عن كاظم الحجاج

غزالةُ الصبا

شعر:  كاظم الحجاج

قراءة: محمد الأحمد



يكشفُ الشعر على الدوام، وفي كل الأزمان عن سرٍّ عذب المعان، كما الماء الرقراق للعَطِشْ، ليبقى خالدا في الذهن يتحدى الطمر، والغمر لأنه الموقف الحاد- للشاعر من الحياة التي خلفته يركب عجلة الكلمة ملحقاً بلا تردد، أو توقف، محاولاً أن يلحق بركب الحياة التي انفرطت من العمر، وخلفته متمنياً صِبّاً لن يعود، وحلماً يتكامل تدريجياً كلما وصل مقترباً من نيل هدفه يجد نفسه قد خسر من خلاياه اعزها، وهاجمته شيخوخة مبكرة أسقطت ثمارها على الجسد وصيرته موهناً لن يلحق أبدا بحيوية ما كان ينوى عزمه... فكل محتوى كتاب (غزالةُ الصبا) الصادر عن دار الينابيع للنشر والتوزيع-1999م للشاعر العراقي (كاظم الحجاج).. تفاوت محتواها على عدة مستويات من النصوص, مستوى تميز بالطول والمتن الحكائي ومقاربة مقاصد معقدة وكبيرة في آن، إنها حملت معاني بلغة جزلة امتازت بالكثافة, والمستوى الآخر حفل بنصوص قصيرة لم تخرج موضوعاتها عن رصد حالات وتفاصيل صغيرة بتكثيف شديد وسمات أسلوبية واضحة من نشيج حزن بليغ ذات رنين خاص، برمته يكشف عن تمثل لدلالاته، فقراءة الشعر لها فعل نشاط تبادلي ما بين القاصد والمقصود، وما ينطوي عليه من إمكانيات تختص بها الشعرية العراقية تثري المدونة الشعرية الكونية, كفتح آفاق رحيبة للدلالة الشعرية, وأيضاً كاستراتيجية نصية, تبادلية بين الشاعر والقارئ، تقترح ممكنات عديدة للبوح الشعري. فتداخل الشعبي مع ما سواه من حقول صوفية وأسطورية, تحول إلى ما يشبه المفتاح للرؤية الشعرية عند الشاعر الذي يستثمر في ما يسعى إليه من احتفال بالإيقاع والحركية. يغري بالمقارنة لأجل الاستنتاج.. بين ما كان سابقاً، وما آل إليه اليوم، في كل تفاصيل الحياة.. معترفا بحرفٍ واضح بأنه ما زال (فتى كالبرتقالةِ شاحبٌ، والبرتقالة لا تخافْ؛ لكنّما.. يصفرُّ وجهُ البرتقالةِ كلما قرب القطاف- ص22)، فتكون القصيدة خزينة الأسرار المليئة بالكنوز هي الشاعر برمته، بوعيه، بأيدلوجيته لأنها تسفر عن وجهها بملامح إنسانٍ حساس مرهف، ينزوي وراء معانيه، ويستظل بها، ينشدها بأروع الأوتار، يغنيها بأغلى حبال صوته، لأجل أن يسعد بها من حوله، برسالة فيها ما يودّ تمريره، لأنه يعي إلى أين تصل مخارج حروفه التي نحتها بأغلى ما عنده من خلايا لأجل أن (يناسب الشكل المحتوى عند الشاعر الكامل، ويتطابقان، ويصح دائما أن نقول إن الشكل والمضمون هما الشيء نفسه، مثلما يصح أن نقول أنهما مختلفان- ت س اليوت).. حيثُ يكون الشعر أفقاً لفضاء القصد، ويكون سراباً لحدود المعنى، ويكون ثقباً في مكان ما من الأرض يبتلع سفن التيه عندما يعي الشاعر مكانه في زمن الاستلاب الثقافي، فالأمكنة كلها محاصرة من الداخل، ومقصية عن كل خطوة.. فلا قدم توصل المعاني إلى المقاصد، و لا المقاصد تنظر أحداً يلحق بركب معانيها.. فكم من معنى اختفى وراءه القصد ليشير بكل ثقة إلى ما يكون الإنسان ما به من انتهاك متواصل الرموز، فيكون العقل القديم واقفاً كالأخدود العريض.. معرقلا للعقل حداثويته، وتجريبه الفذ الذي قطع بالآلة المكتشفة ما لم يقطعه الإنسان طوال تاريخه المدوّن.. والشاعر يعرف بتلك السيوف الملوحة بجزّ الرقاب الخارجة عن السياق الذي يرسمون على من تجرد من السلاح، ولكنه يسير مكتشفا لن يثنيه أحدا، و لا تلك الآلات القمعية التي أوجدت لحصد الأنفس..(أعمار الخرفان تتراوح ما بين الراعي، والجزار- ص49)، فيكون الشاعر من يعي عمق صوته في الزمن الكثيف بالأطماع.. ملوحات بسيف أقوى من سيوف الرهبة... (فرحي قليلٌ في المرايا، ولأني أحببتهُ؛ كسَّرتُ مرآتي ليكثر.. في الشظايا- ص23) فالشعر سجل المغانم، والمواقف يتخطى الشفاه التي روته، والأنامل التي خطته، والعقل الذي أنجزه، ليؤسس مكانا في ذهن من تلقاه، ويتحول إلى مخلوقٍ يشغل حيزاً في الكون التراثي له كيان، وحس، وعمق. يطارد كل خارج عن السياق الإنساني ووكل منتهك للحق، ومقصر عن ركب الحضارة.. يقصُّ القصص باقتدار كما في قصيدة ( حكاية العبد آدم وعين الغزال- ص 81) ، ويبوح بالأسرار.. هكذا عهدنا منذ أنشودة الخلود العراقية، وحتى يومنا هذا. فالشعر الذي بلا موقف.. لن يثبت في الموروث، ويكون هشاً منسياً يترك في أول محطة.. ليستقر بديله صاحب القصد والغاية. (تساقط الأيامُ فوقَ العمر يا ورقَ السنين كنْ مرة شجراً شجاعاً، واتَّحدْ.. ضد الخريف-ص11).. في شعرية متمكنة من القصد يرى الشاعر نفسه قد بلغ من صباهُ عتياً، وصار يتنفس في غير زمنه.. فقد زالت النظارة للجسد، فتجعد الجلد، وغزا الشيب سواد الرأس.. فصبا الشاعر العراقي ينهض من الهشيم كلما لاح له ذلك الصبا الذي عبر عِبْرَ أزمنة التحولات الانتقالية من الجهل المقيت حتى النور السليط، ولم تحرم الحرمان من عدم التناسل في ربيع الأرض الثرية بالبترول والحضارات. (نفكّ صرة الحزن بوجه الضريح؛ نبكي- يقول والدي- لنستريحْ، فالشرقُ دمعتانِِ: للحسين- يابنيَّ- والمسيح- ص14)... حيث بقي الشاعر راوياً تقناً حرفته، وراح كما شهرزاد تقص الحكاية تلو الحكاية المتولدة من حكاية أخرى.. يشد المتلقي.. شهريار) فهو يعرف انه بالشعر يبقي على حياته من السفح والذبح.. القارئ لا يفارق الشاعر الناشد، فالشاعر (أي شاعر) تاريخ نتائج قبل أن يكون كلمات، وصور، ومفارقات.. قبل أن يكون مخلفات أرواق وحبر، (أفكر الآن في مقص كبير- ساقاه تكملان يدي فلاح عتيق- أو أفكر في صحيفة قديمة، قديمة جداً.. مرَّ على صدورها عام كامل، أخفى بداخلها منجلاً، أو منشاراً حتى.. ليس لأجل شيء عدواني أو شرير سوى إنني أريد أن احني رأسي.. لم يسبق لي أن حنيتُ.. هذا المولود على رقبتي منذ 1942م، لم احنه لشيخ قبيلة أبي، و لرجل دينه، ولا لأبي حتى. ففي مدينتي ما زالت هناك أشجار ضالّة، وهناك شجرة أخرى لم تمت لحد الآن.. شجرة كالبتوس- فلاحو البصرة يُحرفونها إلى قلم طوز- تتدلى أغصانها هكذا:- عفوا لا أستطيع تقليد انحنائها، الشجرة المنحنية- كما لو تسأل طفل أشجار تائهاً عن اسم أبيه... شجرة الأقزام هذه تخيرني بين أن تخدش رأسي أو انحني لها؛ فتخدشهُ كل يوم حين أمرُّ تحتها.. في الطريق إلى مقهانا حيثُ ينتظرني هناك سكيرو الشاي.. أصحابي المدمنون على بعضهم- ص19).. يطوف من زمن إلى آخر محاولا لحاق الصبّ الذي غادر عاجلا تحت نير الحروب التي ابتلى بها العراقي كونه عراقيا راقيا في كل نفائسه (يا زمان الشناشيل دار الزمان دارنا لم تعد دارنا.. جارنا لا يسلم من قلبه- في زمان الشناشيل كنا نسلم من قلبنا.. وخدود البنات لم تعد تتورد من خجل- ص 67) وكما يبدو الاهتمام بعنف الخطاب (اللغوي في علاقته بالفكر الأصولي مسألة بالغة الأهمية في هذا السياق, فهو اهتمام يكشف عن الدوافع المحركة للإرهاب المادي, والمقولات الفكرية التي تنتجه وتكون سبباً مباشراً أو غير مباشر لجرائمه المنكرة. وتقترن ضرورة تأكيد هذا الجانب بحقيقة أن دوافع القمع المادي وأسبابه تراوغ في الإبانة عن نفسها أحياناً, إما على سبيل التقيَّة أو غيرها, وتتخفى وراء أقنعة مخايلة, تخفي الوجه البشع وراء القناع, أو تدس السمّ في العسل- جابر عصفور ).. يغترفُ شعر كاظم الحجاج متلقيه فيصيبه مأسورا، ويجعله يستقي منه أسرار المعاني (حتى رصاصات الجنود رصاصاتٌ محظوظةٌ: تلك التي تخطيء أهدافها، ورصاصات تعيسة: تلك التي ترتكب أمجاد الحروب- ص 12)، فما (أسهلَ أن يلقى حجرٌ في الماء ليشوّه وجه البدر -ص50).. بعد أن خلفت الحرب أثارها السقيمة في ألذات، خلفت موقفا لن تسقطه الذاكرة، يبقى شحنةُ انجاز أكلت من العمر ربيعه (الجنود في أجازاتهم يدخلون المكتبات، فمتى تدخل المكتبات إلى الثكنات- ص32).

(غزالة الصبا) اسم جميل لمجوعة شعرية يذهب بنا إلى البيت الشعري الجميل للشريف الرضي (إلى أن تراءى السرب بين غزالة ترنحُ في ثوبِ الصبا وغزال).


Author's Notes/Comments: 

mu29@hotmail.com محمد الأحمد  


View alahmed's Full Portfolio
tags: