الإنسان عقل وروح وفكر ومعتقد /9
القول الثالث هو ان الأحرف السبعة هي سبعة من وجوه اختلاف القراءات والذين ذهبوا هذا المذهب عمدوا إلى وجوه القراءات المنقولة صحيحها وشاذها وحاولوا تصنيف تلك الوجوه في سبعة أبواب أو أنواع وجعلوا كل باب أو نوع يقابل أحد الأحرف السبعة
وكان ابن قتيبة من أوائل من حاولوا تصنيف وجوه القراءات على هذا النحو
وقال في كتابة ( تأويل مشكل القران ) وقد تدبرت وجوه الخلاف في القراءات فوجدتها سبعة اوجة
واقتفى كثير من العلماء الذين جاءوا بعد ابن قتيبة منهجه هذ مع اختلافات يسيرة في طريقة التصنيف أو في الأمثلة منها
الوجه الأول : إبدال لفظ بلفظ أخر بمنزلتة ومعناه كقراءة ابن مسعود زقيه والصوف مكان صيحة والعهن
الوجه الثاني : إبدال حرف بحرف بمنزلتة كقراءة الصراط بالصاد والسين والنخل باسقات (60 ق ) قرئت بالصاد
وقولة تعالى (0 وإذا الرسل اقتت )) (1 المرسلات ) قرئت وقتت
الوجه الثالث : تقديم وتأخير إما في كلمة نحو (0لا ينال عهدي الظلمين )) 124 البقرة وهى قراءة العامة وقرئت أيضا الظالمون
إما في الحروف نحو (بعذاب بئيس )) 165 الأعراف وقرئت بيأس
الوجه الرابع : زيادة حرف أو نقصانه مثل قولة تعالى (( ما اغني عني مالية هلك عني سلطانية )9 28-29 الحاقة
قرئت : إسقاط هاء السكت
الوجه الخامس : اختلاف حركات البناء
الوجه السادس : اختلاف حركة الإعراب قال تعالى (( ما هذا بشرا)) 31 يوسف
ابن مسعود على لغة هذيل (ما هذا بشر )
الوجه السابع : اختلاف النطق بالتفخيم أو الترقيق والإمالة أو الفتح والإظهار والإدغام
وهذه الوجوه السبعة التي حصل عليها قولة (ص ) 0ان هذا القران انزل على سبعة أحرف ) لم يتفق القائلون بهذا القول فربما عرضها بعضهم على غير هذا النحو
حتى كثرت وتعددت محاولات العلماء وهم بصدد تصنيف القراءات المأثورة لتكون على وفق العدد المذكور في الحديث
وهذه المحاولات لتصنيف القراءات في سبعة وجوه لا تستند الى دليل ثابت ومن ثم اختلفت طريقة التصنيف باختلاف العلماء ثم ان حصر تلك الوجوه في سبعة ما هو إلا تحكم محض ليكون العدد موافقا لما جاء في الحديث إذ يمكن ان تكون تلك الوجوه دون ذلك العدد أو أكثر منة
أبو شامة / المرشد الوجيز ص 113
ان الجزري / د1 ص 26
القسطلاني / لطائف الإشارات ج 1 ص 38
أبو بكر البقلاني / نكت الانتصار ص 120
ولهذا قال أبو شامة المقدسي ( وهذه الطرق المذكورة في بيان وجود السبعة الأحرف في هذه القراءات المشهورة كلها ضعيفة إذا لا دليل على تعين ما عينة كل واحد
ومن الممكن تعين ما لم يعينوا ثم لم يحصل حصر جميع القراءات فيما ذكروه من الضوابط من الدليل على جعل ما ذكروه ما دخل في ضابطهم من جملة الأحرف السبعة دون ما لم يدخل في ضابطهم )
تلك خلاصة ما قاله علماء السلف في معنى الأحرف السبعة وإذا كانوا لم يتفقوا على تفسير للحديث النبوي الشريف فإننا يمكن في الواقع ان نستفيد من أقوالهم كلها لنصل إلى فهم مناسب للحديث وللظروف التي قيل فيها وللغاية التي حققه فمما لا شك فيه إن لغات العرب وقت نزول القران كانت متباينة ونزول القران بلغة قريش وتلاوته بتلك اللغة لا يتيسر للعرب من غير قريش وأهل مكة بسهولة فكان تعدد لغات العرب سببا في وجود رخصة الأحرف السبعة التي جاءت تيسر للسبيل إمام العرب من المسلمين ليتمكنوا من تعلم القران وقراءته
ينبغي إن نشير هنا إلى إن ما تسمح بة رخصة الأحرف السبعة محدود بوقت معين
قال أبو جعفر الطحاوي
( وان تلك السبعة إنما كانت في وقت خاص لضرورة دعت إلى ذلك )
إما الأجيال التالية للصحابة فليس لها إلا إتباع القراءة المأثورة عنهم سواء اكان ذلك بالنسبة للمسلم العربي او غير هم
إما علاقة المصحف برخصة الأحرف السبعة فهي إن المصاحف التي هي بأيدي الناس اليوم مطبوعة او مخطوطة هي المصاحف نفسها التي في خلافة عثمان (رض ) في المدينة وأرسلت إلى الأمصار وعرفت باسم المصاحف العثمانية نسبة إلى الخليفة عثمان الذي أمر بنسخها وإرساله إلى الأمصار
وهى منقولة من الصحف التي جمع فيها زيد بن ثابت القران في خلافة أبي بكر الصديق (رض ) عن القطع التي كتب عليها القران في حياة الرسول (ص ) تشمل وجوها من النطق نتيجة رخصة الأحرف السبعة
وقد تسال علماء السلف إلى أي حد انعكست اثأر تلك الرخصة على كتابة القران سواء في حياته (ص ) أو في خلافة الراشدين
قال جلال الدين السيوطي ( اختلف هل المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة فذهب جماعات من الفقهاء والقراء والمتكلمين إلى ذلك وبتوا علية أنة لا يجوز على الأمة إن تهمل نقل شئ منها وقد اجمع الصحابة على نقل المصاحف العثمانية من الصحف التي كتبها الصديق واجمعوا على ترك ما سواها وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وائمه المسلمين إلى أنها مشتملة على ما يحتمل رسمها من الأحرف السبعة فقط جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي (ص ) على جبريل متضمنة لها لم تترك حرفا منها )
قال ابن الجزري ( وهذا هو الذي يظهر صوابه )
ومعنى قول علماء السلف إن المصحف مشتمل على جميع الأحرف السبعة أو بعضها هو إن رسم الكلمات جاء ممثلا لوجوه القراءات المعروفة
وكان محمد بن جرير الطبري قد نص على إن المصحف قد كتب على حرف واحد حيث قال (فجعلهم يعني (عثمان ) على حرف واحد وجمعهم على مصحف واحد وحرق ما عدا المصحف الذي جمعهم علية
فاستوثقت له الأمة على ذلك بالطاعة ورأت إن ما فعل من ذلك الرشد والهداية )
فلا قراءة للمسلمين اليوم إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الناصح دون ما عدا ة من الأحرف الستة الباقية
وذهب مكي بن أبي طالب القيسي إلى ما ذهب إلية الطبري من إن المصحف العثماني كتب على حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها القران أي كتب على قراءة واحدة ولتمثيل نطق واحد لكنة يخالف الطبري في إن القراءات التي يحتملها خط المصحف هي جزء من الأحرف السبعة بينما يرى الطبري أنها داخلة في الحرف الذي جمع عثمان الناس علية
وقد قال أبو شامة المقدسي وأحسن القول والحق إن يلخص الأمر في ذلك فيقال المجموع في المصحف هو المتفق على انزالة المقطوع بة وهو ما كتب بأمر النبي (ص ) أو ثبت عنة أنة قرأ
وإما مالم يرسم فهو مما كان جوز القراءة وادن فيه ولما نزل مالم يكن بذلك اللفظ خير بين تعدد الألفاظ توسعة على الناس وتسهيلا عليهم فلما أفضى ذلك إلى ما نقل من الاختلاف والتكثير اختار الصحابة الاقتصار على اللفظ المنزل المأذون في كتابته
وترك الباقي للخوف من غائلته فالمهجور هو مالم يثبت انزالة بل هو من المأذون فيه بحسب ما خف وجرى على ألسنتهم
والقول بان المصحف مكتوب على حرف واحد أو قراءة واحدة لا يناقض قول جمهور علماء السلف بان المصحف مشتمل على ما يحتمل رسمه من الأحرف السبعة فالمصحف في الأصل كتب لتمثيل نطق واحد ثم أنة صار يسبب تجرد الكتابة من النقط والشكل محتملا لأكثر من حرف أو وجه من وجوه القراءات المروية
والخلاصة / هي ان من قال إن المصاحف كتبت على حرف واحد من الأحرف السبعة أي لتمثل قراءة معينة وطريقة في النطق واحدة فمصيب وهو أمر تدل علية الإخبار المنقولة حول نسخ المصاحف
ومن قال ان المصاحف تشتمل على ما يحتمله خطها من الأحرف السبعة فمصيب أيضا
لكن هذا الأمر لم يكن قصد الذين نسخوا المصاحف أولا لأنهم إنما كتبوا القران بحسب نطق النبي (ص) أي لغة قريش
وإنما صارت المصاحف مشتملة على ما يحتمله خطها من وجوه الأحرف بعد ان أرسلت إلى الأمصار الإسلامية
فثبت أهل كل مصر على ما كانوا يقرؤون من قرارات مما يحتمله خط المصحف وتركوا ما خالف الخط وساعدهم على ذلك كون الكتابة مجردة من النقط والشكل فكان ذلك عاملا في حفظ كثير من القرارات التي كان يقرؤها أهل الأمصار كما يتضح ذلك من قول مكي بن أبي طالب (اشرنا إلية أنفا )
