(Erich maria remarque)
رأينا أفضع وأقسى مما رأته الإنسانية جمعاء، فالحروب العراقية حملت بتتابعها مستحيلا، لا يمكن لغير العراقي نقله.
(ليلةُ في لشبونة)
ذكريات مع الكتب:
تأليف: إريش ماريا ريمارك
قراءة: محمد الأحمد
mu29@hotmail.com
رواية لن تنسى أبدا، وكاتبها كان يحلم في احتراف عزف (البيانو) لتعلقه الشديد بالموسيقى الكلاسيكية، إلا أن إصابته البليغة بشظية أتلفت له الرسغ الأيمن خلال الحرب العالمية الأولى، جعلته يتحول من حبه الكبير إلى الكتابة الحب الآخر، وكان ناجحاً فيما أنجز، فوصف بـ(قوة ملاحظة دقيقة، واقعية غير متكلفة، الشك، التشاؤم، ارتباط عفوي بالمجتمع وهمومه ). أما هو كان يعبر عن تميز كتابته، وبساطة لغته، (لا يمكن لأحد أن يصدق الصعوبة التي أخلقها لنفسي، بإصراري على الكتابة بصورة مفهومة، وما تقرؤه بسهولةـ آملاً ذلك ـ ومن دون أية صعوبة، هو نتيجة الجهد، في الصقل الكثير، وفي التبسيط والتعديل)، (ويمكنني القول بأنني أحقق هدفي حينما يتمكن الرجل الذي في الشارع من فهمي)، يعدّ كاتبها احدُ كتاب الروائع الأدبية التي لم تحظ بالاهتمام الكافي من قبل الدارسين، رغما من أنها نقلت إلى ما يزيد على خمسين لغة، وبيع منها ملايين النسخ. فمثل رواية (ليلة لشبونة) المنشورة في عام 1962م، (الطبعة العربية الأولى 1983م) يمكنني أن اعتبرها رواية الروايات، ليس لكونها هزتني هزّاً عنيفاً يوم أن قرأتها، لتشابهها مع ما كنا نعيشه، أو كانت تفتح عيننا في الظلمة الدكناء فحسب؛ وإنما مازلت أتذكرها برائحتها، وحرفها المطبوع، وحتى غلاف الورق الذي وضعته عليها، لأحفظها من تعرق اليد، فقد كنت يومها جندياً في حرب الحدود، ورغم ذلك كنت أظن باني قبل أن اقرأها، باني استطيع أن اكتب الرواية بيسر، ليس لأني لم أك يومها قد قرأت رواية مهمة، بما مسستني فأعطيتها حقها، كما أعطتني، حيث كنت في سن الثانية والعشرين، مشغولاً بالحفاظ على حياتي من زحمة الموت الذي بعثر الأخوة، والأصدقاء، وباحثاً بين أقراني عن رواية حقيقية تشغلني، وتهزني. اقصد احلم بكتابتها، وسبق أن ملأت دفتي احد الدفاتر الأنيقة، ورحت يومها مدونا أحداثاً مرت بي، و لها من بعض الخيال ما أسميته وخططت على الغلاف (رواية) وسمتها بـ(بحثا عن ذاكرة أخرى). فعلا كان ذلك الشعور ملازماً لي يقضّ هنائي، فوجدتني برغم قصور أدواتي الكتابية، فأنها تخوض في الممنوع الخطر، إلا إن تلك المحاولة، بعد أن ذرفت دموعا غزيرة أناء (ليلة لشبونة)، وقد بدت لي محاولتي تلك مفككة، ولا يمكنني مهما حاولت أن اجعلها (رواية) تستحق مني المصطلح، فحقا كانت (ليلة لشبونة) رواية بحق، تعزز مصطلح التجنيس الروائي كما يذهب إليه النقاد. ويومها لم أكُ قد قرأت لأحد من أقراني رواية حرب حقيقية، ولا من الجيل الخائب الذي تصير معظم كتابه (تعبوي)، (مُتعب) يسعى وراء اللقمة السائغة. يومها بدأت أحداث الرواية في سنة 1942م، وفي خضم الكثير من الاضطرابات، والتحولات الخطيرة الخاصة بـ(أوربا)، بسبب بدء الحرب العالمية الثانية مع (ألمانيا)، بطلها مواطن ألماني يحاول الهروب من (لشبونة) البرتغالية إلى قارة (أميركا)، ولم يك يملك وصديقته تأشيرة الخروج، ولا المال اللازم لدفع ثمن تذكرتي السفينة، و قد بيعت التذاكر بأكملها. توضح بذلك الاختناق، وضعاً صعباً، وميئوسا منه. ففي تلك الليلة الليلاء، كان الشاب واقفاً على رصيف المرفأ، يحدق ساهما في نشيد حريته، بعينيه السفينة التي تحمله إلى برّ الأمان، فاقتحم عليه خلوته رقيباً قد تابعه من مكان إلى آخر حتى استوقفه، غير معروف له، عرض عليه صفقة العمر، بأن يعطيه التذكرتين اللتين تخلصانه وحبيبته إلى برّ الأمان، مقابل الاستماع إليه، لمدة ليلة واحدة، حيث سيروي له قصة حياته التراجيدية. لحظتها تذكرت حصان (تشيخوف) العظيم الذي استمع إلى حوذيه ليلة كاملة وهو يروي قصة موت ولده الأليمة، وهذه (القصة) كانت أليمة أيضا، كتلك. فهي قصة هروب احد الرافضين لمناهج التعنت الفاشي إلى خارج ألمانيا، وتخللتها قصة حب لن تنسى، تبدأ قصة الرجل الذي يدعى (جوزيف شفارتس) بعودته إلى بلدته (أوسنابروك) سرّا، لرؤية زوجته (هيلين). و(هذا ليس اسمه بل اسم صاحب جواز السفر الذي يحمله بطل الحكاية)، لأجل اللحاق به، بعد أن يخططان معا للهرب إلى الولايات المتحدة الأميركية. تبدأ رحلتهما بالهرب من أجواء الفكر الواحد الطاغي بالخوف، والعنف، والألم، فالكثير من الحكومات الفاشية منذ ذلك العصر، ما زالت تحافظ على تقاليدها العريقة في اختطاف المواطنين وإخفاء آثارهم. (لاحظت النظرات المندهشة ولكنهم تأكدوا من جدية موقفي ابتعدوا عني واخذوا يتحاشونني. العائد إلى ألمانيا يعني: المتنقل من معسكر لآخر، يعني جاسوساً، فهل يعقل لرجل أن يعود لبلد يحتقر حاكميها؟ ازدادت الشبهات بي لكوني مكثت لفترة طويلة في الخارج وبعيدا جدا عن ألمانيا. أخذت اقرأ التساؤلات في عيونهم. بماذا سيشي هذا الشخص وبمن ؟ فجأة شعرت بالوحدة بعد أن تحاشاني الجميع وكأنني قاتل حقيقي. لم استطع توضيح موقفي خاصة وإنني نفسي أصبحت أصاب بحالات تعرق وضعف شديدين نتيجة الخوف خاصة عندما أفكر جديا بما أنا مقدم عليه كيف لي أن أوضح لغيري ما أنا مقدم عليه- الرواية ص24). وحينما يصلان أخيرا إلى حدود مدينة (لشبونة)، تموت (هيلين) المصابة بالسرطان، ولم تك قد أعلمت زوجها بمرضها الناخر، فقد حاولت طيلة الرحلة إخفاء معاناتها عنه، لتتمكن من دفعه إلى حريته، رغما عن كل شيء، لأنها تعرف بان حبهما الكبير هو الذي سيحقق لحبيبها حريته، لكنها في النهاية وعندما استنفدت طاقتها الجسدية والنفسية قامت بالانتحار. لتخفف عنه العبء، فتكون المأساة أكثر وقعا في نفسه، بسبب موت (هيلين)، يفقد رغبته بتحقيق أمله الذي كلفه غاليا، ما كانت الآمال الكبيرة ليست مبنية على الفردية المطلقة، و(لكنها تربط بمن يحيط بنا، وما يستحق منا هو أن نكون معهم إلى آخر المشوار )، فقد عدل (شفارتس) عن حلمه بالذهاب إلى (أميركا) وبدء حياة جديدة حرة، وبفقدان الدافع الأكيد لتحقيق ذلك الحلم، بصحبة من يحب. والبديع في تبرير حكي الحكاية بان (شفارتس) قرر أن يروي قصته لأحد ما كي يحفظ ذكراها، فهو يدرك بأنه يريد لقصته أن تبقى حية في ذهن شخص ما، مثلما فعل (تشيخوف) ببطله، بدلا من تحولها إلى رماد النسيان. كانت الرواية صورة مأساة الحرب الحدودية التي كنا نعيشها، وكانت تلفنا بمحاورها الدامية. تجعلنا اقرب إلى تلك الشخصيات الحقيقية، فليس من السهل على القارئ التواصل مع الشخصية المحورية، مقتنعاً، إلا لكونه كان يقرا أحداث يومه من خلالها (ترجمة ليلى نعيم)، لكون المشاعر كتبت بطريقة حقيقية وإنسانية، واستطاعت الترجمة أن تخترق الحواجز اللغوية، وتصل إلى أي منا مهما كانت لغته، كونها ذاكرة حقيقة للشعب الألماني، فهذه الرواية ليست مجرد فعل هدفه التشويق، أو الإثارة، فبعد قراءة بضع صفحات، يعرف القارئ بأنه يدخل في عمق الحياة وصدمتها، ويعيش مع قصة حب نبيلة تمثل جميع المعاني الإنسانية. حيث كان بطل الرواية قد عاش حياة كاتبها، أو كاتبها عاش حياتنا، وقد مرّ بظرف بطلها، فكلاهما مهاجران، وجواز سفر (شفارتس) يحمل تاريخ ميلاد (إريش) ذاته، وينتميان إلى البلدة ذاتها (أوسنابروك). وقد حمل الكاتب حزنا كبيراً من جراء قيام النازيين بإعدام أخته في برلين في عام 1943م وكان حينها في الولايات المتحدة، وقد قال القاضي النازي لشقيقة (إريش ماريا ريمارك) خلال المحاكمة، (ربما تمكن أخوك من الهرب منا، إلا أنك لن تستطيعي وستدفعين ثمن خيانته، اليوم وليس غداً!!). (علماً بأن مدينة (أوسنابروك) الألمانية التي ولد فيها ولد في عام 1898م، خصصت فيما بعد ذلك جائزة للسلام باسمه منذ عام 1991م- عن مجلة المجلة الألمانية). فقد أنقذ الكاتب حياة بطل روايته عدة مرات، ولم يك ليتسنى من دونه النجاة من الحرب، فظلت ليلة الرواية كإحدى الليالي الطويلة في التاريخ، وبقي بها كتابها محتفظاً بمكانته الرفيعة ضمن الأدب الإنساني، رغما عن ما واجهته مثل تلك الأعمال الصادقة الفاعلة من عواصف الاحتجاج، وتقليل الشأن، وخاصة من قبل الألمان النازيين، المختلفين في المنهج، والرؤية. حيث لم تك تلك الروايات إلا لتحمل وجه التاريخ الحقيقي الذي غفل عنه المؤرخ، فدونته الحقيقة، إذ صورت قبح الحرب، لقد أبدع (إريش ماريا ريمارك) في رواياته جميعها (أنا لم أسع إلى إلقاء - نظرة طائر شاملة- أو خاطفة على الحرب، بل قصدت إلى أن تكون - نظرة دودة- تتلوى بين الخنادق وتعيش التفاصيل، وتنقل إلى القارئ أدق المشاعر والأفكار والخلجات- مقدمة طبعتها الأخيرة). وفي مقابلة أجريت معه في عام 1946م، ويؤكد مناهضته للحروب. (نحن نؤمن بالمستقبل.. المستقبل الأفضل. العالم ينشد السلام). وأما الجائزة الرفيعة، تلك، التي تمنح كل عامين للأعمال الأدبية أو الفنية أو العلمية المساهمة في تكريس السلام. ككاتب مبدع، احتفظ بشعبيته خلال الأربعين عاما من حياته العملية، قد أمضى معظم حياته بين متنقلاً، ومن بعد أن عاش طفولة هادئة سعيدة في مدينته قبل بدء الحرب العالمية الأولى، فهو من الكتاب الذين كان لهم تأثيرا قويا على جيل الكتاب التالين. كونه أول من وضع أسس كتابة أدب الحرب في القرن العشرين، وتجلى هذا التأثير في روايته الأولى الشهيرة التي نشرها في عام 1920 (كل شيء هادئ على الجبهة الغربية) ويبين فيها رأيه بأن أخطر ما في الحرب أنها تدمر قيم العلم والأخلاق. وتجعله بدائياً، وتخلف في خرابها الذي لا يمكن أن يستوي على حال، إذ تأخذ منهم أنبل ما فيهم من خصال. كذلك رواية (وقت للحب ووقت للموت1929م)، (وقد ساهم هذا العمل في تغيير أفكار الكثير من المسئولين في الحكومات. وسيان ما بين الأمس واليوم، أمس يوم الروائي واليوم (الحكومات ذاتها)، في كل واجهات الأرض منعت الجنسية عن كل مواطنيها الرافضة نهجها. وقامت الحكومة الألمانية بتجريده من جنسيته في عام 1939م ). بعد نشرها بعام وصودرت تلك الرواية من الأسواق وحتى المكتبات الخاصة، وكذلك (الأفلام) التي حملت مضمونها، من قبل النازيين، وكذلك كتبه اللاحقة كـ(طريق العودة) التي سجل فيها حياة الجنود بعد انتهاء الحرب، وما حلّ بهم من دمار نفسي. بعدها استقر في سويسرا في عام 1931م، وهناك كان قد كتب (المسلة السوداء ) و(قوس النصر )، و(الرفاق الثلاثة1938م )، وحولت معظمها إلى أفلام سينمائية ناجحة جدا، وشوهد الكاتب نفسه في لقطات فليم (كل شيء هادئ في الضفة الأخرى)، المأخوذ عن رواية له بنفس الاسم، والجدير في الذكر، أن هذا الكاتب قد بدل اسمه لاحقا بالاسم الثاني (بول) وهو اسم أبيه اسم أمه (ماريا)، التي كانت تربطه بها صلة عميقة ومتينة، وقد تميز بين أصدقائه بحبه الشديد للأناقة والملابس الزاهية، وتزوج في مطلع شبابه من ملكة جمال ألمانيا (إلزا جين زامبول)، وبعد انفصالهما، تزوج من نجمة السينما (بوليت جودارد) وذلك في عام 1958م، وفي 25 سبتمبر 1970 توفي في مدينة (لوكارنو) مقر إقامته في سويسرا، ودفن في منفاه.
وبعد: أما من حقي اليوم أن اسأل متى سيظهر أدب (الحروب العراقية) التي مرت على الأديب العراقي المبدع، بقرونها الطويلة، الثقيلة (مجازا) بعد أن تغير عليه ما تغير، وصار إليه ما قد صار. أما من رواية مغايرة لتلك الروايات التي لم تستحق منا حتى أن نبقيها في أرففنا مكتباتنا المقصية؟. يبقى السؤال شاخصا حول الأدب الحقيقي للحروب العراقية، متى يكتب، أو متى يظهر إن كان مكتوبا، ويبوح بأنه قد رأى أفضع وأقسى مما رأته الإنسانية جمعاء، فالحروب العراقية المتواصلة حملت بتتابعها مستحيلا لا يمكن أن ينقله سوى العراقي نفسه.
بعقوبة 13 مايو، 2005