أضواء - القاص محمد الأحمد لــ (الزمان):
نحتاج الي تفجير لغوي يوازي الموت الذي رأيناه -
نجاة عبد الله
حدقت في الحائط ذات صباح.. قائلة في سري.. أني لحائط ما أن يقوي علي المزاح واللعب، أو حتي التحرك لهنيهة ما لم يتنفس لغة تعلق شموع بعضها لتقدح عالماً آخر، حدث هذا وأنا امسك كتاب الزميل الأديب محمد الأحمد (حركة الحيطان المتراصة) رواية تفضح بكاءاً عجيباً يتخللها شيء من الصمت والحدس في إمكانية خلق الكلمات من جانب خفي.
يشي ربما بقارورة من الصراخ في وجه هذا العالم الذي يتآكل صبراً، ثم ارتفعت الجمرة بين يدي لتفصح عن قرار اتخذته سنوات الأحمد في كتابه الثاني (جمرة قرار ابيض)، ثم كتابه الثالث (أربع وأربعون متوالية)، والرابع (بعد الجمر.. قبل الرماد)، هذا الأحمد يكتب بهدوء، يختفي اياماً طوال ليضع بين يد القارئ قصة جديدة حين لا يسمح للزمن أن يسرق منه مزحة بالكتابة وشغفة بقراءة كل شيء حتي أرقام العربات الراحلة علي عجل (محمد الأحمد).. قاص مثابر له مساحة كبيرة في ساحة النشر العراقي، والعربي.. التقيناه وكانت هذه الوقفة المثمرة...
û البعض يقول بان القصة دخلت في الرمزية أسوة بالشعر وأصبحت تبتعد عن السرد والموضوعية إنها تسرع بالدخول الي عالم الفنتازيا بحجة الخروج من هذا الرداء الكلاسيكي بغية التحديث؟
ــ تتفكك الأحداث عن الحدث المحوري عندما يكون الرأس قد بدأ يخسر استناده علي الرقبة وتلك الأثقال تفرض شكلها الخاص ليكون ما تحتها قد أخذ قالباً معيناً. هكذا يحدث علي الدوام بعدما تفعل فعلها تلك الأحمال اللعينة، فلكل مقام مقال ولكل زمان دولة.. وأحقية الكتابة هي الرؤيا، واتساع المشهد الواحد يكون فساداً علي العبارة الضيقة..وقول النفري الشهير يصلح لعصرنا.. فأنا أراقب المشهد واكتب.. ادرسه في اغلب الأحايين، وتلهيني الدراسة عن الإنتاج.. ماذا أفعل؟ أن كنتُ أنظر إلي العالم من ثقب في باب مغلق عليّ، وصرت اليوم مكشوفاً يراني من أراه فاكتب لغة لن يفهمها الرقيب الناشر.. ذلك شبه مستحيل فانظر إلي ما قدرت عليه وما لم اقدر.. أنظر إلي القصة من جهة محايدة جداً، فكل ما أقرأه أجده لذيذاً، وأحاول أن اعزم بقية قرائي علي ما أبقيتُ منه (استنشقها أيضا، أتشربها إن صح التعبير).. أحاول أن اكتب نصاً جديداً أقترحه ليكون موازياً لما فيَّ من اندفاع.. القصة تسليط ضوء كاشف لأجل إصلاح الخلل.
û محمد الأحمد (إذا تكلم جلي عن نفسه)، ما الذي يحدث حين ذاك.. بعدما تتضح غرة الصمت، وتقود خيول نفسك الي حلبة سباق مفخخة بالتوقف؟
ــ كل نص له وجوه متعددة، وقراءتنا للنصوص بحكم تراكم معرفتنا بالأشياء.. وأي كلام حين ننطق به هو تحديد لذلك الوجه، الموقف، والموقف الذي ينبغي علينا أن نلتزم به هو أن لا نكشف عن وجوهنا، فالكلمة محسوبة حرفاً حرفاً، متابعة تحت المجهر لأنها، مكملة للنص الذي لا نريد أن يصل بنا حافة النهاية التي تجهلنا أكثر مما نجهلها.. الكلام في النص، وليس بعده. اقصد الكلام كان حادثاً ضمن النص، والنص نُشر، وانتهي الكلام.. أما أن نكتب بشجاعة عما سكتنا عنه أو أن نعدل. عندما نسترجع ذلك النص، الوجه، الموقف، نعيد الكلام من جديد، نثبت بأنه قد كان نصاً غير مكتمل، وغير ناضج.. كان حينه ذا أفق ضيق، ولم نكتب ساعتها رؤيتنا الشمولية، لأننا كنا بذلك اليوم الذي كتبناه بثقافة أقل، وأعتقد ذلك عيب كل من شرح نصّه، وحدد اتجاهه.. أني أفهم النص مثلما يحط الطائر علي غصن..عليَّ أن اعرف مسبقاً إلي أين سيصل بي في ذهن المتلقي وأظن عندما اعرف ذلك، لا اسقط في هوة التحديد والسذاجة.. النص القابل إلي تأويلات عدة هو النص الخالد.. لأنه يتوزع علي مساحة أكبر.التكرار هو محصلة التوقف.. الأديب الذي يعطينا جديداً في كل مرة، دليل علي انه مازال يتفاعل.. ما زال بعطائه المتجدد شكلاً ومضموناً هو الحي
المتواصل مع هموم عصره. كوننا من هذا العراق أبي الجغرافية التأريخانية من الإبداع.. نكون مبتكري الإضافة.. عراقتنا ابتكار وسبق،لن ندع القوالب هي التي تحجم إبداعنا وإحساسنا.. نحن علي الدوام بظرف لغوي يفوق مفردة الألم أن كنا نعبر عنه كونه ألماً حاجة بنا.. علي الدوام إلي تفجير لغوي يوازي الموت الحقيقي، الساحق، الماحق الذي رأيناه علي حدود بلدنا أيام كان يغمرنا غمراً عنيفاً، ويقتات علي اعز ما نملك من خلايا.. عندما كنا مباركون نخوض الحرب بتألق، ونخسر أصدقائنا بتألق لا نحسد عليه ولم نكن نعني أحداً سوي خسارتنا لأنفسنا، فالموت كان موتنا المحتدم ــ الخاص بنا كشبان يافعة تكتشف المفردات بحس خاص فاق الإنسانية جمعاء صار عندنا خزين صوري، مهيب، مهول ومريب أكثر من أية أمة خاضت حرباً، لان السلاح كان أكثر بشاعة... مما تعرضه هوليود بكومبيوتراتها الذكية.. كان علينا أن نسبق من كان أمامنا.. لا أن نتبع من كان ورائنا حيث لا أحد له عمق تاريخي كتأريخنا.. تلك هي مشكلة الجنس الأدبي الذي اطمح، هو الابتكار الذي يوازي لما نحمل من آمال كبار سفحها التاريخ (الجهللوجي)!. بالمناسبة غالبا ما اخترع مفردات كهذه.. لأني أحس بحاجة ماسة إلي مفردات أخري، مجنونة غير المفردات التي اكتسبناها.. مفردات لها ساح لاذع..
û هل يحتاج القاص جنون من طراز مميز ليقتحم هذا اللبس الإنساني القائم بكل جنونه وعواطفه وآلاته وعولمته؟
ــ يحتاج القارئ إلي معرفة ما يجري حوله ويستلب منه حيويته وطموحاته ويعبث بنظامه ويجعله يفقد توازنه فيكون عالمه الداخلي غير متوافق مع العالم وربما يضيع بين ذلك التخلل أو يستثمر ذلك كنظام صارم ينزل علي الورق ويكون جنوناً مقارناً مع نظام آخر.. أعتقد بان المختل لا يقدر علي حمل قلمه لان الأقدام الكبيرة قد هرست عقله.. المجنون لا يكتب النصوص العاقلة.. الكتابة العاقلة تحتاج الي عمقها في الزمن.. تحتاج من يكشف لها، ويستفزها حتي تخرج مؤلبة.. لا غيبية مغلقة.. الجنون الذي لا نفهمه شيء آخر لا يصلح لقراءٍ يريدون التعلم..
û كيف تنظر إلي عالم القصة اليوم، البعض يقول بان هناك مزج اولي بين القصة وحدود الشعر ومزج ثانوي بين حدود القصة والرواية ومزج ثالث بين حدود الرواية والشعر، هل هو الخيال الذي لا يبخل عليك في التوغل لإضفاء بصمة خاصة بالاحمد، أم هي ثورة مرحة علي التجنيس الأدبي؟
ــ اثني علي هذا التداخل بين السؤالين المتواليين.. وكأنهما بشكل واحد كل منهما يصل إلي جهة مختلفة.. أراهما يتممان فكرة الخوض في آليات الكتابة القصصية.. ما زالت القصة الفنية غير مستقرة في شكل معين منذ (موباسان) العبقري المتألم حتي ــ أنا ــ حيث يتشكل الألم البشري من إنسان إلي آخر، وفق أجواءه.. الأهواء والأمزجة.. تختزل تأريخ المبدع وتقدمه إلينا ضمن مشروع مهيأ لأن نقرأه. وما أن نقرأه حتي نتلقاه بما فينا من استقبال علي مختلف أهواءنا وأمزجتنا المتعددة اعتقد وهذا ليس جزافاً بان القصة العراقية اليوم ضعيفة التوجه وتلك ضائقة فرضها الرقيب نفسه الذي كان رقيباً في حرب (القادسية العادلة)!!،وحرب (أم المعارك الخالدة)!!.. الرقيب هو الذوق السائد. ويمكنني أن أقول أيضا في الاتجاه الفني شيئاً آخر هو: أن القصة العراقية صارت مستنسخة طبقاً دقيقاً لقصة الأستاذ المبدع (محمد خضير) وجد قليل تلك التي ابتعدت عن بصماته العبقرية الخالدة، وجد قليلة التي أفلتت بالشعر تارة وبالفنطازية تارة أخري من مقصات الرقيب الدامغ.
û (لندخل من بوابة الرأس).. بعد أن نقترب من بوابة القصة، كيف يجيد النص حرفة التجلي، وكيف يجيد الشعر داخله حرفه الصفاء، هل تكتب بلغة الوجع وتخطط بلغة الجغرافيا، وتفكر بلغة التاريخ؟
ــ حقاً...؟ ها أنت تحسنين التواري خلف الأسئلة.. النصوص الكعظيمة هي النصوص التي تحوي قدرا كبيرا من الأسئلة الحاضرة.. أود أن تتقدمي بالسؤال إلي حيث يكون عندك لا عندي.. الأسئلة الآن في ملعبك كشاعرة تجيد إحكام الفكرة وإحكام الكلام علي الفكرة.. هكذا هي القصص أيضا.. إحكام الكلام علي الفكرة، و القصة الجيدة محكمة الكلام. وأنت تكشفينها قبل أن تسأليني عنها أقول أن حرفة الصفاء ــ هي حرفة استرجاع الألم الذي حدث.. أو تقمص لحالة المتألم.. كلما أجاد الكاتب تقمص شخصية من يكتب عنه زادت دقة كشفه، بل حقق مساحة كشف أسئلة غير مجاب عليها، والحالات كلها منفصلة عن بعض بتجلي اللغة الواحدة المزيحة لذلك التراكم الفضفاض الذي لا يعي عزلة الماضي عن المستقبل الإلكتروني المعاصر.. بمعني الإنسان الذي يكتب عن علاقته الحميمة بالآلة الجديدة التي بدت الأعمال دونها لن تنجز إلا بعشرين ضعفا...
û هناك حس عراقي واضح، يعني بان النص يشي بعراقية فذة، الهم، اللوعة، جمرة الروح العراقية بكامل حلتها، وتغريدها الحزين، ولكن هناك انسحاب لمجسات أخري تفتح أبوابا ساخنة لخيال خصب قلق؟
ــ ذلك فخري لأني أينعت بذلك الزهو البلدي الحلو الذي دمه عراق، وهواءه عراق، وكل عراقه عراق..، ولولاه ما كتبت كينونتي.. لأننا سويا من بلد المبدعين الأفذاذ، نجيد قراءتهم، ونتذوق منهم... نتعلم ما تعلموه ونشرب مما شربوه..
û القاص العراقي محمد خضير في واحدة من رسائله إليك يقول: (أن رضي الكاتب عن نفسه شيء صعب لكن ثقته بعمله وإخلاصه كفيلان بتسديد خطواته فثق بعملك أولا ولا تيئس كثيراً إن تأخرت استجابة الآخرين لخطواتك) هل تثق أنت بأدبك؟
ــ بالنسبة لي أثق بنفسي كثيرا، لكن لا أثق بأي عمل إبداعي، قبل نشره.. أكون قلقا.. وأكون قارئا شديد التريث، شديد الوقع.. لأني مع نصي اجزم قولا ليست تمام الثقة، ولكن ثقتي بمكانة نصوصي بين أقراني هي اكبر من ثقتي بذاتي.. لأني أحسن قراءة نصوص غيري.. واعرف أين أنا بين نصوصهم، أما بالنسبة لنصوص العباقرة,, أحسني وحيدا في قراءتهم.. وحيدا في تتبع أثرهم البليغ.. فهم وحدهم يجعلون مني بسيط التجربة، وربما عديمها.. طبعا العبقري لا يدع لغيره مكانا.. فكان علي أن اهرب من مدرسة معلمي العبقري، أن اهرب من درس القراءة، وانفلت من سطوة سيطرة العباقرة التجارب العبقرية الشامخة.... من اجل تحقيق بصمتي لأني في زمن آخر سأجد تلميذاً اعلمه ما تعلمته الانحناء إجلالا لتلك
û ليس خلق الرواية وحسب وإنما قراءتها أيضا نوع من أحلام اليقظة (مايكل بيوتر) يعني أن الرواية تخلق عالما متخيلا من الوقائع ولا تحتفي بعفوية الواقع وتكتم أصابع الشهادة في قبضة الكاتب، هل نستطيع القول أن الرواية هي شراهة في الأحاسيس والأفكار والمتخيلات اللامعقولة وان نقلت واقعا حقيقيا؟
ــ كأنك تؤشرين لصالح (حركة الحيطان المتراصة) ولا أدري أن وفقت أم لا في أن أضمها إلي بقية محاولاتي في كتابة الرواية. لان الرواية الحقه مهيبة جداً.. لم اقدر علي أن اسميها إلا (رواية النص) فأنا أجل الرواية، وباعتقادي أن معظم ما حولنا من روايات هي قصص ممطوطة لا أكثر؛ من كون الغلاف هو الذي يحمل (المفردة) التي لا تكفي لوحدها علي الاعتبار..الرواية ــ آنستي؛ عالم متكامل يخلقه الخالق ــ بمعني أن الرواية تخلق.. من مدينة كاملة وتاريخ وأحداث تغطي جغرافية بطل الرواية.. تخرج من تلك المدينة طرقاً معبدة لتصل ــ تشير إلي مدن أخري.. عوالم متصلة تفوق الحدث الذي حدث بين الأبطال.. الرواية لا تُعَرّفْ.. تكتب لا أن تُحمّلْ دفاتر الإنشاء، وقصاصات التمرين.. الرواية علم العلوم ومنها يجتاف العصر! ولا خير أن نقول الذي قلتيه، ولكن بنظام من ير كل شيء قبل أن يكتب لا أن يكتب وتقوده الكتابة حيث يريد به الناشر.. ينبغي الخلق التخيلي المتكامل المدروس قبل المغامرة في الكتابة الروائية.. ولا اعتقد بان (حركة الحيطان) تستحق أن نسميها رواية كما لَمَّحتِ..
û في حركة الحيطان المتراصة.. شاءت كلماتك ثني تلك الحيطان من وشك الوقوع في ضَلالة الغموض، التصوف الحاد، والنرجسية العالية كان النص برمته دمعة كبيرة.. سكبها الكاتب.. ثم غادر النص مبتسماً؟
ــ اشكر فيك ذلك الميل إلي تلك المحاولة التي اقتطعتها من مذكراتي ولم استطع فيه خلق الشيء الجديد الذي يستحق الفخر، ولهذه الابتسامة التي بجدتيها بلاغة المتبول.
AZZAMAN NEWSPAPER --- Issue 1754 --- Date 11/3/2004
جريدة (الزمان) --- العدد 1754 --- التاريخ 2004 - 3 -