عن شعراء من البصرة



عزلةٌ من زمرد.. عنادل بصرية

مجموعة شعراء

قراءة: محمد الأحمد

يكون الشعر في اغلب الأحايين حافة حادة تسلط الخطاب بكشف واع لينتقل الإنسان به من حدود المعنى الخاص، إلى التفعيل العام متوسعاً نحو حيوّات الإنسانية جمعاء، ويفجر مجازاً بالصوت المدوي كل الأسرار ليبوح بصوت جهور عما يقولبه، ويعزله، ويقصيه عن إنسانية الإنسان المتحضر، (تعبير عن رؤية الشاعر لما حوله من وجهة نظر تتصل بحقيقة من الحقائق، وهذه الحقيقة ليست في طبيعتها فردية، بل اجتماعية، فطريقة التفكير لطائفة من الناس تفرض نفسها على أفراد تلك الطبقة من الكتاب ) فالشعر أداة إنسانية فريدة لا تقطع العزلة، فحسب. بل وتشتتها ليكون الإنسان ذلك الكائن الاجتماعي الرائع بين إنسانيته، ويأخذ دوره الأكيد المتكامل، و كعلامة تميز.. حيث يندلعُ الشعر أواراً في الهشيم ليشتعل موقفاً مضيئاً كامل الزهو، عذب البوح، وشارة ضوئية تعي الانتقال من الحياة المقفلة إلى الحياة المفتوحة.. تتشكل عنادل بصرية (كريم جخيور، فرات صالح، عمار علي كاصد، علي عيدان عبد الله، هاشم تايه، و عادل مردان) شبيبة (بلا ألقاب ينشدون، دائماً دون وصايا، شعراء الجنوب العتيد، عزلتهم من زمرد) بصوت يتعدد في النشيد، ويتمحور في انطلاق يضمه كتاب (عزلة من زمرد) الصادر عن دار فنارات التسلسل الأول، وهي سلسلة أبداع يصدرها اتحاد الأدباء و الكتاب العراقيين في البصرة..

عزلةٌ من معنى، ومن زمرد، وكريستال، وبارود... عزلةٌ كلام بليغ يفوح سنيناً طوال في احتراف الوجل، والعنفوان..(لكي تمرّ الهزائم.. تحتاج إلى تلالٍ من العبيد، رقص وذبائح، النصر يكتفي بباقة ورد أو شاهدة- ص9).. عزلةٌ تحتفي بنصرها على الحزن، وغاباته المنتشرة على سفوح الانبهار، فتارة يكون الشاعر الأول.. مفتتحاً لنغمة تمهد لصيحة يتأهب إليها الشاعر الثاني الذي يختلف عن الشاعر الثالث، والرابع، والخامس، والسادس.. كما يشتدُّ العزف بنغمات مؤهلة لأن تلتحم مع بقية النغمات الأخرى، وتكون النشيد الجميل، في الوحدة الكتابية الممتدة على صفحات المجموعة الشعرية (تعال جواري قليلاً؛ مسّد بضوئك جوعي، احتطب الروح من غابة الرماد، واصطفيني شعلة يخذلها الآخرون، لا خرقة امتطي، لا صلوات في خلوتي، و زوادتي رعشة البكاء، أوصلني الحرف إليكَ، تبارك حرفي، أن تكون أنا- ص18).. نغم كما في كورال متقن، يفيض عفوية، ويشعّ ألقاً بديعاً (ممتعٌ وقوفك فوق هذه الربيئة، معتمرا قبعةُ الشمول، ونظارة الأزل.. ترى ما لا يراه الآخرون: الطرق المؤدية، الأسباب الموجبة، الأشياء حين تولد، وحين تفنى، الأزمنة المتحركة، المخابئ تحت الأرض، السكين خلف الظهر، الزوجة في أحضان الصديق، والطفل في أحضان الموت، ممتع جداً وقوفك هذا، لكنه في الوقت نفسه مؤلم جداً لدرجة انك تتمنى النزول في اقرب فرصة- ص25).. أكثر من إشراقة في المقطع الواحد بفكر القصيدة، إلا إن الشعر ماثل فيها كامل البهاء، قصائد (أو مقطوعات نثرية) يتصاعد فيها الكشف المتواصل، جيل تواصلت عليه المحن على مدى مساحات تنفسه، وخلفت عليه تلك الحروب معرفة، وآمال متواصلة دون يأسٍ، ودون قنوط؛ جيل احتقن ربيعه بالحروب، والويلات.. (لخيولي ينصب الجدران، لعجلاتي يخترع العصي- ص34).. رحلة تأمل جديدة يضيفها الشاعر(أي شاعر) إلى تراثه... يتبادل فيه الشعري والفكري مكانيهما يستشف القارئ، العلاقة المبهمة، إنما الأكيدة، بين الشعر والفكر، إذ يحمل الأول في هيمانه جذوة الفكر ويرسم الثاني في وضوحه مسحة الشعر، جذعان متجاوران يستمدان شعريتهما من الكينونة.. (صباحُ الخبز، والأحلام المقضومة.. صباحُ التساؤلات، والوجوه المقطبة.. صباحُ الزيق الهادل، والجيب المثقوب.. صباح المقاهي والتجوال.. صباح القصائد من لحم ودم تهتك امن الآخر، تحفر قبور التواريخ، ترقع عري صاحبها.. صباحُ القرب الفارغة بلونه الداكن تنكثٌ رمادها في عيون السابلة، ضيعت فردوسها، واحتفت بالخواء.. صباحُ الطنافس مرصوفة حول العرش؛ ليكن ماؤك بارداً، وعيناك في أفق بعيد، الأطفال حمائم بيض بزغب حالم، حليب أحلامهم يبعد الشقاء.. صباح الخير لكل هذا ممتناً لهطول الأمطار على ذوبان ثلوجي-ص37).. لغة الحنين تفتضح المقاصد في كتاب (عزلة من زمرد)، يقول قدامة بن جعفر(إن مناقضة الشاعر نفسه في قصيدتين او كلمتين-بان يصف شيئا وصفا حسناً، ثم يذمه بعد ذلك ذما حسنا بيننا غير منكر عليه، ولا معيب من فعله، إذا أحسن المدح والذم، بل عندي يدلّ على قوة الشاعر في صناعته واقتداره عليها-نقد الشعر ص14،16)، فتؤشر لصالحه، ويكون مستحقا للقراءة، لأن (الشعراء) من منبع واحد –الكينونة- لكن يستقلّ كل منهما انفصالا عن الآخر، تفاوتا في الحس والتعبير عنه مستخلصين الشعري والمتأمل (لابد لي أن اقرع دمي كي تجيئني أعضائي كلها، لابد من طيرين اضعهما في قدمي، وبيت ارتديه، وامرأة تعدُّ فطوري، وطفل اربّت على شعره حين يشيعني إلى الباب-ص81).. عزلة طموحة ترتدي ألواناً، وتبوح أسرارها.. فـ(العناء لا يخفف من شكوكه، يتألق من اجلنا، وينمو لبلاب طموحٌ، يتوج واجهة المنازل-ص 88).. و لكن أحيانا في الكتابات المتشابهة أو بمحاولاتها الخاصة على الدرب الشعري العراقي يرسمها حساسية الشاعر التالي (أي شاعر) في إشراقات الأول، ولا دقة الثاني والرابع لم تعق كينونة الأول أو الخامس، والسادس في الإعراب عن نفسها وفحواها، لأن الشعر يفوق فنون الموسيقى موسيقىً، وابتكاراً.. فقد أبقته الموسيقى عفياً يبوح بكل ما يؤرقه. نهنئ الدار البصرية إنجازها النبيل، وهي تكشف عن أصوات اقتدرت على همها، ليكون صوتها الذي تفخر به.










Author's Notes/Comments: 

mu29@hotmail.com محمد الأحمد  


View alahmed's Full Portfolio
tags: