العراق إطلالة ما غيّب من التاريخ القريب
في رواية {وردة}
قراءة بقلم: محمد الأحمد
بجرأةٍ موضوعيةٍ عاودتْ بطلةً (وردة).. اقتحام حياة الكاتب (صنع الله إبراهيم)، مجددا، من بعد أن كانت تطارده كفتاة أحلام عذرية، يوما بيوم منذ عام (1957)م.. و تطورت كمشروع خيال كتاب، يكتبه الكاتب، ولكن هذه المرة حقيقة بعيدة عن الخيال كما كانت تأتي إليه، في السابق، حضرت بكل مذكراتها السرية، الخاصة، والعامة، و سكنت معه بأنفاسها الحرة في امتداد صفحات الرواية.. لتتواصل معه في النضال ضد كل ما اعمي شطبا من اسطر كتابه السميك الذي شهد أحداثه الروائي شاهد العصر الذي لوعته مقالب الساسة، والقادة، والملوك، والسلاطين، وحرمته حريته من المعنى.. فالتاريخ هو الذي يهاجم الروائي مرة أخرى (القاهرة ما بين عام 1957وعام1959)م.. تاريخ أحلام تجاوزت الحقبة، واستفاضت في الدقة، حيث ترابطت الأحداث العربية.. مرتهنة بتواشج العلاقات الحاضرة في الصراع على زمان ومكان ستراتيجي مؤثر.. نجد الروائي يصل بنا إلى ملخص جدلي مفاده:
- ربما يستطيع أي حاكم جديد أن يطمس التاريخ الذي سبقه ليوم واحد، أو اكثر، ولكن ليس إلى الأبد، ومهما تفاوتت دكتاتورية قوته، وشراسته، فإنه يجهل قول (بيتر جيل ) الشهير بان التاريخ سجال لا ينتهي، وكل أحداث اليوم.. ستبقى بين الطيّات، إلى حين ما، ولا بد أن يأتي اليوم الذي تطفو فيه محررة نفسها بقوة اكبر، ولن يمنعها أي حاجز أو فاصل مهما كان ارتفاعه، أو متانته.. وتكون شاخصة مسفرة عن الوجه الحقيقي لما قد حدث بالفعل، لتعطي نفسها بكل صدق وغالبا ما يفشل الطمس، فالذين حاولوا ذلك لتعارضها مع ما يريدون تغير مجراه، وفق مصالحهم.. ويتكرر المشهد للحكام الذين نجدهم قد ذهبوا إلى مكان آخر من التاريخ، وابتعدوا مخلفين ورائهم ما حاولوا حجبه من التاريخ، لان التاريخ عصي بسجاله.. كفيل بالحقيقة مهما حاولوه قمعا بآلتهم التي كانت قوية آنذاك، واليوم باتت واهية سهلة الكشف، واهنة المصير.. محصلةٌ وضوحها الكيفية الدنيئة للتحكم بالثروات.. (صراع بعثي في بغداد بين علي صالح السعدي والبكر.. يعتمد الأخير على صدام حسين المعروف باسم جلاد قصر النهاية ). والكاتب المصري الستيني (صنع الله ابراهيم) يرصد في روايته احداث العراق الحديث منذ اول ايام تسلم البعث السلطة في العراق، وصارت الرواية (وردة) من الكتب المحظورة.. لانها اطلالة ما غيب من التاريخ، ونظرة على العراق من الخارج، مثلا: (قرأت افتتاحية تشكو من أن الكويت خرجت من كارثة الاحتلال العراقي إلى براثن حرب استنزاف اشق وأدهى، تمص دمائها قطرة، قطرة. فهي تدفع مليارات الدولارات باسم الأمن والتنسيق، والتسليح، والتدريب ).. ففي الرواية قصةُ حبّ فيها ليس فيها ما يميزها عن قصص الحب التي حفل بها ديوان العرب، من إثارة وتشويق، و لكنها امتدت على مساحة عريضة من التاريخ العربي بأكثر من عشرين عاما، لتبقى علامتها أنها شاملة التصوير للفكر العربي، وتحولاته الخطيرة التي حددت هويته، ومساره البيّن.. (كانت شهلا أضأل منه حجما، لكن سمرتها كانت خمرية، ولها عينان جميلتان، وشفتان رقيقتان، وصدر ممتلئ ) قصةُ حبّ من طرف واحد ما بين الشاب (رشدي) الشيوعي المصري، و الشابة (شهلا) شقيقة صديقه (يعرب) الشيوعية العمانية.. القوية الشخصية والتي تصغر أخيها بسنتين.. وهي شخصية معرفية.. حاضرة البديهية، تقرا بنهم ما تستطيع من كتب هي في حد ذاتها من أمهات الكتب التي نهجت للإنسان العربي يومها من طريق، و مطمح.. فتاة أحلام، ذكية بعينين جميلتين.. جريئة و مغامرة.. حيث كانت تدرس الطب في الجامعة الأمريكية، وغيرتها إلى الفلسفة، ومن ثم أخذها ساح النضال، حيثما يكون للإنسان مطمح يجد نفسه فيه. (في شهر يوليو سقط النظام الملكي في العراق وانهار حلف بغداد في ثوان، بعد أن استولى عبد الكريم قاسم على السلطة )، فبدت الأحداث العربية كلها متضحة من خلال مقارنته ما بين السلطنة في السابق، والسلطنة اليوم.. لا يترك أي فارق ليذكره بأمانة المؤرخ الذي يعتمد أداتاً ذكيةً شاملة. بينما كان زائرا في ضيافة ابن عمه الموسيقي وزوجه في (مسقط)، ومنذ الطريق إلى محل سكنه.. يؤكد الكاتب على انه في عقده السادس، و هي أيضا من جيله.. الجيل الذي شهد التحولات الكاملة.. ما بين شرق وغرب.. وما بين شرق أوسط.. مدونا وجهة نظر المثقف الحريص على رأيه: (قال سعودي: أو قل إنها سياسة اللعب على الحبال. في حرب الخليج رفضوا اتخاذ سياسة متشنجة ضد العراق، واكتفوا بإرسال قوات رمزية إلى حفر الباطن ).. بذاكرة المناضل الحقيقي الذي مشى بخريطة النضال من القناعة، وحتى الرمق الأخير، ولكن كل الجهود غير الإنسانية ذهبت سدى.. لان المثقف بفطنة الروائي العليم، وبحرية الإبداع، راح يتخيل، وراح يبتكر ثيم عالمه.. متواصلا بالحكاية من آخرها مثنيا على القيمة البطولية السامية، والمبدئية الأصلية.. وان المبدع هو خلاصة العصر الذي يعيشه، فالمثقف في هذه الرواية هو المتحسس الأول لما يحدث، ويتنبأ بالأحداث قبل أن تقع، بل ويعطي النتائج الكاملة من قبل أن تظهر النتائج، والنتائج تكون لاحقة لرؤيته.. مستنتجا محصلة الحقيقية بالكامل، وغالبا ما تكون بدقة ما يكون به صانع القرار السياسي، حيث الكل من مكانه.. ذلك يتحكم بالقرار المصيري، و الكاتب يتحكم بالقرار الذي يكتسب لحما ودما على الورق.. كشخوص لهم الحق في كل ما حولنا من مبررات في العيش الرغيد. وكأنه قد كشف المستور بشفافية من يعرف المعرفة القاطعة. فوجه النضال واحد في كل زمان ومكان، ضد التعسف في الرأي، وقمع الرأي الآخر بتجاهله، أو بتسفيهه، أو تأجليه إلى غير فاعليته.. (مصرع عبد الكريم قاسم على يد انقلاب عسكري. هل ناصر وراء الانقلاب؟ ). كما كانت المنشورات السرية الشيوعية تتسائل- ربما سجنه (عبد الناصر) بسبب ولائه، أو لانتمائه لما كان يطمح أن يكون.. و (وردة) المناضلة عادت إليه بكل تاريخها المسلوب، المنتهك، وبكل ثقلها الموضوعي، راحت تقرأ تاريخ النضال للقارئ البعيد عن الساحة المتشوق لمعرفة ما حذف من التاريخ بالنار والحديد، تقرأ مسيرة ما قد حدث ولم يستطع أحد مهما كان أن يتجاهلها، أو يعبرها، تقرا البطلة الروائية نيابة عن القارئ، وتبهره بتدفق الوثيقة الحية التي صارت عمودالرواية المكون من مذكرات حية، بصدقها جرئيه بثقلها.. وجادة تمام الجد في كشف مرآة المرأة العربية المناضلة بكل تفاصليها وهي تثابر وتكافح من اجل حياة حرة كريمة، ولم تكن رواية مكان عربي واحد، بل كانت أمكنة عربية في رواية واحدة، تعطي ما كان قد استلب وضاع ما بين المصالح و المطالح على ساحل الأبيض المتوسط، ضاع كما ضاع دفتر ذكريات الحلم العربي المجزأ وفق ما أرادته أن يكون لتك الدول العظمى ووفق ما ترتئيه خريطتها الاستهلاكية بتوازن القوى.. تنقل الصورة الجلية أينما كانت و أينما يتطلب من (وردة) المناضلة أن تسافر، وان تستقر.. من سلطنة عمان إلى مصر واليمن ثم لبنان وسوريا، والعراق ثم الكويت والسعودية.. ولم يكن اختيار المكان لم يكن لرغبة ما، أو سفر من اجل السفر، ولكن قربها كمناضلة وفاعليتها في حركية التاريخ وتنقل صدق وجودها الذي يكشف حركية التاريخ المتوافقة بما يملك من ثروات، و ستراجية موقعيه، و طيبة إنسانية.. تقع سلطنة عُمان في أقصى الجنوب الشرقي من الجزيرة العربية. يحدها (الخليج العربي) شمالاً، و (الإمارات) من الشمال الغربي، و (السعودية) غرباً، و (اليمن) من الجنوب الغربي، و (المحيط الهندي) جنوباً، و (خليج عمان) شرقاً. غزتها البرتغال وسيطرت على مضيق (هرمز) حتى إجلائهم عنها عام 1622 م، وقد دخل البرتغاليون العاصمة مسقط فاحتلوها وحصّنوها بحصونٍ منيعة لا زالت قائمة إلى يومنا هذا. تركها البرتغاليون نهائياً عام 1649م. ثم قويت الدولة (العمانية) بأساطيلها البحرية التي وصلت حتى الساحل (الأفريقي)، وفي المحيط (الهندي)...
رواية (وردة) إحدى أعمدة الفن الواقعي في الرواية العربية، مبدعها كاتبٌ اتسم نهجه الروائي بالجدية، والموضوعية.. فلم ننس له رواية مثل (تلك الرائحة) التي دون فيها ما أحدثه (جمال عبد الناصر) في الشيوعيين المصريين، أو(نجمة أغسطس) تجربة بناء السد العالي في مصر، أو (اللجنة) التي كتب فيها فصلاً عن دكتاتور (بغداد) منذ مطلع السبعينيات، و رواية (ذات) التي لم نستطع أن نقراها بسبب التعتيم و الحصار الإعلامي على مثقفي العراق، (نسخر من حزب البعث وحديثه عن الرسالة الخالدة للامة العربية التي تظهر بشكل متجددة في مراحل التاريخ، وترمي إلى تجديد القيم الإنسانية، ومن زعيمه (ميشيل عفلق) الذي استكتبه الدكتاتور السوري (حسني الزعيم) تحت ضغط المسدس.. تعهدا بالتوقف عن النشاط السياسي ).. فالمثقف هو ذاكرة المكان الذي يكشف بدقة عن المعلن بغير المعلن؟.. أم إن جنس الرواية المتوجة بالوثائق هي قطعة حلوى لابد من التهامها؟.. بكل ما تحوي من شحنات صدق في لغة جزلة تغوي قارئها إلى لذته، فيكتشف انه اخذ إلى مكان آخر تجري عليه الأحداث، حيث الإنسان العربي المستلب من كل ما يتعلق به.. بقي الإنسان هامشا مفكك اللغة، غير قويم الأخلاق.. يعاني من ازدواج كبير في أعماقه، وقد ضاع ما بين