قراءة في قصة الدخيل لـ
(حامد الزبيـدي)
المنشورة في العرب الثقافي بتاريخ 27-12-2001م
بقلم
محمد الأحمد
يقول الناقد (Stephen Jay Greenbelt) : (إن الكتاب المقتدرين يدركون القوانين التي تجري داخل الثقافة، ويتقنون توظيفها)، فكثيرة هي النصوص التي نقرأها، ومن ثم نفسرها إلى ما نريد.. كقراء عامة.. نتلقى بعفوية ما هو أمامنا من قضايا. أو على الأقل نؤولها وفق ما نشاء، و نقارنها بما في خزيننا من معرفة تراكمية اكتسبناها مما حولنا، وربما بما خزنت من أدوات ابستمولوجية، فتكون تلك الصور متصاعدة كفعل مع ما يقرأ في النص، أو مع ما يتفاعل فعله القرائي مع الذي يصادف قراءته في الحياة، كحدث قد حدث في الأمر الواقع.. غير ما تطبل به المؤسسة الإعلامية.. المسؤولة عن كشفه. عندما نجري تأويلاً (Interpretation) ما..لأي نص أدبي.. علينا أن لا ننسى بأنه وليد سياق تأريخي متفاعل مع كل الثقافات المصدرة من هذه المؤسسة الثقافية أو تلك.. في المعتقدات، أو في توازنات القوى، وما إلى ذلك من لغة توضح المرامي الغامضة، التي تقتضي القراءة فيها، و بهذا ينطوي التأويل عليه من جملة إبعاد أولهما؛ عنصر التعبير.. عما أراده الكاتب ( أي كاتب).. ضمن أي نسق هيرمينوطيقي (Hermeneutics) يشتمل على التأويل. و نادرة هي النصوص المحملة قصداً واضحاً، يتفق عليه كل من يقرأه.. من الموضوعية، وعمق الرؤية للمثقف الحساس بما يجري عليه من أحداث، فيحول ما يهدد كيانه، ووجوده إلى رمز جليّ، ليتفرع رمزه مؤشراً إلى الكلية الموضوعية الواضحة. مثلما فعل القاص (حامد الزبيدي) في قصة (الدخيل) المشورة في العدد ذي الرقم (6301) من جريدة العرب (الملحق الثقافي الأسبوعي)… حيث سردت بنظام متسق البناء تطرح قضية الحصار الذي يعاني منه العراق. فـ (الثعبان) الذي اجترحه المتخيل بقلمه الذكي… بقي (ملفوفاً حول البيت، طوقه، حلقة فوق حلقة).
تتحول الصورة البديعة إلى كابوس مريع، بعد أن يفاجئ الزوجين الذين كانا يستمتعان بما ينعمان به من نعم.. في بيت كان آمناً، ومستقراً. حول الثعبان العملاق الفرح إلى حزن مقيت، وخوف. راحت البرودة تسري في مفاصل الأشياء.. بعدما كانت نمارق مفروشة على رقعة زاهية، مليئة بالجرأة، فالقصة البديعة تأخذ حيث ما يريد كاتبها، وليس حسبما يريد قارئها.. ترسم له حدوداً واضحة الخطوط، لا تسمح له أن يتخطاها… بتمرده، أو ثقافته.. تحصره مثلما يفعل الفلاح في حقله، ويفتح الساقية بالاتجاه الذي يريده، ويسقي ما يريد سقيه… بإيقاع سريع تتناسب مع نظام عمل به السارد المتقن لما في ذهنه مما احكم عليه حكماً بالغاً..
فصار الفرد يبيع في السوق أثاث بيته أبخس الأثمان، ليأكل بثمنها شيئاً يسـّد به رمقه، ورمق عياله من الطعام الذي صار غلاءه فاحشاً، ولم يكن أمامه سوى البيع من منفذ (رماه نحوه، ابتلعه، رمته بأساورها الذهبية، وبصندوق زينتها، والثعبان الشره يبتلع كل ما يرمى إليه، تناوب الاثنان بقذف الثلاجة، التلفزيون، خزانة الملابس، السرير، المجمدة، والطباخ). حتى اصبح البيت (خالياً، والثعبان الجائع يصرخ بهم :- هل من مزيد؟)..
(يجب أن لا نتوقف عند الكشف عن اوجه الخلل، وسوء الفهم، و إنما نتجاوز ذلك إلى تصحيح ما ينقده بالعملية الإبداعية؛ أي ما يشبه العمل الثوري) - كما يؤكد المفكر البريطاني (Raymond Williams).
(الحصار) = (الثعبان).. بقي يأكل الفرد من الداخل بدون رحمه.. يطبق عليه.. بعد أن نفدت الممتلكات صار الثعبان متوجهاً نحو الإنسان، قصة كاشفة فاضحة.. تستحق الإشادة لما فيها من مادة نفذت بتقنية عالية.. أجاد النص ما أراد البوح به سراً، وعلانية.. بقيت هذه القصة تحوي القصة الأكبر، الجلية، الواضحة لأي متلقي، يأخذ منها ما أراد الكاتب، وما قرره تأليفاً. فالكاتب المجيد هو الذي كان يقول قوله الواضح، ولا يؤول القول إلى قول آخر غير ما يقصد.. فيفهمه القاصي، و الداني.. القارئ العابر، والناقد المتخصص.. نص خطابه واضح التعبير، تحكمه النظم الدلالية المنبثقة من صميم قضايا الأمة، وتطلعاتها الحقيقية غير التطلعات المستخدمة كخطب سياسية لاجل التخدير، وحسب…
النص واضح، وصريح.. فيه أول القول منتظماً مع ما انتهى به، ولم تشوبه صراحته البليغة، إلا جمالاً فوق جمال.. قصة مفسرة باتجاه واحد، وذلك ما يجعلنا أن نؤ شرها في قائمة الإبداع العراقي الجليل.
بعقوبة