حنا بطاطو: الطبقات الاجتماعية، والحركات الثورية..
من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية *
قراءة : محمد الأحمد
لقد ضلت الصورة الحقيقية مقصية عنا نحن العراقيين، خاصة، وبقينا نرزح في عمق الظلمة المقيتة، حيث لم تكن أية حقيقة بين أيدينا من حقائق الحق، تنير لنا أسئلة عصرنا العراقي في الخريطة الأيدلوجية، فنصدقها اعتمادنا. فكل من وصل إلى سدة السلطة (ملكية كانت أم جمهورية)، بدأ بطمس ما ذهب من التاريخ بكل بشاعة، و شراسة؛ بل وتعمّد أن يشوه كل حسناته، إن كانت لديه حسنات، قلب الحق إلى باطل، والباطل إلى حق.. وفرض عليه وصاية ما يريد عليه من الفهم، كمن يحدد للأنهر مجاريها، وبقي التاريخ مخلخلا، ومهلهلا ما بين محب وكاره.. المحبّ يعطي وجوباً ما لم يحدث عطاء الذي قد حدث، و الكاره يعطي كفاية عين عطاء ما حدث بفرض كأنه لم يحدث.. حيث تاريخ المشاعر هو الذي دونته العواطف، والقلوب صادرت الحدث الحقيقي.. وكم هو كبير حبنا، كعراقيين حيث تكالبت فينا المصالح و المطالح و علينا الأطماع.. فتمثلوا وجه كل زعيم زمنه على قرص القمر، وكل منهم قد كان فريد عصره، و ضرورته. فالذين رووا لنا الروايات بمقدار ما احبوا، أو كرهوا.. دون إن نعطي الكبر والفخامة لمن نظنه يستحقها، والعكس أيضا صحيح..
فتطلب منا التقصي كمثقفين والنزول أركولوجياً إلى العمق الغامض، ونعيد القراءة.. فما من مدونه مهما كانت إلا ونقبنا فيها لاجل أن تعطينا شيئا نستشف منه، ويعطينا القدرة الاستشرافية على معرفة التجذير الحقيقي في النهج. كما ينهج (ميشيل فوكو) الذي يقول (ما من علاقة سلطوية من دون بناء مترابط لحقل من المعرفة، وما من معرفة لا تستلزم ولا تنشئ في الوقت نفسه علاقات سلطوية، وهنا ينبغي الانتباه إلي إن للسلطة في الأساس مفهومين.. يهيمنان على دراسة الخطاب وهما السلطة كقدرة علي الفعل بسيطة من الناحية الكمية، والسلطة بالاعتماد علي الإجماع والتي تتضمن بناء علي ذلك أيضاً الحق في ممارسة الفعل وكلا هذين المفهومين ضروري لمزيد من الفهم الموسع لتشكل الخطاب[1][53])، فلم يبق أمامنا أي نهج نسير عليه سير المتتبع لتاريخه، من اجل أن نعرف موضع القدم الذي نقف.. كلنا يعرف تاريخ العراق العريق، بما فيه تلك المسميات التي تفصح عن عمقه الفاعل في ستراتيجية الأحداث الكونية.. منهُ سنّ القانون الأول في زمن أول حضارة عرفتها البشرية، ومنه انطلقت أول القصائد، و أول خرائط الهندسة، أول الأوائل، ومركز المراكز، وبلد البلدان.. (من المفترض أن يوجد في لحظة معينة من تاريخ الأمة خطاب محدد.. أي مجموعة من القواعد والأعراف التي تتحكم في التشكيلات الاجتماعية، وتسيطر علي صياغة الخطاب وتنظيمه علي الدوام معارف ومؤسسات تعمل عمل وكلاء توزيع شفرات السلوك والإجراءات الاجتماعية الأخرى، كما يتسبب الخطاب بالأفكار المهيمنة التي تعد مسؤولة عن ألقابه الصارمة التي يخضع لها المجتمع علي نمط يقرب من نمط السجن ذي الصحن الدائري، معتقل دائري تجري مراقبته بواسطة حارس واحد يقف في مركز البناية وهذه الرقابة مسؤولة عن الإشراف على المجتمع في ضوء إملاءات النخب[2][54])..
فما من بداية معرفية لا تصل بصلة إلى بداية حلقية أخرى.. تبقى بقيمة بحث مغلقة، حيث مصادر أعراقنا المعرفية.. هي من الكثافة، ومن الغموض في آن واحد.. المؤسسات الحاكمة كانت بذكاء يعادل وفرة خيرات البلد التي يريدون الشدّ فيه من أجل أن لا ينتزع من الأيدي المحكمة القبضة.. فالمعرفة بالعرق، والدين، والعقل.. هي سلاحهم الأقوى، وهي سلطتهم الخالدة.. (تتبع أصول هذه الحركات، واستنباط جذور الأفكار والعواطف التي كانت تسيرها، ووصف صيغها التنظيمية، وبناها الاجتماعية، و إعادة بناء حياتها الداخلية في اللحظات ذات المغزى، وتتبعها في حالات الانحسار والمدّ في مقدراتها، وتقييم التعثير الذي كان على البلاد وتاريخها[3][55])، فكان الطريق أمام الباحث المحايد مستحيلاً، لأسبابٍ متراكمة، ومتداخلة.. منها أن الحركات الثورية العربية واحدة المطلب من اجل التحرر، و الطرف الحاكم ما بين جنسيات متعددة، ومصالح مشتركة في الهيمنة على الثروات.. بأكثر من ضغط على الشعوب العربية.. أولاهما الطمع المستقتل ما بين الأعداء لاجل الاستحواذ عليه بأي ثمن كان.. مما أدى إلى توسيع قاعدة الزيف، والخيانة..
إن الباحث (حنا بطاطو 1926-2000م) الفلسطيني الأصل.. لم يكن جامعا ذكيا للمعلومات المهمة البالغة الدقة، وشغوفا بتفاصيل التفاصيل، وحسب؛ بل كان اكثر من مواطيننا العراقيين بمعرفة تاريخ العراق الحديث حيث بقي منكبا اكثر من 12 عام بحثاً و تنقيباً و إعادة النظر في التاريخ العراقي الحديث.. مؤمنا طوال بحثه المضني بان التاريخ سجال بلا نهاية.. كما يقول بيتر جيل[4][56]..
فلقد اعترف مرة في ثنايا كتابه العبقري، هذا، بان المادة التي جمعها كانت متشابكة إلى درجة محبطة.. لانه كان عقلا منهجيا مبدعا في مادة التاريخ الاجتماعي.. حيث زاوج لنا بين علم التاريخ، ومناهج علم الاجتماع.. ومرة وقف حنا بطاطو في شارع الرشيد قرب الحيدرخانة، يستطلع الرأي من بعض المواطنين المارة.. حول استبيانه، و فوجئ برجال الأمن يلقون القبض عليه.. غير انهم أطلقوا سراحه بعد الاطلاع على رسالة كان يحملها من جامعة هارفرد تشير إلى مشروع بحثه، وتدعو إلى تقديم المساعدات الممكنة في سبيل إنجازه[5][57])
(وقد بدا حنا بطاطو بحثه على نهج أستاذه ماكس فيبر الذي يعتبر المعرفة، أية معرفة، غير قابلة للاكتمال، فالاكتشافات العلمية الجديدة، ستفتح أمام الباحث أبوابا جديدة، وطرق بحث جديدة، ونتائج جديدة تلغي ما قبلها في عملية مستمرة، بلا محور، ولا نواة ثابتة[6][58]).. فكان البدء أولا بالطبقات الاجتماعية، تلك العلاقات المتواشجة في نسيج أي قاعدة اجتماعية، فهي قد بقيت أتساعا متواترا داخل العمق البحثي، ومنه انطلقت مسيرة البحث المضني و أخذت توضح الشرائح المكونة لهذا العراق المزيج.
سيكون صعبا علي تقديم عرضا شاملا عن الكتاب بشكل تفصيلي لما جاء في تركيبات فصوله.. ليس لان الكتاب بأجزائه الثلاثة امتدّ على اكثر من 1320 صفحة من القطع الكبير.. و لكن لكثافة التنقلات التي لم تكن في الأغلب سرديه فيمكن اختزالها، ولكنها مادة هائلة.. طيبة الترابط، عظيمة البناء والتوافق.. حيث جاء القسم الأول من مجلد الكتاب الأول. الطبقات الاجتماعية القديمة، توضيحات علمية ونظرية.. حول تباين العراقيين وتخلخل مجتمعهم وتقدمه في العهد الملكي، باتجاه بنيه سياسية متماسكة.. التوزيع الجغرافي للمجموعات العرقية- الدينية الأساسية، والعوامل المسببة له.. العلاقات الدينية- الطبقية والإثنية- الطبقية المتبادلة.. و القسم الثاني من الكتاب الأول. حدد الطبقات ومجموعات المكانة الاجتماعية الرئيسية، الملاكون أو أصحاب الأراضي (الإقطاع). المشايخ و الاغوات والفلاحون. السادة (الدينيون). أرستقراطية المسؤولين القديمة (العثمانيون). الجلبيون والتجار- الصرافون اليهود. التاج، والضباط الشريفيون السابقون. (طرق تفكيرهم وسلوكهم السياسي وموقعهم الاجتماعي وجذور منزلتهم أو ثرواتهم، فان هدفه هذا القسم من الدراسة هو اكتشاف ما إذا كانت المعالجة الطبقية تفتح منفذا لرؤية علاقات تاريخية أو ملامح اجتماعية كانت هذه المعالجة قادرة على إعطاء رؤى جديدة أو نتائج ذات قيمة عند تطبيقها على مجتمع عربي ما في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى[7][59])..
اوقع الكتاب قارئه في شرك التشكيك في الاسماء التي كانت بلمعان جلي، كسبته من احتكاكها بالجهة الحاكمة التي سيطرت وقتها. فكان من ارتقى دولبة الاتراك العثمانيين، قد حصل على عطاياهم، ومن انتبذهم، حصل على عقابهم الصارم.. كذلك من التفّ بالركب الانكليزي، وهكذا دواليك في تتابع مسيرة كيفية التكوين، وكيفية التفكيك.. كيف ارتقت طبقة اجتماعية ما على اساس مصلحة شيخها، او رئيسها، وكيف نزلت تلك الطبقة حسب ولائها، فالوصوليون والانتهازيون في كل زمن يسعون إلى خلط الأوراق، وتشويه الحقائق، ونجدهم في كل تاريخ يركبون الموجة القوية، و يتنقلون على اوجه القوى، ودائما يتركون ما بدءوا به على حساب الانضمام إلى الجهة القوية، ويهملونها بعد أن كانوا يعطون الجهد الذي عليهم، عليهم من جهد قد صرفوه نحو الموجة القوية حتى تضعف تلك الموجة... لينقلبوا دون أي مبدأ، أو قيم نزيهة إلى الجهة الضدّ.. وفق ما تتطلب مصلحتهم، ووفق ما يتطلب موقفهم الجديد، بأي ثمن.. حتى بالصعود على الكتف الذي كان يحملهم، ويغطسونه بنكران جميل من أعطاهم.. بل ويعادونه بشتى الطرق، و كأنهم أعداءه الأصلاء من بعد ما كانوا أصدقائه الأصلاء.. وقد دوّن بتفصيل حاذق مسيرة تكوين الحزب الشيوعي العراقي.. الذي دونه لا يمكن لأي باحث ان يسير بنهج كل من سار على الدرب وصل.. كونه الحزب الشيوعي- ملخص خريطة العراق الأيدلوجية.. رغم اعتقادي جازما بان ما من حركة سياسية في بلد غني الثروات، إلا وتدعمها جهة جشع طامعة.. لكن حنا بطاطو وضعه في المكانة الرئيسية من كتابه العريق بصدقه، العريق بحياديته.. وكتب الباحث في مدخل كتابه (ويعتمد هذا المؤلف في بعضه على السجلات السرية لمديرية الأمن العام.. ا. ملفات الشرطة السياسية العراقية عن مختلف الاحزاب، وعن كل شخصية ناشطة في العهد الملكي. ب. أوراق ومدونات صادرتها الشرطة وكانت تخص اللجان القيادية للشيوعيين والبعثيين. ج. مخطوطات شيوعية عثر عليها في سجن الكوت وبعقوبة. د. مدونات حرفية لاستجوبات أجريت لأعضاء مهمين من الكادر الشيوعي.. اعتقلهم البعثيون في العام 1963م. هـ. تقارير الاستخبارات السرية البريطانية وخلاصات الاستخبارات، ولاحق خلاصة الاستخبارات المتعلقة بالفترة 1917-1931م. و. الملفات السرية للرائد ج ف ويلكنز الذي كان مستشارا فنيا للحكومة العراقية.. وايضا رئيسا للتحقيق الجنائي..[8][60]).