الشخصين المتضادين كل ما على الإنسان الحقيقي أن يجده.. يكشف بدقة ما على القوانين الجدية من دقة، و صرامة لتنظيم الحياة المزدحمة بالتخلف، وخاصة كدولة غنية.. تأتي في تسلسلها من الغنى كالإمارات العربية المتحدة، وما غزاها من هجرة عمل، وأخذ يدخلها من هنا، وهناك.. شراذم، أو عكس ذلك.. (القصة العربية ترتفع إلى مستوى مسئولياتها، فتنهض بعبء التعبير والتقييم، والتوجيه لحياتنا الجديدة - د. غالي شكري ).. كونها رواية واضحة المقاصد.. اعتمدت الحكاية كعمود بنائي يلم أوزارها للقارئ، و لا يعطيه فرصة لان يذهب عنها حتى التهام السطر الأخير.. بها تشويق، والتشويق صفة الرواية الناضجة، واقعية بقيت في حيثيات ما يحدث داخل البيت العربي الجليل، الذي بقي يعاني من الحاجة لكافة الضرورات التي حرم منها. الميدان العربي، مساحة الروائي الذي أتقن الصنعة الروائية، وراح يوسع فيها ليشمل بها كل الساحة التي تجري عيها الأحداث، الشمولية تلك تحسسناها بعدة روايات عربية- مثل رواية السوري (حيدر حيدر) (وليمة لأعشاب البحر). خريطة أحداث الرواية تجري ما بين مسقط، و صلالة، و في أواخر عام 1992م، تحديدا.. في العاصمة المنتظمة بدقة فرسانها الإعراب، بعد أن رسم الراوي القدير أمكنة الانطلاق إلى تفرعات (وردة) الروائية، وأثاثها البشري الموزع على مساحة عربية شاملة.. واسم (وردة) هو لقب الشخصية المحورية، تجسد امرأة تميل إلى الاعتماد على الذات وتحقق طموحها من خلال العمل، والاجتهاد.. لتروي سيرة مناضلة عربية مكتوبة بين طيّات السجل العربي الحافل بالاستلاب والقمع، و الإخصاء.. فأكد تخصص الروائي بالوثيقة، حيث كمنت خطورة، وجدية التجربة.. (فان الأنظمة بتسلطها وهزيمتها قد خلقت ظروفا لا تزيد على أن تهبط بإنسانية الإنسان العربي إلى حدها الأدنى- شكري عزيز ماضي ) حيث الدقائق تمشي متتابعة في تسلسلها المنطقي في تمكن ليس له مثيل.. أهم مدن السلطنة بعد مسقط العاصمة: مطرح، صلالة. عملتها: الريال العثماني. تولت أسرة (آل بو سعيد) الحكم في منتصف القرن الثامن عشر. ثم توالى على الحكم (14) حاكماً من هذه الأسرة حتى عام (1970م).. ونهضت سلطنة عمان بقيادة السلطان (قابوس بن سعيد بن تيمور)، فغير اسم الدولة من (سلطنة مسقط وعمان) إلى (سلطنة عمان).. ولد عام (1940م)، و تلقّى العلوم العسكرية في الأكاديمية العسكرية الملكية ببريطانيا.. خلف والده، (سعيد بن تيمور)، سلطاناً لعمان عام (1970)م، وبدأ عمرانها في عهده. (في العراق أشفق الشيوعيون الذين قاموا بدور رئيسي في إسقاط النظام الملكي أن يحرموا من حقهم في الوجود الشرعي )، (كان شئ مثل الذي فعله عبد الناصر.. عندما تحالف مع البعثيين ضد الشيوعيين السوريين توطئة للتفرغ بعد ذلك للأولين )، (سقط النظام البعثي في العراق. انقلاب عبد السلام عارف بدعم من حركتنا والناصريين )، هكذا دون صنع الله ابراهيم في روايته (وردة)، وصارت الرواية اكثر مبيعا بين قوائم كتب الاستنساخ التي كان يحظر انتشارها ايام العهد الصدامي البائد.
بعقوبة