تحولات الحادة في سيرة محمود درويش
قراءة: مُحَمَّدُ الأحْمَّدْ
يبقى الشاعر أبد الدهر شاهداً خالداً على عصره، ووثيقةً لزمنه، بكل ما امتلك من رؤية وابداع، ويبقى اسمهُ اسماً لجيله، وعبقريتهُ جداريّتهُ الشاخصة التي يشيخ عندها الزمن، و لا تشيخ، ولن يستطيع ان يبليها الغبار او ان يغير ملامحها اي مغير لا في المدّ ولا في الجزر. يكتب التاريخ وملاحمه وخلاصة نتائج ما تمخضت أحداث رأها بعينه، فيرويها بحساسيته المفرطة، مطلاًّ من وهاد النسيان، يبقى ابداً عابراً كل الازمان، وحاضراً في كلّ الامكنة، يروي روايته، وتستلهمها العبر، فالشعر عند الشاعر المجيد وجه التاريخ الذي لم يحجبه اي حاجب مهما كان متسلطاً، فيقول (محمود درويش) ما لا يُقال ضمن ما يمكن قوله، لغتهُ حصيفة متصاعدة بوتيرة واحدة بموسيقى عذبة تُسْكر متلقيها، مشحونة المعاني بصور متتابعة تخترقه بأذكى السبل حدَّ الانتشاء، تبقى صورتهُ بصوتها الجهور، معانيها تومض كلما مرت عليها عين، لتقول خطابها المتوالي بايقاع ٍ متواصل الشفافية. مطلا من علياء الخلود ليحدثه ببلاغة شاعر ينسج قصيدته الطويلة، المواجهة، فهو يواجه الموروث، ويحاجج نتائجه، ويمضي بخطى ثابته، كشاعر عملاق ادرك اداته جيداً، فبات يعرف الى اين سيصل المعنى، لان قصيدة الحياة اكسبتهُ حكمتها، وعلمته كيف يستدرك ما يريد استدراكه (أيها الموت انتظرني خارج الأرض، انتظرني في بلادك، ريثما أُنهي حديثاً عابراً معَ ما تبقى من حياتي قرب خيمتك، انتظرني ريثما انهي قراءة ’’طرفة بن العبد’’. ُيغريني الوجوديون باستنزافٍ كلُّ هنيئةٍ، حريةً، وعدالةً، ونبيذَ آلهةٍ؛ فيا موتُ انتظرني ريثما انهي تدابير الجنازة في الربيع الهشّ، حيثُ سأمنع الخطباء من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين- ص 49)، فتكشف عن معان كانت مخبأة وراء الشاعر، وصور جزلة بها ما اراد من تصوير، (انا لستُ مني إن اتيتُ ولم اصل، انا لستُ مني إن نطقتُ ولم اقل، أنا من تقولُ له الحروف الغامضات: اكتبْ تَكُنْ، وأقرأ تجد، وإذا اردت القْولَ فافعلْ، يتحد ضداك في المعنى، وباطنك الشفيف هو القصيدُ –ص25)، فالجدارية مصطلحاً على الدوام لمسيرة اسم لمكان معلوم، لتروي ما جرى، وملاحم ما تعاني الانسانية من ويلات، وكل مسكوت عنه، على السواء في قصص المجد، او الكوارث، فثمة بطولات تكشفها بطولة الشاعر المدون بضميره كل نسيان، والشاعر هو النحات القدير الذي يحكي بها حكايته لتتحدى الغمر والطمر وعوامل التعرية، قال ريكله (ان الموت أشبه ما يكون بثمرة تنمو وتنضج داخل كل انسان منذ البداية، وليس حدثاً يصيب الانسان من خارجه وينهي وجوده)، فالشاعر (محمود درويش) وضعنا امام مفتتح مُبْهِر (هذا هو اسمك؛ قالت امرأةٌ، وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ- ص9)، كون اغلب صفحات التاريخ، واغلظها سمكاً، يكتبها الرجل، وتقرّ بها صنوته؛ صفحات متتابعة اصبحت خلاصة عقل بدأ من حيث ما انتهى كجسد، مستشرفاً المصير، كفكر، وما سيؤل اليه ما بعد الموت وفق مقايس الموروث القدسي الذي نهل منه طوال رحلته مع حياة الجسد، منتقلا في الاثير اللامتناه (أَعلى من الأغوار كانت حكمتي؛ إذ قلتُ للشيطان: لا تَمْتَحِنِّي!،لا تضعني في الثُنائيّات، واتركني كما أنا زاهداً برواية العهد القديم، وصاعداً نحو السماء، هناكَ مملكتي، خُذِ التاريخَ، يا أبنَ أبي، وخُذِ التاريخَ، واصنعْ بالغرائز ما تريدُ- 43). يسردُ شعره الحكاية، وكانه يقف عند حافة التحولات، ويبقى مطلاً كشاعر يحمل اسئلته الأرضية التي طالما ارقتهُ، وما تركت الحروب بمجملها وخاصة الكونية الكبرى منها، أثرا عظيما على الآراء السياسية والفلسفية وجعلته يتباين في الكثير من حساسيته ما بين خلاصات الفلسفة التاريخانية، ونتائج الفلسفة السياسية، (رأيتُ ’’ريني شار’’ يجلس مع ’’هيدغر’’، على بعد مترين منيَّ، رأيتهما يشربان النبيذ، و لا يبحثان عن الشعر.. كان الحوار شعاعاً، وكان غدٌ عابرٌ ينتظر. رأيتُ المعري يطرد نقادهُ من قصيدته: لستُ أعمى لأبصر ما تبصرون، فأنَّ البصيرة نورٌ يؤدِّي الى عدمٍ او جنونْ- ص 32) محاولاً التفريق بين التاريخ الذي هو تتابع الحوادث وبين (الانطولوجيا) التي تتناول الأسس الثابتة لتركيب العقل والانسان والتي اعتبرها (هيدغر) فوق التاريخ والزمان، لأن وجه التاريخ الحقيقي متغير باستمرار من عصرٍ الى عصرٍ ومن شعبٍ الى آخر. وأسس (الانطولوجيا) ثابتة؛ كونها تتناول الكينونة الفردية وأبعاد الكائن الاصيلة والثابتة. (فلم يظهرْ ملاكٌ واحدٌ ليقول لي: ماذا فعلت في الدنيا؟ ولم اسمع هُتافَ الطيّبينَ، ولا أنينَ الخاطئينَ، أنا وحيدٌ في البياض، أَنا وحيدُ- ص10)، التطلع هنا يبرز من خلال توجيه الرؤية نحو الاتساع في الوعي التاريخي، باعتبار البحث عن دور الفعل الثقافي في صناعة التاريخ. (سأصير يوما ما اريد، سأصير فكرة. لا سيف يحملها الى الارض اليباب، ولا كتاب-ص 12) ولا يتوقف الأمر عند تحديد هذه العلاقة بل يتخطاه نحو البحث في دالة التفاعل، مع الفاعل الثقافي بوصفه مكافئاً للفاعل السياسي والاقتصادي في تصنيع وتهذيب وتشذيب الظاهرة الامبريالية؛ (وانا الغريب بكُلٍّ ما أوتيتُ من لغتي، ولو أخضعتُ عاطفتي بحرف الضاد، تخضعني بحرف الياء عاطفتي، وللكلمات وهي بعيدةٌ ارضٌٌ تجاورُ كوكبا اعلى، وللكلمات وهْيَ قريبةٌ منفى، ولا يكفي الكتابُ لكي اقول وجدت نفسي حاضراً مِلْءَ الغياب، وكلما فتشت عن نفسي وجدت الآخرين، وكلما فتشتُ عنهمْ لم اجد فيهم سوى نفسي الغريبة، هل انا الفردُ الحُشُودُ؟- ص 22)، وجاءت كتابة بلغة مموسقة، تتحدى الذهن، تحفر فيه حتى تبقى كونها الكتابة من داخل الذات بكل تفاصيلها، حتى لتبدو الكتابة دائما، وهي تتماهى مع السيرة الحياتية، لدرجة لا تعرف معها، متى تبدأ ومتى تنتهي، و لا يمكن فصل الشعر أو الكتابة عن المعيش، فالمثقف هو من يرى وتخترق نظرته الابعاد، والثقافة كما عرفناها ودرسنا مفرداتها هي أختزال كل مايمكن أن يستشرف من الزمن، وتتسع كل الرؤى، وما تكون دونها من حقائق، المثقف الحقيقي هو من يتطلع الى مستقبل زاهر، ويتطلع الى كل معرفة، ليعرف كل ما حوله، و هو من يمد يّد العون لكلّ نظيرٍ مكتشف، و كلّ محتاج يدّ العون، في زمن اختلطت فيه الآوراق، لأجل ان يكتمل رؤيته لكل متلقي، يساعده في كل خطوة من أجل أن يفتح أفاقاً أخرى لغيره، وعبر الأزمنة المختلفة، كمستشرف يرفض ان يكون على الدوام بضاعة مُدَجِنَه، و خاصته، ويكون قائلاً فاصلاً بخطابه الكاشف المنير لما يعيق التقدم الى امام، ودائما يثبت انطلاقته، ونبوءته.. كـما كان يكرر ادولف هتلر(الرجل الشجاع هو مَنْ تحمّل نتائج عمله)، و (محمود دويش) شاعر مقتدر شجاع اختلفت عنده الاتجاهات كشاهدٍ، وشهيد فراح ينتخب منها نضوجاً ما ليس قد بدأ به ودمّر سني شبابه، فخسر عندها اعزّ خلاياه، ولم يكن يريد ما ليس له، ومن المناهج لا يستحق منه مواصلتها.. شاعر اراد ان يعيد كتابة التاريخ بشكله الانساني الشامل، المنطقي، العاقل، من بعد ان اقصتهُ (القضايا) التي كانت تشير الى اقصى اليسار، مغالاةً، وتعنتاً، واليمين الى اقصى اليمين، مغالاةً، وتعنتاً، فخلفته ممزقاً شرّ تمزيق. فكرتان متناقضان في انسان واحد.. (وكلانا انا، وانا شاعرٌ، وملكٌ، وحكيمٌ على حافة البئرِ، ولا أحدَ عشرَ كوكبا على معبدي، ضاق بي جسدي، ضاق بي أَبدي، وغدي جالسٌ مثل تاج الغبارعلى مقعدي).
2004-12-20 بعقوبة