ئاسوس رواية عراقية لا يمكن عبورها
رواية: محي الدين زنكنة
قراءة: محمد الأحمد
ما بين الطفل (ئاسو)، و الطير (ئاسوس) المحبوس في قفصه.. علاقة حب صميمية.. أثث الرواية رواية متنها خريطة العراق بكل أطيافه الفكرية والعرقية على مدى اثنين وعشرين فصلا.. امتدت العلاقة بين الطير (القبج) الذي تعلق به الطفل المريض ابن الراوي (فرهاد)، ومسافة الطريق من مدينة (الحلة) إلى مدينة (أربيل) التي ينتظره فيها شقيقة (دلشاد) لأجل حضور رؤية والديهما المحتضر.. يتخللها استرجاع تدريجي لما فات أن يرويه الرواية بزمن الحاضر، والذي أخذته العجلة، وراح يسرد بطريقة التذكر، والعودة إلى الماضي، منتخباً لقطات تعطي للحكاية عمقا، ومعنى جديداً.. لعلاقة تبدو في الظاهر، ليست ذات بال، سوى أب يتخلى عن رغبته، وينزل عند رغبة ابنه الصغير، ولكن الكاتب يمرر من خلالها، علاقات مناضل مسيحي اعتقل في سجن الحلة، ونقل إلى سجن (نقرة سلمان)، واعدم مع مجموعة مناضلين شيوعيين، أبان حكم (نوري السعيد)، وقد ترك تذكارا في صفحة مشرقة من التاريخ، والبطل المسلم يفخر بأصدقائه المسيحيين، وبأنه تزوج من مسيحية، وولدت له (ئاسو).. إذ يقول المفكر ميشيل فوكو: (إن كان الكلام لا يحصى فان النصوص نادرة).. تتراكب الروابط بشفافية لتوثق مساحة دقيقة من العلاقات الإنسانية، من بعد اقتناص بالغ الرهافة والحس اقتدر عليه الكاتب (محي الدين زنكنة)، و توظيفه في رواية عراقية ممتازة، لا يمكن لدارس الرواية العراقية.. أن يتجاوزها.. كونها هوية التزام ثبتت لكاتبها علامة ميزته بلغة حوار مليئة بالصور، اختصرت مسافات سرد.. قد كانت تحتاج إلى ضعف ما جاء، و قد وسمها باسم جبل في (كردستان) جرت عليه ذكريات نضال لن تسقط من ذهن الجد، وكان لاسم الرواية دلالتين الأولى.. بطولة، والثانية طيرا لا يعيش إلا في المناطق الجبلية، وذلك الموضوع ُعنيَ بالحرية و الجوع، لتتدفق الصورة تلوَّ الصورة كاشفة عن بهاء علاقات إنسانية نبيلة كان العراقي الجليل يتحلى بها ويفتخر.. فقد وثق المؤلف في مطلعها العبارة التالية (تتوقف أحداث الرواية عند بداية عام 1967م). مؤكدا بحساسية العارف إلى أين تتجه المقاصد تأويلا.. كون العمل الأدبي مها تجنس وفق المناهج والإشكال الأدبية المتبعة يبقى شهادة الكاتب على عصره، ويعطيه الأحقية من الجانب الشامل أكثر مما يعطي المؤرخ الذي يدون سير السلاطين، والملوك، والقادة وفق ما فعلوه، مشكلته انه لن يفتضح بمكننة الفيزياء، فحسب. خلايا الإنسان هي التي تتدمر دقيقة بعد أخرى.. فكلما كبر واخترق زمنا كثيفا، أحس بكثافة ما خسره. بكل عفوية، صار يستخلص مسيرة تاريخانية من تقدمه عليه، وبداخله.. سلطته الغامضة جلية بمسيرة متلهفة للانعتاق به نحو الراحة، والرفاهية، فيبقى النص الأدبي صورة مسيرة جيل، سار على ما انتخب بحرية من يختار، وليس بحرية من يختار إليه، والراوي يعرف بان القارئ المتمكن هو الذي تقع عليه مهمة (القراءة المتملية للنصوص هي التي تساعدنا على ضبط جنسها أو نوعها، أو نمطها- احمد