جنازات الظل

قصة قصيرة      جنازات الظل                بيات محمد مرعي

شيء من الحلم ... شيء من النوم .....

في ذلك الجسد الأسير في سرير الليلة الماضية ... شمعة مجاورة أضربت عن عملها قبل ساعة ، فأحدثت في الحجرة شعائر للعفاريت ... مد أطرافه في عمق مجهول وتحركت خطواته بتأن كبير ، والجسد يسترجع في ذاكرته بعضا مما مسحته الظلمة ...

كانت حركته وطفيف ثيابه يبعثان الاضطراب في ذلك السكون الذي خط لفافة على الأشياء كلها ... ثقل الجسد المعقبة بالعتاقة ... وتمثال الحصان البرونزي الجامح ... وأوراق آخر قصائد الهجاء على طاولة خشب (( الجام )) مخنوقة برائحة دخان السكائر ... حشرجات المذياع القديم الموزعة بنسق عجيب .. مع انطفاء بريق المرآة المدورة التي اخفت صورا كثيرا لأجل غير معروف أو موعد مجيء الضوء في لحظة ما ... وأقداح بقايا الشاي البارد لأصدقاء ذهبوا بعد أن شع التعب في عيونهم الساهرة طويلا ... صوت المطر القادم من بعيد ...

تلمس الحائط وهو يستند إليه بخطوته المبعثرة على مسالكها المتوهمة القصد بحثا عن مقبض باب الحجرة التائه في احد الجدران المطلية بالسواد ... انتفضت تكتكات الساعة الجدارية العملاقة وهي تعوم دون توجس في ذلك العمق المظلم ...

لم يعد للوقت والمكان هوية ... فانتصبت مجساته في صيرورة التوقعات والحدس ... يصدم الجسد نفسه بأشياء عدة فيثير ارتباكة معلنةً ، تقلق أحفاد العفاريت في مهرجان كيدهم ، فيسقط على ارض باردة ... يتثاقل في نهوضه ليستسلم لعربيد كابوس الامس ... حين طارده ذلك الرجل الملمع زيه العسكري في دروب يجهل انعطافاتها ... جرى خلفه كأنه جواد صاهل ... حتى امسك به وأمطره ضربا بالعصي كي لا يخفي في رأسه من الأسرار شيئا أو من شهوة التيوس في فراش ظهير ته المؤججة بالرجولة ... حين أراد أن يتذوق جسد الحبيبة العذب ، في تاملاته المشروعة ... تشظى الحلم مثل قنبلة منتقمة ... فتاة عارية ... وأرصفة منقوعة بالمطر ... / شبق الذئب / ... فراش غجرية طافح بالزبد / ... أناشيد الطفولة والفزع / ... أشرعة زورق في بحر ينكسر على سطحه الضوء / ... الفصيل الأول المدرع / ... و ... / إنها مجرد صور مبعثرة اختلسها الجسد من حلم كبير ، سلبت راحة الوسادة ... بعدها خفت أديم الحلم ... ونهض الجسد بقامته محملا بالقلق والخوف باحثا عن مقبض الباب من جديد ...

يمسك به فيديره ليطرد رائحة الدخان ويكسر الظلمة بسيف الضوء القادم تواً .../ ساعة الجدار تشهر عقاربها وتطلق سرج الوقت ... تشابكت أقدام الجسد بقدمي ظله الذي تسلق الجدار الأبيض المطعون بعشرات المسامير ... جاءت حركته مسرعة مثل متزلق الجليد دون أن تخدشه تلك الرؤوس الحديدية البارزة ...

أدرك الجسد لعبة المطاردة /... نظر جانبا / ... ضربت حوافر حصانه البرونزي الأرض بقوة كي يلاحق الظل المهزوم ... اندفع نحو جدار أخر ... فتح نافذته المطلة على البحر الهائج ... لم يبصر طريق هروبه تحت ضوء القمر الذي ما زال يرقب تحركانهما ... أشعل عود ثقاب كي يلتمس الوضوح المدفون في كتلة الظلام ... إلا أن الرياح المتكاثفة اطفاتها فجأة ... لتنغمس الملاحقات الطويلة في رمال ناعمة ... ويلهث الجسد باحثا عن بصيص أمل جديد ... قابعا مستسلما في انتظار حدوث شيء ما ، لكنه تحاشيا لطعنات ظله التي اعتاد عليها من زمن بعيد ... منذ أن اقر الفلك خطيئة الأخوين الأولى علـى ترس الأنوثة والدنس ساعة زحفت العفاريت على أفخاذها تجر سيرة الجسد والظل ... حيث اتفقا على شهر السلاح وجها لوجه ... منذ أن كان الظل ، الشرطي نفسه الموشح في الكابوس لحظة المطاردة ... محاولا التخلص من التحامه به ... لكن غليان الخصم يزداد حجما كلما أطال الشعاع خيوطه في حجرة تأملات الجسد وملكة سكونه ... اخذ يدور مسرعا في حجرته العتيقة المتصدئة الجدران مثل طفح على ظهر سلحفاة ، لكن الظل بتابع شعائره في ملاحقته منذ فصول عديدة ملطخة بالذكريات ... ليظهر في المرآة ماردا ... ووحشا ... كأنه كبير العفاريت ... منذ سبعة عشر عاما وهو يشد الرحال وراءه ويظهر له في كل شيء ... في نومه ... أكله وشربه ... في شعره وخياله ... في عشقه وهجرانه ... في ملبسه وشروده داخل عقله ودمه وتحت شهيقه وزفيره ... بين رحلاته وصراخه ... حتى في كفنه المغمس بالعطر...

أزفت الساعة ... ومازال الجسد الهارب مسرعا تتعثر به الخطوات ليعود متعبا إلى سريره الثائر بالطقطقات ، يجلس باعتكاف الذكريات للجنس وشدو موسيقاه ، ثم يستلقي على وسادة أثداء الملذات التي أودعتها الحبيبة المهاجرة في جعبتها البيضاء ... دون جدوى ...

(( فالسرج المذهب لا يجعل من الحمار حصانا )) وتاج القيصر لا يحميه من آلام الرأس ... فالمطارد يطارده ، يشد الخناق لحظة بعد أخرى.. يغرس مخالبه في رغباته الجامحة ... ثم يلد ظلالا تلد ظلالا ... في صورة شرطي عتيد يحدث ألماً في الرأس ... ويثير التقيؤ ... يفتح جرحا نزيفنا عميقا ... يحرق الهجاء ... ويسرج الحصان ، ثم يذيع النبأ في المذياع القديم ... يتشبع الجنازات ...

يدور الجسد في حشرجات الحجرة وهو منهك حد العياء ... يسقط أرضا يحاول أن يقترب من باب الحجرة زاحفا ... ليغلقه ... تطول المسافات على ذاتها ...

صار الوقت صمتا ((يضحك مع نفسه )) وهو يهذي ... ..

- إننا متشابهان ومتقاربان جدا

ويبدو إننا أحببنا بعضنا ... يا للمصادفة ...

رغم انني ولدت من دم ... وأنت من عفاريت((يضحك مع نفسه)) يحاول النهوض من جديد ... يلتحق بمرآته المتمردة ... ينظر في عمقها ليجد صورته  دون شائبة ... يلتفت إلى زاوية من الحجرة ... وببلادة متواضعة يقف الظل على سفح الجدار ، بوجه كئيب يرنو إلى الأسفل بوجوم ... يضرب الجسد رأسه منتحرا مهشما صورة المرآة ... ينفرد الضوء المتألق في الحجرة التي دفعت الريح بابها ... يسقط الجسد ميتا والظل ((الشرطي نفسه)) مكتفيـاً بإلقاء نظرته الراصدة ... وعفـاريت المهرجان أنهت ما جمعتـه مـن رائحة جثة متفسخة ....

View bayat's Full Portfolio