكن تكفيه بطولة استئناف الحياة وسط الجحيم ، والخروج من وحشة عزلته وعتمات المقبرة التي ترقد فيها أمه ، ليقول : إن البدء لازم وضروري ومهما كانت الظروف .
في رواية " عجلة النار " مدلولات وعلاقات نبيلة وطنياً وإنسانياً ، فراغب عبد السلام العربي ابن بغداد ، يحب ويتزوج روزين محمد ابنة العمادية .. يوحدهما ذلك الشعور بالانتماء إلى بلد واحد ضمن جغرافية ثقافية وحضارية مشتركة ، موغلة في القِدم . ووقت اقترابهما من بوابة بغداد عائدين من شهر العسل في العمادية ومصايف الشمال ، يقول راغب : " تنفست ملء صدري ما أن دخلنا بوابة بغداد . دمعت عيناي بالشوق .. بغداد .. القلب ! رغم الحرب ، ورغم الحصار .. إلاّ إن الحياة هنا .. في بغداد .. أغنى وأدفأ وأكثر سحراً ! " ص 129 .
تتسع شخصية الكاتبة كُليزار أنور .. هويتها القومية ، ونتاجها القصصي لمحمولات ترمز وتشير على الدوام إلى وحدة الانتماء الوطني والحضاري والإنساني .. وهي وإن كانت لا تشكل في هذا السياق فرادة لوحدها ، إلاّ أنها متميزة في جدل رؤيتها الممتدة عميقاً وسحيقاً في التاريخ الحضاري للبلاد والمنطقة .. وبناء عليه أرشحها ككاتبة وإنسانة ( رمزاً ) للوحدة الوطنية المتعالية على الأنانيات العابرة والمؤقتة
|