صفير الجوّال آخر الليل
شعر: إبراهيم البهرزي
قراءة: محمد الأحمد
يظل الشاعر مخبأً وراء قصيدته حتى بوحها الأخير، يحترف غيابه بلا حدود، بين مفاصلها، وغاياتها.. متوارياً كصفير آلة من قصب في بستانٍ أكلتها نار الحروب المتتابعة، وضغوط الشرطة السرية، وبقيت تنحب عشاقها وأشواقها الجسام.. للذين ذهبوا؛ فهمُّ الحبُّ الأكثر جدلا، والأكثر قصداً.. تبقى موسيقاه بديلا عن الوجه.. ليظل القائل النافخ مستترا بالمعاني، عازفا بأنامل حييّه ما ينقص اللحن من قرار.. خطوة مضافة بإنجاز جزل المعنى من اجل أن يستقيم النشيد، والشاعر (أي شاعر) منحاز على الدوام لفكرة تطارده، دون أن يطاردها، فتارة يفحُّ حذره، وأخرى ينفثُ قصده، بنغم فرد يأتي متواشجاً مع سيمفونية الحياة الهادرة بلا توقف، لأنه العارف بالمتغيرات؛ محتجا و مجلجلا هادرا بصمت الشفتين عذوبة استشفافه للمكان الكوني، وما فيه من حيوية حياة تزدحم فيها المعاني، وتؤجج المكاشفة، أو العتب.. (أيها الذين لا يسمعون أزيز الكمد، وجهشة الأنهار في تطوافها الخجول على المدن الكابية.. أيها الذين من لحمنا المجرّب كشطاً وخرقاً بكل مهاميز الفرسان الأجلاف.. أيها الذين يقولون في موتنا المقيم باطل الشبهات؛ لم تمحِ الذكرى بعدُ من مسلة الرؤوس السود، ورغم نفادِ الهواء تماماً فأن القلوب تحلق من حرِّها قرب مشتى الغيوم... وأن القمر الجنّاز يلمسُ صباحاً أعشاب المقابر.. مباركاً تركاتكم الأليفة، وان المنازل اللاطية في تجاويف السوّاد تجترحُ من الضمير ضوءاً قليلا لملاعب الأطفال.. أيها الذين نحبُّ في الجفاء، والألفةِ: النهايات تدنو وينأى بعيداً شراع المهاجر ينأى التلاوين تاركةً قطيع القنوط يتهجّى مراعي الرماد- ص81) معلناً عن كينونته الضئيلة، وانزوائه القصي.. ليقول بالحرف الواحد كناياته عن التعطل فيما يجعل الحياة هانئة، وكناياته عما يرغب مما يريده كانسان له الحق في العيش بسلام.. من بعد أن حمَّل المعنى، الصرخة، احتجاجه الواضح ليشق سكون الليل الكثيف، ويكشف عن ما انتهك من شعرية العالم الذي يحتويه، بألم الشاعر، وان كان الانتهاك اكبر من كل عالم الشعر.. (فأن عبداً مخصياً سيشي بامرأته أو ابنته، ويردّدُ يا حبيبتي يا حبيبتي- ص13).. كأنه لا يستطع احتواء كل تلك الأحقاد والضغائن.. التي ذوبت كل غير مذاب، وصهرت كل غير منصهر، وكسرت كل غير منكسر، فالقراءة (هي عملية جدلية تبادلية مستمرة بين اتجاهين من القارئ إلى النص ومن النص إلى القارئ وتعمل هذه الجدلية دائما على محور الزمان والمكان- كما يرى الناقد فولفانغ آيزر ).. حيث (أسراب الطيور تجرّ الغيوم من ياقاتها البيض، ذلك المعنى الموغل في الحرية.. يحتاج إلى قتلة أكثر مهارة في التسديد، يحتاج إلى قناصين يضعون النبض المهذار في حلقة المعدن، لينبه الموتُ لمزاد الحياة - ص16)
(إبراهيم البهرزي).. شاعر عاصر جيله كل تحول حاد وعنيف في الفكر الإنساني.. حيث ولد عام (1958م)، وما تلاها من عواصف انقلابية في سدد الحكم العراقي، ومن تبديلات دموية قاهرة.. شاهد عيان، حصيف محايد.. يكشف أوراقه الشعرية بمقدرة لاعب محترف، مقتدر بايصال كل ما يريد إيصاله.. لأن (الحقيقة الاستطيقية هي الشكل ولا شيء غير الشكل- رينيه ويليك ). عازفاً صفيره في ليل معتم، و متسرنماً حلمه بالوصول إلى برِّ الأمان.. جيل الخيبات الذي توالت عليه اشد النكسات الخرافية في القمع والإرهاب.. التي مني بها العراق، أخرها عصابة (العوجة) التي حولت الإنسان العراقي الجليل حجزا لتغرب داخل نفسه تتناوشه المخاوف، وتقتحمه الكوابيس.. من بعد أن قصدته في حيواته، بكل غايتها التي ما ماثلتها في الكون من عنجهية وتجبر.. كونها أرادت أن تفرض عليه طريقة التفكير والتنفس، وكل شيء... فما كان من هذا الجيل أن يتحرك كبقية أقرانه من الأجيال في الدول الأخرى.. بقيت حرائق المكان تتلف له اعز خلاياه مبكرا.. (وان كان الله جديرا بالعدالة، فإنني أريد جنازةً تليق بالملوك... لأنني عشتُ عبداً بما لا يطاق- ص56)..
تجري المقاصد بالقارئ إلى معانيها العذبة، تأخذه إلى مجاريها النقية بين أحداق البساتين، وأروقة المكتبات، وفصول الكتب.. حيث يكون العشب اخضر، وحيث الفكر حرّا، والمعاني أكثر عمقاً.. فلا يظل شيء من شكل القصيدة (ولا بنيتها العروضية ولا عما تحتويه من معنى... فاللغة ليست لغة، بل أصوات، إلا إذ عبرت عن معنى. كذلك يعتبر المحتوى بدون الشكل استخلاصا لشيء ليس له وجود ملموس، لأننا لو عبرنا عنه بلغة مختلفة لأصبح شيئا مختلفا. ولابد من أن تدرك القصيدة ككل حتى تتم عملية الإدراك. ولا تناقض بين الشكل والمحتوى.. لأنه لا وجود لأي منهما بدون الآخر، واستخلاص الواحد من الآخر قتل للاثنين- هارولد ازبون ).
فالشعر ذاكرة الأمكنة، ومسارات الأزمان، وأبعاد المحيطات.. الشعر جوهر مكنون يكشف الاستلاب وبواطن الأفكار، ليسمي الأسماء بمعانيها.. الشعرُ رسالة الواجد بالوجود، والوجود بأثره. كون الشعر وسيلة الوسائل.. لمواجهة أي مأزق حياتي (يا يطيرُ إلى مهجتيهِ: لسانهُ والغموض، يا يطيرُ إلى كعبتيه: فرجها وأقاصي الرحم، يا يطير إلى بلاغتهِ: شمسها وحرقة النوم، يا يطيرُ إلى فشله: قطفها و انجراح البراعم، يا يطيرُ إلى عيدها: لهاثها واكتناز الصوامت- ص 26).. شاعر لم يهادن، ولم يمتدح سلطة من استحوذ على عراقية العراق، والنظر إلى مجمل تجربته الشعرية.. تجعلنا باطمئنان آمن، بأنه يعرف ماذا يقول، ويعرف ما كان يقال في (القادسية)، و(أم المعارك) التي اجبر في خوضها جنديا، ولم يخضها شاعرا، وانه الواعي بان ما يقال في السابق.. يشكل عبءً غير محمود على صدق التجربة الشعرية بأكملها (لأي شاعر)، وصارت قصيدته تسير بثقة تاريخ نظيف، شاعرا بالشعر، وليس مدّاحا طبلا لكل من هبَّ ودبّ.. ولم يلوث يديه بحفنة دنانير... تبقى ابد الدهر تُحسب عليه.. كشاعر راق يستحق منا التأشير.. (متأخرا يأتي الصوت- ص 9).. فالعاشق الناظم لكتاب (صفير الجوّال آخر الليل) الصادر عن (ضفاف2003م). هو مع الأشاعرة أشعري, ومع الصوفية صوفي, ومع الفلاسفة فيلسوف (كما قيل)... كما أ كد كروتشه في كتابه الاستطيقيا (1902م) (على وحدة العمل الفني وعلى تطابق الشكل والمضمون بقوة، ورفض الفكرة القائلة بإمكانية وجود يمكن استخلاصه على حدة). كونه شاعرا بين شعراء القافية، متنقلا يلعب بإتقان على قصيدة التفعلية التي أفلتت من حزام القافية، و في تارة أخرى نجدهُ اعتمر قصيدة الفكرة.. بنثر معسول.. موسيقاه الجدل، والاحتجاج!. (يدركون أنني في زمان النهش والتسور والنهب لم أزل عابراً على قدميَِّ جسر الفقراء الأًيل، لا أؤدي التحية للحرس ولا أحرق بعر البعران في مباخر الضيافة ولا منزل لي- ص131).