وثائقية جون فاولز المشوقة





وثائقية جون فاولز المشوقة

  محمد الأحمد

لطالما رغبنا يوما أن يكتب احد ما سطورا بالعربية تُعرف بالكاتب الانكليزي (جون (فاولز1925-2005م)، ولطالما انتظرنا برغبة حقيقية بأن نقرأ له باللغة العربية، بقية مؤلفاته الأدبية، وخصوصا من بعد أن قرأنا القسم الأول من (امرأة الضابط الفرنسي)، والتي ترجمها (محمد درويش) المترجم العراقي القدير، ولم ينشر القسم الثاني منها. كذلك رواية (الساحر) عن روايات الهلال، وقد توفي (فاولز) بصمت (11تشرين الثاني2005م) في بلدة بحرية تدعى (لايم ريجيس) من بعد أن بلغ الثمانين من عمره من دون أن ينهي انجاز أحلامه الأدبية، فقد كان كاتبا متميزا بلغة حميمية تشعر قارئها بأنه يكتب من خيال عميق، وخاصة من لدن كاتب يعتمد الوثائق، ليعود بقارئه طويلا ويجعله يراه متقمصا تلك المرحلة التي يكتب بها، فهو يحبذ دائما الوثيقة، ويحبذ الحدث الواقعي ليبني عليه جسوره التي تعبر بالقارئ إلى أسرار تلمُّ بها الرواية، ربما بسبب حذره المتأصل منذ طفولته الخانقة على الجهة الأخرى للجزيرة البريطانية في منطقة (ايسيكس)، حيث طغت عليه الثلاثينات من القرن المنصرم، والحياة المحافظة في صورة متشددة جعلت الشاب (جون)، يتلبس تلك الموروثات، وربما يتشربها، و قد تأخر طويلا في دفع كتبه إلى النشر، وحين نشرها عاد وحررها من بعد أن أدخل عليها تعديلات، خصوصاً روايته (المجوسي عابد النار) التي صدرت للمرة الأولى عام 1965 ثم عام 1977 مع ظهور روايته الأقرب إلى السيرة (دانيال مارتن). ففي (ريجيس) استقر (جون فاولز) من بعد ترحال طويل بين (فرنسا)، و(اليونان) وقد ترك التدريس الثانوي متفرغا إلى الكتابة- من الجدير بالذكر- في تلك البلدة أيضاً جرى تصوير روايته الثالثة (امرأة الضابط الفرنسي)، وكان فيلماً ناجحا جدا من إخراج (كاريل ريز) بطولة (ميريل ستريب) و(جيريمي إيرونز). ففي تلك الرواية البديعة ادخل (فاولز) المواضيع الفيكتورية الصارمة المتعلقة بالطهرانية الخلقية، والتزمت الاجتماعي، وجعل لنهايتها أكثر من نهاية، وتعددت فيها الاحتمالات، مشيراً إلى موقفه المتحرر من التركة الفيكتورية، وقد اسماها احد النقاد المعاصرين (رواية وداع لذلك الإرث وفي الوقت نفسه تحية لبعض النواحي الوصفية في نوعية الأسلوب)، فكأن الراوي يميدُ بالأزمنة، و يتأرجح لغوياً متنقلاً بينها، وبين الحب الروحي الأفلاطوني الذي يجعل الحبّ رهناً بالزواج، أو دونه يكون عرضة للمسخ والسخرية. فقد حدد (فاولز) مسألة الحب منذ روايته الأولى (جامع الفراشات) إذ يقوم (فريديريك كريغ) بمتابعة حبيبته (ميراندا غراي) من بعيد، ويؤدي به تردده عدم الاقتراب منها، إلى أن يخطط اختطافها، وينجح بمسعاه من بعد أن اشترى بيت في الريف، وفعلا احتجزها في قبو كئيب، وأسرها، معتقداً بأنها ستحبه لمجرد رؤية مجموعة الفراشات المحنطة التي جمعها. لعب (تيرنس ستامب) دور (فريد) و(ميراندا غراي) جسدتها (سامنثا إيغار)، وكان من إخراج (ويليام وير). كان (فاولز) مهتما جدا بالتصوير الفوتوغرافي، وقد اظهر اهتماما بالغا في وصف الأمكنة التي يتناولها في رواياته، وقد ذكر مرة عنه صديقه المخرج (غاي غرين) بان رواياته أكثر صعوبة من أي كاتب آخر لأنه يهتم جدا في إبراز صورة المكان الفيكتوري، وقد جمع المخرج (غاي غرين) لفيفاً من أبرز الممثلين لنقل الرواية الهائلة المسماة (المجوسي عابد النار) إلى السينما، من بعد أن لاقت الرواية المطبوعة رواجاً واسع النطاق، وترجمت إلى 20 لغة، واعتبرها النقاد الأميركيون بؤرة عمل جديد من الكتابة القصصية تجمع عناصرها من العمق الخرافي للثقافات الدينية، والروحانيات التي تفاعلت مع المتوسط، وتطلق الخيال أبعد من توقعات القارئ، وتتخطى الأطر التقليدية للشخصيات إلى رسم احتمالات عدة لكل شخصية، من أن يكسي أزمنته بطابع عصر ماضي، ويضمنها في الأغلب وثائقا حديثة تعيد النظر في التاريخ المكتوب سابقا وتشكك فيه، فبعد إقامته في جزيرة يونانية مدة سنتين مدرساً اللغة الانكليزية تصيَّر(فاولز) على غرار آخرين مثل (هنري ميلر) في روايته (عملاق ماروسي) و(لورنس داريل) في روايته (رباعية الإسكندرية). وبخلاف كل رواياته السابقة، واللاحقة حظيت روايته (المجوسي عابد النار) بنجاح بالغ، من خلال (موريس كونشيس) بطل روايته. و قد سمته الأكاديمية السويدية أكثر من مرة على رأس قوائمها لعدة سنوات. بقي منتجا مجدا في عمله الروائي وكتب عدة روايات دون أن يفز بجوائز (نوبل) القيمة، ودون أن يبرز اسمه بين جمهرة الروائيين المثيري الجدل، على الرغم من كونه قد حظي بنقد وافر لمجمل أعماله، وقد اعترف في إحدى اللقاءات الصحافية بأنه قد أعاد كتابة تلك الرواية لأكثر من عشرين مرة، وانه لم يكن راضياً عليها حتى بعد نشرها، وإنها (تجربة فلسفية إذ يحرّك الأشخاص من حوله كأنهم في مسرحية بلا جمهور، لكن هذا المسوّغ لا يعدو كونه لعبة أضواء دورها الوحيد تغيير دفة القصة في اتجاه المفاجأة والتغريب) كما ذكر الناقد الفرنسي (ميشال بوتور). اغلب رواياته الأنفة الذكر اكتست بطابع تصويري دقيق جعلها مادة مؤثرة، و صالحة للاقتباس السينمائي، ومع أن ذلك لم يتغير في المتن عبر الأعمال الأربعة اللاحقة، إلا أن (فاولز) انصرف تماماً عن المنطق الروائي المتسلسل ذاهبا إلى الخطاب السيكولوجي، والسيرة الموجهة ثقافياً، ناقلاً في رائعته (سيرة دانييل مارتن) هموم وأفكار، وذكريات جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية. والكتاب مؤلف من ستة فصول مستقلة بعناوين مبرزة، تجعلها أجزاء محددة تحتمل الانفصال عن كامل النص. وهناك تضمينات وتقارير صحافية، وإشارات إلى أعمال روائية وفلسفية وسينمائية. وفيما يبدأ زمن الرواية في العام 1942م حين يكون بطلها (داني مارتن) في الخامسة عشرة من عمره، يأتي عنوان الفصل الأخير (مستقبل الماضي) ليردنا إلى السطور الأولى من مفكرة (داني- الأنا الأخرى للكاتب)- إذ يقول: (إما الصورة الواضحة الكاملة أو العتمة التامة). أما الحب في روايات (فاولز) قاطبة، فان إبطاله لم ينتهوا أبداً بنهاية سعيدة، لأنه، هكذا ما حدث له في حياته الواقعية، حيث لم ينجح في أية قصة حقيقية مرت به، ولو بدا لنا انه يسير نحو السعادة المرتجاة، أو ما يحلم لأجل إبطاله، فهو يعترف لنقاده بذلك، ولكن الكتابة عنده كما الحياة الحقيقية، لا يقدر على أن يغير فيها وفق ما كان يحلم. حيث يبدأ باقتحام (فاولز) ظلام المخيلة، وكوابيسها مع الرواية الخامسة (مانتيسا) بطلها (مايلز غرين) يستعيد وعيه ليرى عيني زوجته (كلير) تحدقان فيه لكنه لا يعرفها، فهو فاقد الذاكرة على إثر حادث تعرّض له. وإذ تغادره (كلير) تخبره الممرضة انه كان تحت تأثير البنج فيسألها: - كم مضي علي من الوقت هنا؟ فتجيبه (بضع صفحات لا غير)، وكأن الزمن هو المكتوب بعدد الصفحات، وليس مما يحسب على الإنسان من خسارات في الجهد والخلايا، إذ ذاك نفهم أن (جون فاولز) ينوي ولوج لا وعي أناه المتعددة الوجوه من باب كونه كاتباً رفيعا بإمكانيات هائلة، ويلعب الجنس الاستحلامي دوراً محورياً في هذه الرواية، منذ صفحاتها الأولى، كما تختلط الأقنعة بالوجوه وتتقلب المواقف، وتتفاوت الأزمنة، وتتداخل الشخصيات مع بعضها إلى أن تصبح الهلوسة مجرّد أمر عادي، وفي الوقت نفسه الحفاظ على وتيرة سرده المتواصل بالتشويق. وهذا ما كان يميز روايته الأخيرة الموسومة بـ(الرقة1989 م)، كذلك يغور فيها بعيدا لمراحل تاريخية من القرن الثامن عشر، ويفصلها بمقال مبينا آرائه في الدين والكتابة، يقول فيها: (إن على الروائي أحياناً سبر أغوار بعيدة المنال من أجل إدراك الحقائق وان بطلته الحسناء في تلك الرواية (ريبيكا) تمثل التنوّر العاطفي) والرواية قد كانت (انفصال أليم للنواة الشخصية عن أرضية التقاليد القاسية في المجتمع)، وقد كانت (برج العاج 1986م) قبل الأخيرة، وكانت متعلقة بحياة البحارة الشجعان الذين داروا في شطآن بلدانهم لأجل حمايتها من قراصنة البحر. وقد مات (جون فاولز) مخلفا في مسكنه خزينا كبيرا من الوثائق كان ينوي العمل عليها، و استحق بحق تسميته برائد للرواية الوثائقية.



بغداد

‏ 11‏ كانون الأول‏، 2005


View alahmed's Full Portfolio
tags: