كتاب (ما بين الحب والحب)
قصص : محمد الأحمد
قراءة: عبد الستار زنكنة
الإنسان وما حوله، والرؤية ابعد من الأنف!
(فثمة سبع سنوات تدور كلها حول نقطة وجودي- متصوف عربي)
ما بين الحب والحب مجموعة قصصية للقاص (محمد الأحمد) من إصدار دار الشؤون الثقافية العامة بغداد2002م، وهي تتضمن (أربعة عشر) قصة قصيرة.. نشرت اغلبها في الصحف العربية والعالمية، و (محمد الأحمد) كاتب حاذق له القدرة الجيدة على تفسير علل الأشياء، والغوص بعيداً وراء محارات الحقيقة في جل قصص المجموعة، وكذلك ما رشح عن قلمه في مجموعاته السابقة، مع التنويه بان غزارة إنتاجه لم تقف بوجه رؤيته الثاقبة، وخطابه الثابت المتمثل بالمعادلة الموضوعية: إن الوجود يبدأ بالإنسان، وينتهي به، لذا نرى الانسان وما حوله مادة القاص الملحة في مشغله الإبداعي، إضافة لرسم عالمه الذاتي بريشة، وألوان تتعدى الطيف الشمسي. و(النص) لديه يمتاز بطابع السرد المتواصل مع الاعتماد على دقة الوصف بهدف الوصول لإعطاء ثيمة معرفية.. بعد النهوض بسبر العوالم النفسية الداخلية لأبطال النصوص، وهو يستسلم للألفاظ في صوره الفنية، ولكن هذه الصور بعيدة عن التلفيق والصنعة، قريبة ومريحة لوجدان المتلقي.
يقول جورج ديهامل: عش أولاً واكتب بعد ذلك. لذا يخيل لنا إن مضمون القصة الأولى (ذاكرة ما) ما هو إلا تجربة معاشة صاغها الكاتب بأسلوب موزع على تابوهات ثلاث تتداخل مساحاتها بين الحقيقة والحلم، وتتمحور حول حبّ قد أضيع، ورغبة كامنة في عودته من خلال دايلوج بعيد عن الإسفاف، وفي خطاب يتوقف عند المعاني التقليدية للحب. فالمحور السيكلوجي في قصص المجموعة يتسم بالوضوح، حيث ألبطل عند القاص(مأزوم) لسبب ما، وفي تنامي الحدث داخل النصوص قد تجد أجوبة صريحة أو النزوع إلى الإحساس بأنه أراد الرمز إلى الخيوط أو إشكالية الأزمة عند أبطاله بشكل دفقات ولمحات ذكية وذات رقة وشفافية. ومثال ذلك عزوفه بمهارة عن تصوير أللقطات الجنسية بشكل مبتذل، بل نراه يرتقي سُلم العلاقة بين الرجل والمرأة وصولاً للحب الذي هو أسمى الوثائج بين الجنسين وتبقى الرغبات الشهوانية تنتظر بمرارة أسفل السُلم. وهذا ما يتضح خلال قصة (ما بين الحب والحب) التي تحمل عنوان المجموعة:
[أحس بالدوار يعاودني. كان شيئاً جميلاً].
(تتزوج عقب الولادة... لقد أعياك الحمل؟)
- هذا الموقف أكثر نبلاً!
- سيبقى حبي لك طاهراً بريئاَ في كل الأحوال
- هذا ما أحبه فيك أكثر.
- أحبك جداً
فرك عينيه المتعبتين جداً، وتراءى له شبحها يقف عند كوز الماء يود الشرب.. حاول النظر بدقة، ولم يفاجأ عندما رآها بقامتها الهيفاء تنير له أفقاً يتمناه] ص. 51
وفي قصته الموسومة(محمد أحمد) يلجأ القاص إلى التذكر والتدعي في إحاطة شاملة لتنامي الحدث بشكل هارموني وبلغة جميلة شفافة داخل النص، ويفرض نفسه ملكا ًلكنه متوج بوجع خفي: [أنا الملك الوحيد الذي يعترف بأنه ليس وريثاً شرعياً لهذا العرش فلا أبي كان ملكاً ولا جدي.. لقد فرزتني المصادفة وقربني القدر من العبث وباعد في نظرية التسلل فلم أسير على نهج كل من سار على الدرب وصل] ص65. وهكذا ينأى الكاتب عن النرجسية المقيتة والتحلق في عالم ألذات المغلق والتشرنق في أقبيته المظلمة. وبأسلوب يأخذ طابع التجريب يمسك بيد القارئ في طواقه على الصور والحالات المتناقضة للإنسانية المعذبة، وفي إحباط ونكوص ملحوظ، يلجأ إلى الأحلام اليقظة الوردية هربا ًمن الواقع المرير، حيث يقول: [أنا الوحيد الترجل خطواتي مفلساً من كل شيء أصوغ ما أحتاجه حلماً دون أن أسمح لهم مثل كل مرة أن يحملوني قاذفين بي إلى الخارج حانتهم كما يلفظ الوسخ من فيهم.. ودون أن تظلني الحقيقة فأبقى جائعا ًمتسكعاً أرقب فيض الآخرين.. فلا تضحكوا.. بل صدقوا أني محمد