حيويةُ (برتراند رسل) المتواصلة
محمد الأحمد
مما لا شك فيه، بأن أي مختص بتاريخ الفكر الحديث، يدرك جيدا بان (برتراند رسل 1872- 1970م) رجل واسع المعرفة، ثريُّها، وقد أعطى كثيرا للفكر الإنساني بشكل عام، وبما اتسعت به رؤيته الشاملة، وقد زاوج بين علم الرياضيات والفلسفة، مخترعا قوانين حسابية لإثبات ما كان يريد إثباته، فقد كانت الرياضيات تشكل له الجانب الأول في حياته، وقد ولد بملكة تمكنهُ من إجراء العمليات الحسابية المعقدة ذهنياً، ودون الرجوع إلى كتابة الخطوات على ورقة، وقد عاش قرابة المائة عام بعطاء متواصل يحب تلامذته، ويمسك جيدا بمستمعيه، يحب الشعر كثيرا، ولا يكتبه، ولد في عائلة أرستقراطية إنجليزية كبيرة عام 1872م، نشأ يتيم الأب والأم (إذ فقد أمه وشقيقته عام 1875 في الثالثة من عمره، ثم فقد أباه بعد عام واحد فقط، وقد بلغ الرابعة العمر، ولم يتح له أن يتعرف على والديه اللذين أنجباه ) وتصدر جيله كواحد أحد كبار فلاسفة القرن العشرين بدون منازع، وبقي مساهما في تبسيط مبادئ الفلسفة، وأفكارها لكل من يريد أن يفهمها بشكل جاد، وقد تسلم جائزة نوبل عام 1950 تقديرا (لمنجزاته في مجال العلوم والفلسفة ثم بشكل أخص تقديرا لانخراطه في المجال السياسي الإنساني التحرري)، فالرجل كان جامعا للمجد العلمي، والفلسفي، وأيضا المجد السياسي خدمة للبشرية، كان يعتبر نفسه مناضلا يسارياً على الرغم من أصوله الأرستقراطية وغناه، إذ بقيت الهموم السياسية والقضايا الكبرى تلازمه، ضد مصلحة الرأسمالية الغربية، والقوى المهيمنة. ولم يكن شيوعيا ماركسيا، ولكنه كان قريبا من الخط الاشتراكي ذي الاتجاه الديمقراطي، كان صديقا مقربا للعالم الفرنسي (جان بول سارتر) وشكل معه المحكمة الدولية (رسل/ سارتر ) لمحاكمة جرائم الحرب التي ارتكبتها الولايات المتحدة في فيتنام، (في عام 1890 دخل إلى جامعة كامبردج لدراسة الرياضيات والعلوم الأخلاقية أو الإنسانية، ونشر كتابا مهما تحت عنوان (مبادئ الرياضيات 1919م)، ثم بات بعدها ابرز كبار ممثلي الفلسفة التحليلية الإنكليزية، مستخدما المنطق الرياضي الدقيق لتوضيح المشاكل الفلسفية، وتحليلها أو تشريحها من أجل إيضاحها، وكان أحد مؤسسي الفلسفة التحليلية المضادة لفلسفة (هيغل)، ومعارضا لمجمل الفلسفة المثالية الألمانية القائمة على المفاهيم التجريدية المعقدة، و(غير الدقيقة) بحسب رأيه، (إنها قائمة على الشطحات الفلسفية العمومية لا على العلم الفيزيائي أو الرياضي)، وإن الفلسفة الإنجليزية تختلف عن الفلسفة الألمانية والفرنسية لكونها فلسفة تطبيقية تابعة للعلم، وليست مستقلة بذاتها، وثمة فرق كبير، وشاسع بين أي نظرية، وتطبيقاتها فأي نظرية وان حملت براهين عدة، وتكون غير خاضعة للتجربة الميدانية، تبقى مجرد نظرية، وحبرا على ورق، فالتجربة العملية تعطي مشروعية للنظرية، وتبقيها قيد الاستخدام، وكانت كمشكلة أساسية تهمه (هل يمكن للإنسان أن يتوصل إلى المعرفة اليقينية المطلقة في هذا العالم؟ أي المعرفة التي لا يمكن لأي إنسان عاقل أن يشك فيها أو ينقضها)، وقد بقي (برتراند رسل)، أبداً، مناديا للسلام، مضاداً للحروب، والنزعات العسكرية، وكان يحمل موقفا مضادا لانخراط (بريطانيا) في الحرب العالمية الأولى، فأدانوه بتهمة الانهزامية، والسلبية، والجبن، وأقالوه من منصب الأستاذية في جامعة (كامبردج)، وأدخل السجن لمدة ستة أشهر بتهمة العصيان المدني، وبعدها وقع مع (البرت آينشتاين) بيانا ضد الأسلحة الذرية، لأنها فتاكة ومدمرة، وطالب بان لا يمتلكها أي إنسان، لأنه يدرك جيدا مدى فعاليتها عندما تستخدم في الحروب، وان أثاراها