وتتوقف صحة القراءة على توفر عدة أركان أشار إليها علماء القراءة منذ وقت مبكر وقد كانت حركة الاختيار في القراءة في القرن الثاني الهجري تستند إلى تلك الشروط أو الأركان هي إن تكون القراءة مروية عن الصحابة أولا وان توافق خط المصحف ثانيا ثم إن يكون للقراءة وجه في العربية ثالثا
وأركان القراءة الصحيحة الثلاثة هذه لم تكن من صنع المتأخرين بل وجد ركن الرواية والنقل من يوم تلقي الصحابة القران الكريم من النبي (ص )
ووجد ركن موافقة الخط من يوم نسخت المصاحف العثمانية وأرسلت إلى الأمصار وكان هذان المقياسان صحة الرواية وموافقة الخط يعملان في توجيه نقل القراءات منذ زمن مبكر قبل إن يبدأ التأليف وتدوين القراءات في كتب
وقبل إن ينظر علماء العربية في اللغة ويعملوا على وضع القواعد ثم برزت بشكل منظم مع بداية التأليف في القراءات
وذكر أبي بكر الانباري إن أبا القاسم بن سلام قد بين اختياره في الوقف على ما رسمت فيه هاء السكت في مثل قولة يتسنة واقتده وحسابية وما هية ( الاختيار عندي في هذا الباب كله الوقوف عليها بالهاء بالتعمد لذلك لأنها إن أدمجت في القراءة مع إثبات الهاء كان خروجا من كلام العرب وان حذفت في الوصل كان خلاف الكتاب فإذا صار قارئها إلى السكت عندها على ثبوت الهاءات اجتمعت له المعاني الثلاثة من إن يكون مصيبا في العربية وموافقا للخط وغير خارج من قراءة القراء وأشار أبو عبيد إلى هذا المعنى في كتابة فضائل القران في باب ( عرض القران )
بقولة قال أبو عبيد وإنما نرى القراء عرضوا القراءة على أهل المعرفة بها ثم تمسكوا بما علموا فيها مخالفة إن يزيفوا عما بين اللوحتين بزيادة أو نقصان ولهذا تركوا سائر القراءات التي تخالف الكتاب ولم يلتفتوا إلى مذاهب العربية فيها إذا خالف ذلك خط المصحف وان كانت العربية فيه اظهر بيانا من الخط ورأوا تتبع حروف المصاحف وحفظها عندهم كالسنن القائمة التي لا يجوز لأحد إن يتعداها )
وقد تحدث العلماء بعد أبي عبيد عن هذه الأركان في كتبهم بعبارات متقاربة فقال مكب بن أبي طالب وهو يتحدث عن أركان القسم الذي تصح فيه القراءة
( وهى إن ينقل عن الثقات إلى النبي (ص ) ويكون وجهة في العربية التي نزل بها القران شائعا موافقا لخط المصحف )
وقد نقل ما قاله مكي في أركان القراءة الصحيحة كل من
علم الدين السخاوي والزركشي وابن حجر
إيضاح الوقف والابتداء ج1 ص 211
فتح الباري ج1 ص 32
الإبانة ص 18 وص 49
جمال القراء ورقة 154 ظ
ثم جاء من انتهى إلية علم القراءات شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد الجزري ( ت 823 هجرية ) فأفاض في بيان تلك الأركان وقال ( كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت احد المصاحف العثمانية ولو احتمالا وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها )
ثم فصل كل ركن من هذه الأركان بما يكشف معناه
وقد قال السيوطي
(وأحسن من تكلم في هذا النوع إمام القراءة في زمانه شيخ شيوخنا أبو الخير الجزري )
وسوف نتحدث عن هذه الأركان لمعرفة حقيقة كل واحد منها وبيان كيفية استخدام هذه الأركان في التميز بين القراءات الصحيحة وغيرها
الأول : الرواية وصحة النقل
المقصود بهذا الركن هو إن تكون القراءة مروية عن واحد أو أكثر من الصحابة الذين سمعوا عن النبي (ص ) وقرؤوا بين يديه وثبوت الرواية مع صحة الإسناد هو أهم ما علق علية العلماء صحة القراءة فلا بد أولا من ثبوت النقل ثم ينظر في توفير الشروط الأخرى بعد ذلك
قال القسطلاني
( الإسناد اعزم مدارات هذا الفن لان القراءات سنة متبعة ونقل محض فلا بد من إثباتها وصحتها ولا طريق إلى ذلك إلا بالإسناد فلهذا توقفت معرفة هذا العلم علية وقد حدوه بأنة الطريق الموصلة إلى القران وهو خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة وسنة بالغة من السنن المؤكدة )
السيوطي / الإتقان ص 213
القسطلاني / لطائف الإشارات ج1 ص 173
ابن الجزري / النشر ج20 ص 358
علي الطائي
28/11/2007