عن أمجد توفيق

لنقرأ عن

برج مطر المبدع أمجد توفيق

بقلم

محمد الأحمد

شاقة وشيقة الكتابة عن رواية متوازنة يكون فيها الراوي قابضاً بثقة العارف العليم على مجريات روايته، ومتمكناُ من حدود تشظيها، و أتساعها غير المبرمج، ذلك المبدع يكون قد فاز فوزاً عظيماً في جهاده أمام تأجيل الاستسلام إلى شهواته الكتابية، ولذة المضي قدماً في الاختراع والخلق والابتكار.. تلك اللذة التي يهابها حتى الروائيون المحترفون لأنها السبب المباشر في التمرد الذي يؤدي إلى العصيان أحيانا، فتتوقف مسيرة هذه الرواية التي يكتبون، أو تتأخر عن الإنجاز على الرغم من إنها قد قطعت شوطا فاعلا في مسيرتها، لان الرواية المهمة تنجز ذاتها في ذهن خالقها قبل أن تنزل على الورق، وتكتسي لحماً وعظماً، ويكون وجودها فاعلا في حركة عمق التاريخ المكتوب، و الرواية بما فيها من موقف إنساني رفيع، يكون لها ما يبرر لها  أن تسمى رواية بين الروايات التي أنجزها عباقرة الرواية الكبار. إن مثل تلك الرواية تأخذ قارئها لتعطيه درساً في التكنيك الروائي تارة، و أحداث مقنعة، متواشجة بغزارة المعلومات عن حقبة العدوان السافر الذي مرّ على العراق كومضة صاروخ حاقد، أطلقه الأشرار، وتخلفت من جرائه مساحة في القول الروائي العراقي الذي يشهد له الثبات، والتمكن. ففن الرواية اليوم، عموماً، فن تكاملت فيه الرؤى، وصار يجمع كل العلوم التقنية، والجمالية. وغالبا ما يكون طموح الروائيين إنجاز رواية أخرى لأجل تجاوز هنّات صغيرة قد فاتتهم في السابق.. يدفعهم القلق المشروع في الانغمار مرة أخرى لإنجاز رواية أخرى… ففي المقدمة يؤثث الأصول الحقيقية التي تستند عليها الرواية التي كاتبها هو شاهد من هذا الزمان له سعة المعرفة بهموم وقضايا عصره الذي ينتمي إليه. يبوح بخريطة الجسد، وما يتعلق به من حس. حيث يجد الإنسان اعترافاً شاملاً بوجوده، وبكامل ثقله، عندما يرتبط بما حوله، من خلال حواسه جميعها، لأنه دونها مقذوفاً على سطح هذه الأرض مقصياً، دونها، ربما لكان طعاما سهلاً لغير جنسه، وتصيّر منقرضاً. حواسه نقطة ارتباطه بالمكان والزمان كما يؤكد الناقد الألماني ( غاستون باشلار) في كتابه الشهير (شعرية أحلام اليقظة)، فالحواس نقطة الارتكاز الأولى للإنسان، منها وثق الإنسان مدوناته، وبقيت بحسه مكتوبة، ترتجل الأزمنة، وتتحدى لأجل أن تتطور إلى رقيها. هكذا تبدأ رواية (برج المطر) بخطوط واثقة، وهي ترسم خريطتها المبدعة، وتتواصل بإيقاع بديع دون توقف مؤثثة مسارها بشخوص واقعيين، نكتشفها بيننا بموضوعية أحداث جرت على بلد أراد له أعداؤه أن يكون بموقع آخر من قضاياه العادلة. (ذاكرتي ترمم نفسها بنفسها، في احلك اللحظات، تنداح الصور، والأفكار، والكلمات دون رابط أو قانون ينظم علاقاتها أو يفسرها، استرجع نكتة في غير أوانها، وتقفز جملة هاربة كسمكة هاربة من سربه..اشعر أن ثمة طاقة، أو قوة تمنحنا الأسباب لنعايش أي ظرف- ص29). يعتني (امجد توفيق) برسم الخلفية الأساسية للشخصية الرئيسة.. يعود بها إلى الطفولة، وماهية تكوينات مجسماته الحسية للعالم وأشياءه المترابطة، من فهم كيفية المساس بالاكتشافات المعرفية المكتسبة من خلال التحسس البعيد والتحسس القريب. عالم لوني قائم على معارف مكتسبة متعلماً منه بكل حسه كالطائر (وهو سعيد بلقبه- ص11) الذي يرى الأشياء في هذا العالم من الأعلى. يطالعها بعينين مفتوحتين على المعرفة، وينهل من تجاربها بكل ما تبهره الألوان، والأفعال. تحرك قلم الراوي مثلما تتحرك عدسة الكاميرا السينمية التسجيلية في مساحة تحدد فيها الزمان، ببراعة أجادها تنوع التشكيل الجميل، بتعدد طرق الإيحاء اكثر مما تعمل على إيضاح القصد، وهذا من سماتها كفن قائم لذاته، يتخطى الفنون برسوم موحية تتكامل معانيها عند القارئ الذي يعرف مساحة تجواله الشاسعة، بين الكلمات التي تعكس عالما متكاملا تغطيه بما احتوى من وقائع، يبوح بما يريد حسب إمكانيته الموضوعية في الفن الذي يمارسه بقدر إجادته (يتوقف على القوة الموحية، والحيوية للشكل القصصي كمحصلة متأثرة بالواقع، ومؤثرة )، فتحمل من المكان الحيوية، والحركة الدائبة في تسلسلها الذي حدثت فيه، تأخذ الصوت المعبر عنها، والرائحة، والطعم، وبقية الأمور الأخرى… في هذا العصر الذي بقيت الفنون كلها تسعى إلى إمكانية التكنولوجيا، متداخلة معها، و تتحدى سرعتها التقنية، وسعة إمكانياتها الكبيرة في كل ما حولنا من مفردات الحياة، لتصبح في فعل مضارع يسير ضمنا، ويتطور علنا بمسيرة انفتاح العلوم على بعضها، وتداخل العوالم، من حيز إلى الحيز الآخر. مسيرة الرواية:- جولة أثناء العدوان، وبعده. الصورة تفتح افقها إلى المتمعن في حركية المعنى.. جولة في شوارع (بغداد الأبيّة) أثناء مقاومة العدوان الغاشم الذي تقصد أن ينال من البناء، الجسور، والزهور. تنبض الصورة بكل ما  يستحق أن يدين به الروائي أعداء بلده. اعتمدت الحوار الذي  يختصر الوصف، و يكثفه الحوار المتواصل بهدير ثابت الخطى، يعرف أين تكمن الفكرة الرئيسة فيوثقها في وثيقة الرواية.تلك التي يقول عنها (كارلوس فونتيس) الرواية تقول ما يحجبه التاريخ، إن  الوثيقة في الرواية المعاصرة سرّ من ابلغ أسرار الإبداع الروائي، إذ هي ديمومة بقائها و ثباتها بين الفن الروائي، فما من رواية تخلت عن الوثيقة، و استطاع التجنيس الأدبي أن يدرجها في خانة الروايات. ما لم تعتمد الوثيقة العمود الفقري، الذي يشد أوصال جسدها، ويقومه… (جمعت لوعات الأمهات، ودموع الصبايا، والآمال المخنوقة في صدور الرجال، جمعت أحزان الأغاني، وأصوات الأجساد الممزقة بالرصاص، وبجنازير الدبابات، ودهشة الأطفال المحاصرين بالخوف والجوع، وعدم الإدراك، جمعت القسوة و الحقد، و ومستنقعات السوء - ص 49)…ان هاجس ربط اليومي بأحداث الرواية جعلت من القاص (امجد توفيق) ينجح في تسجيل الصور المتواترة، صورة الأب العصامي بمبدأيه التي رسخت الراوي في الرواية على التحدي، فأهلته إلى مشروعية ما يفكر به من رجاحة عقل. أو صورة الأعمى الذي ارتبط لديه الخبز بالجنس، تؤيد نظرية (بافلوف) عند قرع الجرس.تمثل تأكيده على تحدي آلية النقد القديمة، و ليس الغرض هنا أو هناك أن نستنفد واحدة تلو أخرى، ولكن تلك الصور المتنوعة مؤشرة لصالح الرواية المبدعة فللأطفال ، النساء، و الشيوخ، ملامح عراقية خالصة، و لها أن تبوح من هذه الرواية بطهارة الصوت اسم العراق العظيم.

Author's Notes/Comments: 

mu29@hotmail.com محمد الأحمد  


View alahmed's Full Portfolio
tags: