بُثينة الناصري في وطن آخر


بُثينة الناصري في (( وطن آخر ))


 كُليزار أنور

 

 قاصّة غنية عن التعريف ، ويكفيها لو قلنا .. انها تُشكل أحد الرموز المهمة على خارطة إبداع القصة العراقية .
 (( وطن آخر )) . رابع مجموعة تصدر لها بعد ثلاث مجاميع قصصية صدرت لها في بغداد . الأولى (( حدوة حصان )) عام 1974 .. والثانية (( موت إله البحر )) عام 1977 .. والثالثة (( فتى السردين المعلّب )) عام 1990 .

 عندما أمطرت الحرب بويلاتها على ذاك البلد الذي نشأت على أرضهِ أقدم الحضارات .. فكر بعض الناس بالرحيل بحثاً عن وطنٍ آخر ليكون بديلاً عن وطنهم ! وإن علموا أو لم يعلموا بأنهم مهما ابتعدوا عنه ، فهو ساكن في الأعماق ويجري كالدماء في الشرايين . العراق .. عصيٌّ على الغياب !
 ورغم أن أغلب قصص المجموعة يسيطر عليها الواقع – أو النَفَس – المصري . شيء طبيعي .. انهُ التعايش ، فالقاصّة مقيمة في القاهرة منذ أكثر من عقدٍ من الزمان ! إلاّ انها استطاعت أن تجسد لنا المعنى الدقيق لتلك النظرية التي تؤكد بأننا كلما ابتعدنا اقتربنا أكثر !
 في قصص هذهِ المجموعة عواطف إنسانية بحتة بكل ما فيها من زخم وعنف وتفرد خاص نابض بالحياة .


* (( ميلاد )) .
 قصة لها بعدها الفلسفي لمرادفين معاكسين لسُنة الحياة على هذهِ الأرض( الموت والميلاد). تترجم انطفاء الروح من جسد لتنبض في جسد آخر لم يخرج من رحم أُمهِ بعد ! 


• (( حكاية سماح )) .
كلما تمدن المجتمع حدد نسله . لكن – مع الأسف – في مصر –بالذات – وأغلب الدول
العربية يبدو مازال الأمر خارج حدود التمدن !
  وسماح .. هي طفلة في الرابعة من عمرها ، من بين عشرة أطفال ، تعودت مثل اخوتها أن ترعى شؤونها بنفسها .. وكيف لطفلةٍ في مثل هذا العمر أن ترعى شؤونها ؟! فالأب بواب غائب لكثرة طلبات سكان العمارة ، والأُم غائبة أيضاً للخدمة لتشارك الأب متطلبات المعيشة الصعبة .
  وفي لحظات الغياب يلتهم الشارع سماح ، فتغادر الحياة إلى غير رجعة !

 

• (( أحلام عنتر )) .
حصان يحكي تاريخ حياته منذ أن خطفت عيناه بريق الأضواء في السيرك الذي ولد فيه إلى أن انتهى به الأمر وهو يجر عربة خضار كأي حمارٍ بائس !

 

• (( وطن آخر )) .
إحدى أجمل قصص المجموعة . توجتها القاصّة إطاراً متميزاً وهادفاً ومقصوداً لسبعة عشر قصة .
(( هذهِ حكاية فتى ظنّ يوماً أنه يستطيع أن يبحث عن وطنٍ آخر .. فباع أشياءه وطوَّح على كتفهِ بحقيبةِ سفرٍ لم تتسع إلاّ لذكرياتٍ صغيرة مثل رائحة الأرض بعد المطر ، ومذاق الماء بطلع النخيل ، ونكهة شاي الفحم ولون خضرة الآس يجلله الندى . أغلق باب بيته في بغداد وراح يدق على باب العالم .. )) ص 21 .
ويصل إلى لندن .. ربما يتزوج من صاحبة المنزل – امرأة في الأربعين من عمرها – عندما لا يستطيع دفع الإيجار .
يقصد حسين صديق طفولته الذي أعطاه العنوان .. وحين يصل لم يجده ، لأنه قد غادر العنوان .. يشعر بخيبة أمل كبيرة ، فها هو يفقد صديقه مرة أخرى وإلى الأبد .
وتتدخل القاصّة لإعادة النظر في سرد أحداث القصة احتجاجاً من بطل القصة على هذه النهاية . 
وتُغيّر الأحداث ، وتفترض بأن حسين لم يغادر وبأنهُ وصل فعلاً إلى العنوان الصحيح . ويتفاجأ أن يطالبه بالعودة قبل أن يفوت الأوان ويخسر نفسه ، فهو لم يعد حسين ذاك الشاعر الرقيق ، الطموح ، السعيد .. بل مجرد زوج لامرأة إنكليزية وأب لفتاتين لا تتكلمان العربية !
ربما هذا الفتى هو حسين نفسهُ ! وكم من حسينٍ يتكرر – كل يوم – في بلاد الغربة ؟!

