عبد الحليم مهودر في رواية الذلول

الذَلوُلْ
عبد الحليم مهودر
محمد الأحمد
الاقتراب من اسئلة الرواية الخطرة، يبقى هاجساً عصيّاً على كل روائي مقتدر، ممتلئ بأمل تدوين أسئلة الحقيقة التي لا تقبل التحريف والتزوير.. خاصة التي حدثت في مكان حميم غير بعيد، وزمان قريب غير منسي. حضر كمدوّن بين رواة عصره، وأبنائه حرصاً على التسجيل والتوثيق مدركاً يومه الذي لن يدونه الغد كما جرت وقائعه. مؤمنٌ أن الرواية جنساً ادبياً راقياً يُسهم ابداً في تحرير الذات، من كلّ ما يُغرقها بين جمل الاذلال والإقصاء والإبعاد. فالإعتبار الاول لها هو تحرير الكتابة من بطش المُمحى قسراً، كون الكتابة شموع ليل لن تخمد انوارها رياح الرقابة المستبدة. لان اية رواية ستروي الوقائع غير الوقائع المختلقة من الخيال هي رواية ستكون لسيرة مدينة تتطلب من كاتبها تحليل الواقع وتفسيره بكشف المستقبل، فـ(اي تفسير فني للعالم والرؤية كشف جديد لعلاقات خفية، ومن خلال هذا الكشف الجديد تتولد المتعة والتشويق ). وقائع تناقلتها الذاكرة الشفاهية، وتثبتت على انها حقيقة برغم هذا المحب وذاك الكاره. لقد اتخذت الحكايات اشكال المحبين، والكارهين من الرواة، فصاروا هم مؤرخيه بذاكرتهم المليئة بتاريخ مسيرة أعمارهم وأعمار الجيل السابق.. يرجح الرأي القائل: (الرواية العربية تستبدل افق الحرية بقتامة الواقع وقمعيته، وتصنع تحت راية الخيال عوالم موازية وممكنة)، فكينونتهم تريد تثبيت الذاكرة الحقّة لما جرى، فالرواية الحقّة هي ذاكرة حقّة. اسست بنية فوقها مكاناً مستعاداًـ ويبقى ذلك المكان هو اساس الرواية وتجول عليها هويتها المكانية، وجذر عمق التاريخ المسكوت عنه.. المكان المستعاد في الرواية المكتوبة اليوم، هو زمن مستعاد غير مفترض، وفرض استحق التصحيح بحياد لا يميل مهما ثقلت الضغوط.. (تتعثر الكلمات، فالمسميات لم تعد تتطابق مع اسمائها بسبب الهدم، وعلى كاهلي وقعت تصفية الأسماء- الرواية ص 55). فاستحق ايضا بان يستعاد من ذاكرة محايدة، لتسجل مدونة مدينة تغيرت فيها الأسماء وتواصلت عليها تواريخ غير تواريخها، جرفت واجهتها كمدينة، وابتلعها. خاصة بعد أن جرَّف الريف المَدَنيّة وغيرت الحروب الإنسان فأضافت بخرابها تمسيخّاً لعموم إنسانية الإنسان. واضعة لها واجهة اخرى جديدة، من بعد ان غُيّبَتْ اصالتها مستقدمة وجوها غير وجوهها الاصلية لتحكي حكاية غير حكايتها الاصلية.. حكاية مدينة طائفة على سحر المكان، وسحر موروثاته المورفولوجية التي تواصت شفاهياً بين البسطاء من الناس الذين يسمعون فيغذون ثقافتهم المحدودة من شفاه بعضهم البعض. حيث يتراكم في متنها مسار محدود من عالم لا ينتمي الى عالم التلاقح بالأفكار، كأنها متداولة في عالم مغلق، غير موصول بالعالم. والحق أقول بأنها اكثر تلامساً مع كل جديد في العالم، بحكم موقعها الجغرافي. فـ(يهمنا ان نرى عوامل الوضع والارتباك في الكتابة التأريخية، من اثر التيارات السياسية والحزبية، الى دور القصّاص فيها الى أثر الشعوبية، إلى المؤثرات الدينية، وأن نرى أثر التطورات العامة في تطوّر الكتابة التاريخية ). فالرواية اتخذت اسم "الذَّلُولُ" من وضوح المعنى القاموسي (رَكبُوا كل صعب وذَلولٍ في أمْرهم: اتَّخذوا كل سبيل). في الطَّريقُ الْمُمَهَّدَةُ، سَهْلَةُ الاِجْتِيازِ تُغيب فيها الاحداث وتسلط الضوء على شخوصاً بقيت شاحبة على مدى تاريخها لكونها شخوص مستعادة يُغيبها الترابط تارة.. ويظهرها الاثر من بعد عين.. كونها تترك القارئ يستنتجها بحضور فعلها الشاخص. شخوص تتقن الرفض بأسئلة حذرة، جلية الاشارة (جامع "الكواز" إبتناهُ جدي اول مرة بيتاً ثم ديراً حوله الى جامعٍ. انظر الى بنائه ألا تراه مختلفاً. انه لا يشبه الجوامع في عمارته. القبة بنيت في مكانٍ والمئذنةُ بنيت في مكانٍ آخر وفي الوسط المصلى. المئذنة مسدسة الاضلاع لسياجها الخشبي ذي الشناشيل التي تجعل الاخشاب متداخلة ومتراكبة يقطر منها الندى، وتفوح منها رائحة الاعشاب التي قدمت الينا بأسمائها الاندلسية بصحبة القافلة التي حملت مخطوطة العقد الفريد، وتصطرخ فيها الذكريات المشوشة- الرواية ص29).. تاقت كنص يثير اسئلة الرفض.. بغاية التصحيح، رؤية من سطح طائف فوق الماء مربوط الى مكان ثابت (دوبة)، وفي الوقت نفسه بقي كمكان مهدد بان يأخذهُ الماء الجارف، في اي وقت فتتغير بوصلته.. فسمّة المكان تغيرت كما تغيرت قناعات الفرد من دين الى آخر، ومن طائفة الى اخرى. (الكنيسة يا ولدي مبنية على التصميم الصليبي، وهو الطراز الرابع في تصميم الكنائس، وهو عبارة عن قبة في مركز تتقاطع اضلاع الصليب المتساوي الأضلاع ويعود هذا البناء الى العصر البيزنطي، غير ان بناء القبة تم على الطراز الاسلامي. ان راس القبة ينتهي بوتد فيه رمانات نحاسية ثلاث متدرجة تنتهي برأس مدبب، لابد انه يقوم كمانعة صواعق او وظيفة لا أعرفها- الرواية ص 81)، كما تذهب "جوليا كريستفا" الاثار الفاعلة في النص بعد تمثله اياها وتحويلها الى منتج جديد، منتج بصورة المكان، فهو مستعاد من التذكر في السجن، او مستعاد من ارتفاع وانخفاض في منسوب ماء شط العرب. (وهن النهر من الاسى عند نقطة الإلتقاء، وضياء الشمس ينشر قبضته فوق يدي السحلية كمن أسقط حجراً على يدها فوقفت متصلبة في مكانها- الرواية ص127).. نصٌّ ابتدئ بلحظة تذكر السجن والسجان، فيمر ببضعة شخوص باتت مثل اشباح تبعثرت عبر فصول. تعمّد فيها (عبد الحليم مهودر) ان ينسف مسار أزمنتها، ويذرها لأجل ان يعيد تنظيم تسلسلها. فصول سجل فيها بطولة مدينة إختفت متنونها وطافت على السطح كمكان تستعيده الذاكرة. كونها فرضت علينا نفسها كحكاية ناقصة المعالم زاحمت علينا الاسئلة ولم نفقه منها جواباً إلا زمنها الراكض معها على ساحل النهر الخالد.. حيث لا مناص من الحروب ومطامعها الاقليمية اللعينة.
• (الذلول رواية صادرة عن دار "رند" للطباعة والنشر 2011م)

View alahmed's Full Portfolio