سوف تبقى على مدى السنين مؤثرة في الأجيال القادمة، لما تمتلكه من خطورة على البيئة والحيوان، إذ تخلخل نظام الأرض، وتبقى ويلاتها الثقيلة، حتى وان وقفت حروب السياسيين، وسجن ثانية عام 1961م (وفي كل مرة كان يدفع ثمن مواقفه السياسية الجريئة)، وفي السجن أنتج كتابا شهيراً (مدخل إلى الفلسفة الرياضية)، وبعد خروجه (رأس محكمة عالمية ضد جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الأميركي في فيتنام)، و(لا يحق لك أن تنظم أي محكمة بهذا الخصوص؛ ألا تنظر إلى الخطر الشيوعي وهو يزحف نحو أوروبا؟ )، وبقي ينادي بأن الساسة يتناوبون الحضور على حساب شعوب بلدانهم، ليحققوا مكاسب فردية، فالحروب تقر بقرارات سياسية تتطلبها مصالح جغرافية وإقليمية، وليس لمصالح تكون لتطور الإنسان، وكان مبرزا في تشريع حقوق الدفاع عن الإنسان، من السخرة، والهيمنة على مصائره، وثرواته، وينظر إلى التعصب بأنه اشد فتكا بالشعوب من القنبلة النووية والجرثومية، كما وأعلن من منابر الثقافة كلها (انه من أشد أعداء التعصب الديني من أي جهة جاء، وكان يعتقد أنه لا يوجد دين، إلا وفيه فئة متعصبة جاهلة تفهمه بشكل خاطئ، ومضاد لطبيعته الجوهرية ومبادئه، وبالتالي فالمتعصبون أو المتطرفون بشكل أعمى يشوهون جوهر الأديان، وتفكيره)، وبذلك تضامن معه سلفه احد كبار فلاسفة التنوير العقلاني في أوروبا إبّان القرن السابع عشر(جون لوك)، موقعاً معه رسالة (التسامح؛ ودعا إلى انفتاح الناس من مختلف الأديان والمذاهب على بعضهم البعض، وحذرا من الحروب الدينية أو الطائفية الخطرة جداً، بين الكاثوليك، والبروتستانت، وأيضا بين الرأسماليين والشيوعيين)، ومن مواقفه المشرفة دافع عن سياسة السلام في أوروبا، (ومحاربة شخص مجرم مثل أدولف هتلر؛ حيث لا تنفع معه أي سياسة سلمية)، وعندما زار (الإتحاد السوفيتي) مع بعض أعضاء حزب العمال البريطاني الاتحاد السوفييتي (لرؤية الشيوعية وهي مطبقة على الأرض، وبعد أن حيّا الثورة البلشفية التي حررت الشعب الروسي من نير القياصرة، راح ينتقدها بعنف لأنها تضحي بالحريات الفردية، وهذا ما أزعج زملاءه الاشتراكيين الذين اتهموه بخيانة المبادئ الاشتراكية) إضافة إلى نقد المنهج الواحد الذي كان بمنظوره أشبه بنظام دكتاتوري، وان تغلف بالاشتراكية، أو تنادى بالديمقراطية، ذلك أن حرية الفكر والتعددية السياسية، هي الخيار الأمثل لتلاقح الأفكار، وإنتاج فكر جديد يُساهم في إحلال السلام بين الشعوب بمختلف الأديان، و(كذلك حرية الصحافة، كلها أشياء غير متوافرة إلا في الغرب)، وبقي يكره في الغرب النزعة القومية والأنانية الضيقة التي أدت إلى انفجار حربين عالميتين لم يفصل بينهما سوى عشرين سنة؛ الأولى كانت ما بين (1914 ـ 1918)، والثانية كانت ما بين (1939 ـ 1945)، مخلفة عشرات الملايين من الضحايا، وقد مات (برتراند رسل) في بيته، وهو يحتضن كتابا، ومخلفاً وراءه كمّاً كبيراً من الأبحاث التي مازالت جامعة (كامبرج) الرفيعة تفتخر بها، ليس كونه ابنها البار الذي لم يناصب العداء لأحد؛ ورغم اختلافهم مع منهجه، بل لان طرق تدريسه بقيتْ مثالا حيويا يكشف كم كان رجلها عاشقاً للعلم وفلسفة الرياضيات، ومازالت ليومنا في الجامعة العريقة تلك، غرفة تسمى باسمه رغم عن كل شائبة لحقت به من جراء مواقفه السياسية غير المهادنة، وينطبق عليه الشعر القائل: (خيرُ أديبٍ، أديب الأَرَبْ، كريمُ الأُصولِ، أصيل الفؤادِ، رقيق الطباعِ، عريقُ النّسبْ، له في الخافقينِ الــــودادُ، وفوقَ الشفاهِ أغاني المـحبْ، وأنتَ جمعتَ كريمَ الخصـال ).
الجمعة، 15 كانون الأول، 2006
mu29@hotmail.com