تفرد الزمن المضيء في زمان ما كان لي
سمير عبد الرحيم أغا
أصدقاء الامس حين يلتقون اليوم بعضهم بعضا يستطيعون أن يتأملوا فعل الحصار عليهم لأن هذا الفعل قد كثف الزمن وجسد الاختلاف في الاشياء الملموسة، في تجربة (محمد الاحمد) تم التعرف على الزمن من خلال أشكال الامكنة وتغيرها .
بداية؛ لابد من الاشارة بادىء ذي بدء الى ان (محمد الاحمد) صاحب تجربة قصصية يزيد عمرها على خمسة عشر عاما وفوق ذلك فـ(محمد الاحمد) ليس كاتب قصة فحسب بل هو ناقد يكتب، في تحليل الادب الجاد وله حضور في الصحف والمجلات، فالمجموعة التي بين أيدينا هي الخامسة وقد عرف منذ بداياتها الاولى بالتركيز على ابراز موقف محدد قد يكون هذا الموقف واقعيا يعني برصد السلوك الانساني وتقويمه في أطار شرائط زمانية ومكانية وقد يكون رومانسيا يحتفل بلحظات التوهج العاطفي، يوظف التشكيلات اللغوية ويقتنص التداعيات والظلال ويلامس أفق الشاعرية التعبيرية وقد يكون هما وطنيا ينبعث في قلب الحدث ويعتمد على المفارقة المأساوية التي يفرزها هذا الموقف او ذاك .
في مجموعته هذه (زمان ما كان لي) الصادرة عن وزارة الثقافة 2007، تجاوز خبرته الجمالية والفنية مستفيدا من تراكمها ، لكنه لا يتخلى عن العديد من الظواهر الموضوعية التي عرف بها في مجموعاته السابقة وسنشير اليها في حينه ابان عملية التحليل .
عبر تأملنا لعناوين القصص التي تضمها المجموعة ولخواتيمها تتضح ملامح الرؤية، ولابد من الاشارة الى ان العنوان الذي أختاره (محمد الاحمد) للمجموعة من بين اربع وعشرين عنوانا وضعها لقصصه، حيث تعتبر القصة التي تحمل أسم المجموعة من اطول وأكثر القصص دلالية على نهج الموضوع ورؤيته، وهذا يقودنا الى عنصر الزمن الذي أتكأت عليه عناوين القصص، وليكن معروفا منذ البدء انني لست بناقد متخصص ولست انوي الدخول في لعبة الجداول والاحصاءات ورصد الاطر الشكلية، بل استخلاص المؤشرات الدلالية ومن ثم الفنية التي ميزت هذه المجموعة، تتسم قصص هذه المجموعة بكثافة ضغط الزمن ولهاثه ومع الحاح الزمن يزداد الحاح الاسئلة ذات الاجوبة المغيبة والمفتوحة مما يزيد من كثافة الازمة، المشغوفة بالهم الانساني والبحث عن الخلاص من التي تمسك بتلابيب الانسان في لهاثه الدائب بحثا عن السراب (لأنني افترضت منذ يوم السقوط يكون خلاصنا كالحلم المتحقق عنوة). في هذه القصص الزمن يضى الشخصية ويعريها من الداخل ويوفر لها مساحة من البوح، في مقابل الحضور المكاني .وبمقتضى ذلك لانجد اي خلط زماني او عدم قطعه، ففي قصة (زمن الرجل ألآخر) يتبع الكاتب نموذجه في تنقلاته بين الصور والمرأة محكما الربط بينه وبين الزمن، فالصور لها أحلامها وكأنه أصبح مجرد صور يبدو فيها التوحد بينه وبين الزمن، وحين ينتقل الى البيت يتطوي على الزمن (على نفسه) تصور الرجل الآخر وهو يولي الادبار خارجا دون اي عذر؛ صورة التداخل العميق وكأنه التقطه من الزمن وصورة المرأة وهي تضحك بسعادة عفوية كأنها في حلم يتحقق، اما قصة (زمن متوقف) تصور نموذج انساني متميز حيث تتبدى بنية التشكيل وقد تواشج فيها العام مع الخاص في علاقات محكمة حتى ان الكاتب يستهل قصته بجملة: التقيته مصادفة، ويختمها: احساس منذ فارقته بأنها آخر مرة أراه فيها، يرصد حركة الرجل مع زوجته وابنته يبحث لها عن دواء ليلتقي مع رجل آخر لم يره منذ ستة عشر عاما متواصلة ... هنا اوقف الزمن ليعيد حياة الحرب ومآسيها بما فيها الموت والايام والتلاحم، وكل التداعيات التي لحقت بالقصة تغوص في داخل الشخصية وقد حرص الكاتب ان يتبع الحوار الخارجي بينه وبين الصديق على نحو منتظم فالعبارات مختارة بعناية مدروسة لتعبر عن موقف مدروس ، في قصة ( زمن بحجم الافق ) كل شيء فيها بحجم الافق حتى ابريق الشاي، لايوجد صراع سوى الصراع على الهدوء.. الحركة.. السكون في نهاية المطاف يعتصر الزمن ليكون بحجم الافق ثمة صوت طاغ يحاول ان يصادر الصوت الاخر ويقلعه صوت عال من التفكير . في قصة (عيناك )يعطي الكاتب صورة المرأة حرية في شباك المعرفة لتعلن حبها بكل صراحة.. رحماك خلصني، أنت... انت ما أتمنى، مشهدين متجاورين يلحق بهما الكاتب بأدواته الخاصة دون ان يرسم للزمن صور ايتدا من العنوان، في قصة (خفة زمن )هي خفيفة كخفة الفراشة... تمشي وراء المدى