و أيضا اعتمد (على شهود العيان، و المشاركين في الأحداث).. لقد بذل (حنا بطاطو) جهدا عظيما بدلالة منجزه العظيم الذي تركه بين أيدينا، و صار كتابا لا يمكن ان يتجاوزه أي عراقي خانه السؤال، فالكتاب موسوعة في أعراق العراق الفكرية، وطبقاته الاجتماعية المعقدة التواشج.. عربا وكردا وتركمان، وديانات، وطوائف، وملل، ونحل…
مجلد الكتاب الثاني: الشيوعيون من بدايات حركتهم و حتى الخمسينيات.. القسم الاول البدايات في المشرق العربي.. دعاة المساواة المبكرون، ومنظمة الهشناق الأرمن الثورية، وآرسين كيدور معلم التاريخ في المدرسة السلطانية بغداد.. عصبة سبارتكوس.. عام 1927 إصدار جريدة الصحافة.. والشيوعيون اليهود والاميمية الشيوعية. القسم الثاني حسين الرحال أول الماركسيين العراقيين وجماعة نادي الصحافة، ونادي التضامن.. بيوتر فاسيلي الشاب الآشوري الذي تعلم في تفليس بجورجيا، التعارف بعاصم فليح والجماعات الشيوعية المبكرة في البصرة والناصرية. سيرهم الثورية، حرية، آخاء، مساواة. تأسيس الحزب الشيوعي العراقي.. عراقيان وثلاث طوائف.. البداية الثانية او الشيوعيون في فترة الانقلابات (1936-1941م).. القسم الثالث الأسباب العامة لزيادة الشيوعية في عقدي ما قبل ثورة تموز.. القسم الرابع فهد (يوسف سلمان يوسف) الموظف في سلطة كهرباء البصرة.. والحزب (1941- 1949م).. نحو حزب منظوم بدقة و متجانس أيدلوجيا وعلاجات جديدة.. اعتقال فهد وما بعده.. الوثبة.. الكارثة وموت فهد شنقا و الشيوعيون الأطفال.. فهد و الاممية الشيوعية، والسوفيت، والشيوعيون السوريون، وحزب الشعب.. الشيوعيون و المسألة الفلسطينية.. نشاط الحزب، صفاته وأهدافه وأشكاله .. تنظيم الحزب وعضوية و بنيته الاجتماعية (1941- 1949م).. تمويل الحزب.. القسم الخامس: الحزب خلال السنوات (1949-1955م) او فترة ارتقاء الأكراد في الحزب.. بهاء الدين نوري يعيد بناء الحزب.. انتفاضة تشرين الثاني.. تطرف اكثر و اكثر وعقلانية اقل واقل.. هزيمة الحزب أو ولادة حلف بغداد.. بعض التاريخ المنسي او الأحداث المأساوية في سجني بغداد والكوت.. جدل حول الدين.. تركيبة الحزب (1949-1955م)..
مجلد الكتاب الثالث: الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار.. تغير الأيدي الممسكة بالدفة الشيوعية والشيوعيون يرصون صفوفهم.. أقوياء الحزب الجدد حسين احمد الرضي وعامر عبد الله و جمال الحيدري.. حزب البعث في الخمسينات: أصوله ومعتقداته وعضويته.. تعريب توجه الحزب الشيوعي وانتفاضات النجف والحي.. تشكيل اللجنة الوطنية العليا في شباط 1957م. الضباط الأحرار والشيوعيون وثورة تموز 1958م.. زعيم واحد وسلطة مزدوجة.. العداء المتبادل والهزيمة المتبادلة.. الموصل آذار 1959.. كركوك تموز 1959م.. من دعامة إلى سارية.. البعثيون يستعدون والشيوعيون يحذرون.. اكثر السنوات مرارة.. تركيبة الحزب الشيوعي وتنظيمه (1955-1963م) النظام البعثي الأول أو نحو حكم الحزب الواحد.. عارف الأصغر والناصريون والشيوعيون.. التصدع في ظل عارف الأكبر.. النظام البعثي الثاني.. خاتمة.
كان اكثر الكتب في زمن حكم النظام السابق حظرا للتداول، والاسباب كلها واضحة، اذ يحمل وثيقة حقيقة لكل ما يملك من رصيد انتهازي.
لعلهُ افضل ما أمكننا اقتناؤه من الكتب المستنسخة على الإطلاق تحت نير الحصار الثقافي (الصدامي) الذي عانينا منه ما عانينا نحن مثقفي الداخل، فلم يكن كتابا كبقية الكتب التي تناقلتها أيدينا، وحملت من عرق الصيف رائحة حمضنا النووي؛ يحوى كل أجوبة أسئلة مصيرنا العراقي الراهن، وماضي مواطنينا في النضال ضد العمالة.. كتاب يفتح لأي منا منهجا قويما ليعرف من نحنُ، وأي الخطوات تسير بالعراق العظيم.. من صفحاته الدقيقة المحايدة.. أسسُ الوثيقة الحقيقية التي حاولت الأنظمة التي توالت على العراق طمسها.. أسسٌ هي وجه العراق غير المزيف.. عبر حقبة نافت على القرن، وناهزت على الألف قرن كون العراق عريقا في عراقته.. فلم يكن العراق إلا أول الأنظمة، وأخلدها تدويناً.