الأحمد الملك، الملك] ص71، وبودي أن أشير لحالة التناص في هذه القصة، مع قصة (الإمبراطور أنور) لرائد القصة العراقية وأحد أعمدتها الفطاحل (أنور شاؤل ) حيث يقول: [الإمبراطور أنور. صاحب الملك الواسع والإمبراطورية المترامية الأطراف ومازال حيا ًيرزق بأمكان كل إنسان أن يواجهه ويحادثه ملياً وبلا كلفة. والإمبراطور أنور صاحب الصولجان الألماسي والعرش الذهبي والتاج الؤلؤي ماهو إلا أنا! أجل أنا الذي أحدثكم اليوم عن سيرتي عندما كنت إمبراطوراً مهاب الجانب مسموع ألكلمه] ص163.. بالرغم من البعد الزمني بين النصين الذي يقارب سبعة عقود ونيف لا يزال واقعنا المعاشي بين (شاؤل) إمبراطوراً، و(الأحمد) ملكاً، هو .. هو قهر، اضطهاد، رياء، اغتراب، استلاب الحرية، شعراء لا يزالون يلثمون حذاء السلطان، وأهل الجهالة في نعيم مترف، وعلى رأي (غوغول) تبقى النخبة الواعية والمثقفة من ذوي الأفكار، ثيابهم رثة ولا يملكون شروى نقير. هكذا لا شيء قد تغير، وكأن أجراس الزمن قد أصدأت، وخفتت دقاتها، وعدنا القهقرى إلى الحضيض. ويبدو إن حالات التسرنم وأحلام اليقظة هي الجرعات العلاجية المتاحة لأمراضنا الاجتماعية الميئوسة الشفاء.
والكاتب في قصته (خيانة زمن) يصب من إبريق الإحباط والألم، زيت القيم الإنسانية التواقة للانعتاق من قنص التشرذم، والانتماء: [عشرة أعوام.. اعد نفسي دقيقة بعد أخرى للخلاص.. في الحلم ابتعد عن المكان النتن، وفي اليقظة أقاوم تفجر كل ما يفوتني دون حقيقة. غريزتي تنطلق بآلية متكاملة.. البرد يتسلل إلى عمقي، ويقطع المعنى. يستنزف جسدي الذي يفور حيوية] ص93. إنها صرخة توجُعْ تضيع صداها في أثير مدارات شرخ الإنسانية المغلوبة على أمرها.. وفي سرد ميال الى التأمل العميق، ودون النزوع إلى الخواطر السريعة، يواصل الكاتب، وعلى لسان بطله الذي يملك تجربة روحية فياضة: [عشر سنوات.. كنت اعدُّ لساني إلى ما يجعلني للبقاء بشراً] ص99. وفي خاتمة القصة ينتفض البطل ليقتل (الوحشة) التي ترمز لقوى الشر، وقوى الظلام تحت جنح الدكتاتوريات البغيضة: [ضربتها على انفها بكل ما لدي من قوة، فأطلقت في وجهي نفثة قوية.. أوقفت كل ما في من اندفاع للتحرر.. بقيت تئن بقسوة، ثم سقطت دون حركة!] ص100.
ولغةُ (الأحمد) قوية تتسم بالطراوة وانتقاء المفردات المناسبة. ولكن من مثالب أسلوبه.. ترهيل بعض الصور الفنية بتزويق لفظي في عرض لبراعته اللغوية، وقد نجد هذه الخاصية لازمة لدى الكثير من قصاصينا. ومن باب التنوير، أو الإشارة إن الصورة الفنية في النصوص الأدبية تكتمل وفق أسس واضحة المعالم، ومكشوفة الفضاءآت تتحلى بالرشاقة والتشذيب. وان اية إضافة أو لمسات جانبية لتجميل هذه الصورة، وتحميلها بألوان أو إشكالات لوغارتمية.. قد تسيء إلى جماليتها، وتشكل وشاحا من العتمة، والتيه لدى القارئ. ومن هذه الصور في المجموعة على سبيل المثال: [هي الآن ملكة فرعونية تنام برهبة قاسية]، [حيث السمكة المتلألئة بشبق]،[ انطلقت غزالة نافرة في صروح بيداء دافئة بالتكاثر]. وأجمالا فان القصص الأخرى في المجموعة قد تختلف في صورها، ومحاور مضامينها.. إلا إنها تلتقي في الخصائص، والمميزات الفنية، والقوة في التعبير التي تستمد حرارتها من المجتمع الإنساني، ومن الخلجات المعتلجة في النفوس.
لقد استطاع الكاتب في نصوصه القصصية، وباقتدار واضح في اللغة التي لديه.. وسيلة، وليست غاية.. أن يرى ابعد من انفه، وذلك من خلال ذاته المتلاقح مع ذوات الآخرين في المجتمع، وبالعكس. ومن هنا كان خطابه إنسانيا، وشمولياً.. جاء نتيجة قدرة الكاتب على الامتزاج بين التصوير الدقيق لشخصيات قصصه، وتصوير الأحلام والعالم الداخلي للإنسان، وقدم لنا عملاً إبداعيا يستحق الوقوف عنده طويلاً.
بعقوبة
8 آذار 2004