ظلٌّ استثنائي
قراءة بقلم
محمد الأحمد
تمتاز القصةُ البصرية على الدوام بسعة افقها في التجريب، و التشكيل المغامر في مستوى البناء والعطاء، لكن القاص الجديد لم يتخلص من بصمة المبدع العبقري (محمد خضير)، ربما لقربه، و محايثته لهم، أو ظناً منهم بأن القصة لا تكتب إلا بمثل ما كتب، فبعض تلامذته النجباء جاروا ببصمة من مجموعة (المملكة السوداء)، وثلةٌ أخرى أصرت على تكرار تجربة (في درجة 45 مئوية)، و أخرى ما زالت تكرر مجموعة (رؤيا البرج)، تلك البصمة لم يسلم منها الأدب العراقي في معظم التجارب… خاصة إن المبدع (محمد خضير) لم يسبقه أحد فيما جاء به، وبقيت جملته الفنية تدلّ عليه وحده، في كل موضوعاته، و طروحاته التقنية. فجاءت تلك القصص تتخطى القصة العربية، بذكاء متقد، وعقل منفتح.. بل وصارت فخر القصة العراقية مما حدا بالأقلام الجديدة من الذين أرادوا أن يمشوا بنجاح في مشوار هذا الفن أن يحذوا حذوّ المعلم الأول. بعضهم نجح إلى حدّ ما في السير قدماً على خطوات تلك التجربة المهيمنة، وبعضهم الآخر تخلص مثبتاً خصوصيته الإبداعية، ولم يتخلص كلياً من تلك السطوة، إلا القليل. نسوقُ هذه المقدمة دون أن نسمي بالأسماء، كوننا بصدد تجربة مجموعة القصص (ظلٌّ استثنائي ) التي حوت على ست عشرة قصة للقاص البصري (عبد الحليم مهودر)… تفاوتت في الطول والقصر، وفي التشكيل، والتحميل، فجاءت لغتها الشفافة بإيقاع سريع، حاولت أن تعطي ذاتها من القراءة الأولى، دون تقعير…بلغة سردية سهلة لم يقدها أي حدث قصصي، من اجل أن تصل بمتلقيها حيث تريد الصورة؛ أن تتوقف، فيكون التوقف عن القصّ بداية الخيط الذي دأب القاص على وصله بكرم بالغ حتى آخر قصة في المجموعة. فقصة(شاهد قبر- ص 3) تمضي قدماً إلى أن تعطي ما ترسمه دائرة القصة في تغريب واضح من قص يوحي بأنه يستند على وثيقة تراثية من كتب الإخبار في عربيتنا الثرّة، يوحي، ولا يستند فحقق فوزا أكيدا؛ أنه اجبر القارئ على أن ينجذب إلى متن قصته التي تدعو إلى التشويق، ولكنها لم تكتمل كقصة مثل بقية قصصه الجميلة (مثل قصة رأس مقطوع يتكلم- ص 39)، و(قصة رجل مفترى عليه- ص45). أما قصة (ظل حكاية-ص4) ابتدأت من حيث انتهت القصة الأولى، إلا أن وشيجة الربط كادت أن لا تعطي صفة التمكن من جعل القصتين بقصة واحدة الأولى امتداد للثانية.. مؤكدا بأن القاص المتمكن يدرك حدود تجربته، وإمكانية مساحة صوته مثلما يدرك مغني الأوبرا مساحة صوته، فالأداء القصصي يحتاج إلى المران، والى الإشارة الذكية أكثر مما يحتاج إلى القفز من هنا إلى هناك، وأية فجوة قد تقطع القارئ عن القراءة، وتجعله محلقا، مبتعدا عن سرب الكلمات السائرة ألي هدفها المعنوي، فثمة صعوبات نحسها قد تجاوزها هنا، أو هناك، ولكنه أعطى غيرها تعويضا في مكان آخر. تتضح جليّة الهنّات الصغيرة والكبيرة، ويتحسسها القارئ؛ لأن القصةُ فنٌّ له خاصته في الجملة الموحية، وفي توصيل الصورة، وله أيضاً كلما ازداد القاص مهارة في معرفة ما له، و ما عليه كقاص، فيوظف مثلما يوظف الروائي الوثيقة في روايته، والشاعر في قصيدته. من الممكن أن يحول قصته القصيرة، وبكلماتها المعدودة، إلى فليم كامل له التقنيات الكتابية بدل العدسة السينمية، و قد استطاع القاص (عبد الحليم مهودر) في ذلك كما في قصة (مدونات الرقى- ص67)، وينبغي أن نعرج على الشكل الرسمي الذي نراه مرسوما في (ظل الرماد- ص65)، فلم يكن قد طاوع فن القصة، إطلاقا.
أخيرا نقول: المجموعة تستحق القراءة المتأنية، لأنها تميزت بحلاوة الجمل، وسرعة الأداء، وصارت تؤشر إلى كاتبها مبدعاً حقيقياً سيكون له الصوت المنفرد بين المجيلين، إن واصل المثابرة.. بين الذين يستحقون بمثابرتهم بالغ الحبّ.
الاثنين، 26 كانون الأول، 2005