 

• (( زينب تتذكر )) .
زينب مصرية تزوجت من طالبٍ عراقي .. ويأخذها إلى البصرة عائداً إلى وطنه وأهله قبل الحرب بسنتين .
تقصد- القاصّة – حرب الخليج الأولى ! يا لمأساتنا .. حتى الحرب في بلادنا لم تتمدن ولم تحدد نسلها ، بل تحولت إلى " مؤسسة التناسل الحربية " فكانت الأولى والثانية والثالثة !!!
عُذراً لهذا الخروج .. ولنعد إلى القصة .
تتغزل زينب بذكرياتها ضاحكة عن البصرة والحرب ومعايشة العراقيين وطيبتهم . كانت أصيلة ، فاندمجت بالحياة العراقية .. ولبست العباءة مثل كل البصريات . ورُزقت بثلاثة أولاد ( عماد ورجاء وأمل ) . (( عماد .. فهو نسخة طبق الأصل من أبيه في حركاته وكبريائه الشديد وعناده ، وهو يصر على أن يحتفظ في غرفته بالعلم الكبير الذي جاء أبوه ملفوفاً به . )) ص 58 .

 

• (( دجاجة عمر )) .
القصة مهداة لعمر .. ابن القاصّة الذي يعيش في بغداد مع جدته .
كان عمر يفتخر – رغم الحصار – بأن له دجاجة تبيض كل يوم بيضة . وذات يوم خطفها كلب .. وعبر ملاحقة طويلة تخلى عنها ، لكن بعد أن شارفت على الموت . لم يهن عليه ذبحها .. فربما تعيش ! يداويها ويداريها ولا ينام الليل قلقاً عليها .
تعلّقٌ ليسَ بالغريب ، فالحب .. هو الحب .. إن كان لإنسان أو حيوان أو حتى لجماد .. لن يختلف المعنى !

 

• (( الجندي والصغير )) .
الحرب طالت كل شيء فينا .. ورسمت لها منهجاً في تفكيرنا . حتى الطفل عندما يلعب ، فانهُ يختار – وبشكل لا إرادي – " لعبة الحرب " !
جندي عائد من الجبهة ، وقبل أن يصل مشارف القرية يستريح من تعب الطريق . هناك طفل يلعب مع كلبه خلف أشجار الدفلى . يتذكر الجندي – وهو مستلقي على العشب – أيام طفولته وشقاوته ونصائح أُمه . ويسمع خشخشة بين الأشجار .. يضغط على الزناد ظناً بأنه أحد الأعداء . ويقتل كلب الطفل .. يجهش بالبكاء .. ينهره الجندي بالرجوع إلى البيت . ويستسلم الولد للقدر ، لكن دون أن يترك كلبه . يتعاطف معه الجندي ويقرر أن يدفنه .
(( سأله الجندي وهما يغذّان الخطى باتجاه البيوت البعيدة : " ماذا كنت تلعب ؟ " .
  _ لعبة الحرب .
  _ نستطيع إذن أن نقول أيها الصغير أن الرصاص أخطأنا هذهِ المرة .. وإننا أنا وأنت رجعنا من الحرب سالميْن . )) ص 97 .


*          *          *


  في النهاية نخرج بنتيجة حتمية بأن للقاصّة بُثينة الناصري هوية خاصة بها .. ونكهة مميزة .. إنها _ باختصار _ تغزل فنها بمهارة !

------- -------------------------------------------
• " وطن آخر " . مجموعة قصصية للقاصة بُثينة الناصري .. صادرة عن دار سيناء للنشر / القاهرة / 1994 .

www.postpoems.com/members/gulizaranwar

 

View gulizaranwar's Full Portfolio