الحذيري)، لان الفن الروائي بات اليوم محصلة كل الفنون.. يدون خلاصة حضارة الإنسانية جمعاء.. بكل ما فيها من تشعبات، ورقي.. فهو علم العلوم ومنه يُجتاف العصر، ومنه وثيقة التاريخ التي لا تقبل التزييف، أو التحريف. لأن الكاتب الواعي لأداته يتحكم بصدق وفق ما كان يراه، ويعطي صورة عصره، وهو ما أكدت عليه الناقدة الشهيرة جوليا كريستيفا:- (النص الأدبي قضية كبرى لا تنحبس في وصف الظواهر الأسلوبية ولا تقتصر على استخراج الثنائيات وضبط الوحدات والوظائف الفرعية، بل تحول مشغل بحثها من بنية النص.. من موضوع تشكله إلى بحث في ماهيته دون التخلي عن حضوره المادي المحسوس). فالرواية (ئاسوس) تبتكر لقارئها طرقا خاصة لأجل أن تقرا بامتداد الزمن العراقي الذي اختاره راوي الرواية، ذلك الزمن الذي مشكلته غاية في التعقيد كلما قسناها بالمفقودات، ولا نستطيع تعويض اللحظة الذاهبة أبدا. كلما سقطنا متقدمين في العمر وجدنا أنفسنا بخسارة أفدح من الأخرى.. كلما تكررت علينا الذكريات سقطنا في الزمن، وكأننا انتشرنا كقطرة حبر متفككة في قدح ماء!.. ومثلما يبدأ الرسام المقتدر بتحديد أفقا وهميا في الفضاء داخل لوحته البكر من اجل أن تتمفصل الأبعاد عبره.. يكون الطفل (ئاسو) زمنا تتمفصل الأبعاد الحقيقية عبره، وخلافه محض وهم!. (العبج أحسن.. العبج.. لا يموت- الرواية ص44).. مؤكدا الراوي بفنولوجيا طفولة لن تنسى ما يخدشها، ولن تنسى بكل تلك البراءة خسارة الطير، الصديق، الحبيب.. بذاكرة ذي سنوات خمس، مشكلتها ستكون الصدمة، والأب في اللحظة الأخيرة أصبح يراها كلسان النار المتراقصة بإيقاع ما.. ستأكل كل الأحلام والطموحات وتحولها إلى رماد… إلى انطفاء... ذلك الإطفاء الذي قد يجعل الأب بخسارة اكبر، و القرار الراسخ، الثابت؛ بان يعود الأب ويراجع قراره- بان البقاء لما يمتلئ حيوية، يقرر العودة، من اجل الطير (معنى اسمه الأفق) الذي رفض له الأب الموت.. من اجل ابنه، و يودع العالم القديم، بألف رفض من اجل عالم جديد.. (ئاسو) التفتت المنغمس بالمحدود.. المحدود هو الزمن المتشظِ كذرات متطايرة في الهواء.. تحوطه وتعزله عن رغباته، لان التاريخ هو ذاكرة الجيل.. مشكلته استطيقيا من حرية الحلم الجديد... (في عمر الورود يا أستاذ.. سجنوه منذ أكثر من سنتين.. وحتى الآن لا ادري في أي سجن هو..وقد لا أراه إلا في تابوت- الرواية ص 88).
كما يجدر ذكره، إن الكاتب المبدع (محي الدين حميد زنكنة)، أديب كردي كتب بالعربية، و بقي متميزا بعزة نفسه، كما بقي قلماً أبياً شريفاً، لم يهادن يوما السلطة بأي شكل من الإشكال، و منزويا، معطاءا، يستحق القراءة الجدية، من بعد أن تجاهله الإعلام (الصدامي).. الزمن عنده متناصف حدي بين المعطيات، ومقارنة مرنة بين المتصلبات، الزمن في هذا العمل البديع نضال الشهوة من اجل البقاء.. وحدته في النص تعني وحدته مع الحياة.. وحدته الكلمات المتقافزة من الذهن إلى احتواء الورقة.. النص الجميل يبقى أبداً صورة لعقل تحدى سلفية تشاكل الحروف.
السبت، 04 شباط، 2006