يطارد المرأة بخطواته وقلبه يمشي كلما تمشي كأني أقول : ياحلوة العينيت تمهلي... ولم أقل لها ذلك أبدا، ولكنه لم يستطع يوما الى البوح، لتذهب عنه ويعود حزينا ثقيلا، حتى ذاك الغموض الشفيف الذي يحرص الكاتب على وجوده في قصصه عبر النهايات المفتوحة، ما يلبث لن ينجلي بعد انتهاءك من قراءة القصة مباشرة. في قصة (زمن مضى) صورة المرأة التي يرفل في حلمها وهدوئها (كالحنين التي تنهدت، مسقطة رأسها ما بين يديها، وقامت كالنخلة الفارعة تصهل) وهي فوق كل هذا تفيض بالنعم لكن في النهاية يختفي ذلك النزوع في تورط... لتختفي كل الصور.. الظاهرة، فهي قصيرة في تصور الحدث عميقة في تصور المعنى، سكون البداية.. أشتعال الداخل، تفاصيل الحلم، الى بقايا شقاء باهت. في فصة (زمن الابيض البريء) هي ذاتها المرأة التي ترابط حول الرجل من اجل الحب مع تغير في التفاصيل، في قصة (انفلات زمن) نحس بكثافة شريط الزمن وانفلاته بل ولهاثه نحو العمق، بدأت القصة بالهوس وانشغال الرجل بالمرأة وانتهت بالكوابيس، المرأة هنا رمزا متسع الايماء، فقد شحنها الكاتب بطاقة دلالية ثرية فهي ترمز الى الزمن بأندفاعه، في قصة ( لعبة الزمن ) قصة فيها الكثير من زمن الحصار الظالم، الذي ظل يطارد الكاتب، ولعل: دربكي يادرابك الخلاص اللازمة التي عبر عنها الكاتب، هي اقسى لحظات الخوف والترقب بل نسج أجواء معبرة عن هذه الحالة الانسانية (مهما كثرت وعضمت قوة الضغط فلن تنهري... وحدك في أحضان تمتص منك الخوف القديم وماء الظهر). في قصص (غريم الزمن، زمن بارز، زمن العزلة، فاصلة زمن، زمن علبة الحليب) هذه القصص منطوية في هذا الاطار، في طريقة العرض والشكل القصصي ورابط واحد، وهي تؤكد أهتمامها بتشكيل الشخصية النمط.. في حين تقدم الحدث الذي يكشف عن فعل الحرب كفعل مآساوي، في قصة (رئيس سابق لم اعرفه) قصة تشد على تقنية الحوار والسرد الفعلي الخالي من التحرك الشعري، حيث يلتقي برئيس سابق لأول مرة في الطريق ويحدثه عن الاحترام وعن هذا الرئيس الذي افلت من حبل المشنقة وأحالوه الى التقاعد، حتى ليرثي لحاله (ليس من حقك فأنا رئيس وقور محترم) بقي الرئيس يطارده وهو يحاول التملص منه، ماذا تريد مني ؟
ان تقدم لي اعتذارا رسميا امام رئيس هيئة الامم المتحدة؟ نهاية القصة كانت الهرب منه. في قصة (زمن ما كان لي) القصة التي تحمل المجموعة عنوان لها، كتبت بهامش توضيحي (كتبت هذه التجربة من اجل التجريب ليس اكثر) وكلنا يدرك ويعلم ان القصة القصيرة اليوم تعيش مرحلة التجريب بكل تفاصيلها، تبدأ القصة ( كنت قبل اليوم في زمن آخر غير الذي تشاركوني فيه.. وسأسميه بما يروق لي أن اسميه كونه زمني) هذا الزمن المأساوي الذي مر به هذا البلد وصورة الحرب، الموت الدمار. الحصار... الى الموت البطيء، لقد رسم الكاتب لوحات متوازية يفسر احداهما الاخرى او يقابلها بل هي رؤية كاملة للحرب وهي رؤيا يغلب عليها التناسق والانسجام رغم انه قد اوغل في مطاردة التفاصيل التي تبدو ذات قيمة وصفية محصنة تعمق احساسنا بواقعية الحدث حتى المرأة الوحيدة التي ابقته كالعصفور المرتجف لا يؤويه غصن أمين، وتظل تطارده ويطاردها (تريد قرارا مني)، ويلفت الانتباه انتقال الكاتب من المشاهد النثرية الى الصور الشعرية اذ يحلق الكاتب في آفاق الشعر بعباراته المجازية المشحونة بالصور.. فاغلب القصص تروى من وجهة نظر الراوي المضمر وهو راو غير محايد يفسر ويحلل ويعلق فهو عالم بكل شيء ، . اما الصياغة اللغوية للجملة فهي تصل الى الحد الذي يجعل منها رؤية مستقبلية رديفة للفكرة المحورية ، قصص ((محمد الاحمد)) لوحة واحدة متكاملة داخل أطار الزمن الممتد فيه كل الهموم وكل أنماط العلاقات والاهتمامات لهذا المجتمع . وقد نجح وأبدع القاص في هذا التنامي، حتى أن قصص المجموعة ذات سياق او شريط متصل سواء كان زمني ام مكاني، ولأنني لألمح طاقات روائية كامنة خلف هذه المجموعة ربما تثمر في نهاية المطاف عملا روائيا . لأن ((محمد الاحمد)) ينسج ( بأبرته) معطف قصصه خوفا عليها من برد (نقد ألآخرين )
... أنتهت كتابة المراجعة ولكم ان تحكموا او تقولوا الكلام الذي لم أقله على قصص زمان ما كان لي .
2009كانون الثاني
الهوامش ( زمان ماكان لي )مجموعة قصص صدرت عن وزارة الثقافة / الطبعة الاولى 2007