الآلهة التي تفشل دائما

الآلهة التي تفشل دائماً

ادوارد سعيد

قراءة: محمد الأحمد

mu29@hotmail.com



لم يك المفكر (ادوار سعيد) بعيدا عن عالمنا، اليوم، وان مات البارحة، فان بحوثه اليوم، جميعها، تُشهدنا عبقريته الهائلة، وجرأته الموضوعية، كونه من ابرز مفكري جيله، حيث كان مثقفاً واسع الاطلاع ومتعدد الاهتمامات، فلسطيني المولد شمولي الأفق، اهتم بالأدب المقارن والفلسفة والموسيقى والسياسة. وقد عرف بشغفه بالقراءة والموسيقى حتى أصبح مثقفا كبيرا، كاتبا ومفكرا، وعازفا على آلة البيانو، ومغرماً بالسينما . فكانت كتبه تقرأ تراثاً يوثق فيه اسم المثقف الحقيقي في عالمِ يعجُّ  بالمتناقضات، والاتساع في كلّ أمرٍ ضيق، يكون فيه المفكر أكثر إحساساً بالضيق، والاختناق، حيث تنغلق أمامه المحاور الأساسية، وأبوابه التي تعلم منها الإطلالة على ما طرحه الغير، من فكر. (إن إحدى مهام المثقف هي السعي لكسر التصنيفات المقولبة، والمختزلة التي تحدّ من التفكير والتواصل الإنساني كثيراً- ص7)، والمثقف الحياد يمضي بوعي حادٍ إلى ما يعمق الرؤيا التي يرى من خلالها العالم، ولأننا نقرا اليوم بعين عصرنا السريع المتفاقم يوما بعد يوم بالاكتشافات وإعادة النظر، في زمن توسعت فيه المدارك من جراء الاقتراب بين الثقافات، وبدأت تسير قدما للتوحد، ويكاد منهجا واحدا يطغي على الأفكار جمعاء، حيث أنها تمر عبر ما ترينا إياه الشاشة الرقمية لحواسيبنا (digital)، ويكون كتاب الحياة الجديدة بفصول أخرى غير التي تعلمها من أساتذته الفُضَّّلِ الأجلَّةِ، ويكون اكتشافه كمن أنعشته نسمة هواء نشيه في ليل خانق متمنيا أن يعبّ صدره منها بكل ما يملك من قوة، عبر كتاب الزمن السميك لتصاغ أمامه عوالماً أخرى جديدة غير مرتبطة بالتي قد سبقتها، ويكون النظر آخرا، وتكون الاستنتاجات غيرها، فزمن قطعته البشرية بعد اختراع الحاسوب، قد صار بشوط قصير فيه مشوار ما قد قطعته الإنسانية منذ بدء التكوين، بألف ضعف، وأصبح البشر يقارن به كل ما ملكت أيمانه، متوصلا إلى مفهوم بان هذه الآلة الرهيبة قد وصلت بالإنسان إلى ذروة عقله، فأقصته عن الماضي القريب بآلاف السنين الضوئية، بمعنى انه صار يستشرف الأمكنة، والأزمنة، مطّلاً على التاريخ المكتوب، واللا مكتوب، فأصبح العصر بواسطته حاضرا في الماضي، وبات الماضي يلامسنا، بعد اختزال، إن قررنا إعادة النظر في خلل تاريخي، صارت المباحث تتصدى الأكاذيب، وتلحق ضررا في الحكايات غير المقنعة، الحاسوب اخترع نفسه ليكمل إنسانا كان يحتاج يخترع، وصار يتذكر له، ويقارن بين ما يستطيع من خلاصات، ليس في العلوم، والنتائج الجاهزة، بل صار يعرب الكلم، وينقل اللغة إلى من لا يعرفها، وسيصر يتقنها اللغات كلها عاجلا أم آجلا. (في كل من العالمين الغربي والعربي تتعمق الهوة الفاصلة بين المالكين وغير المالكين كل يوم، وبين المثقفين في السلطة يظهر طيش معتد مروع فعلاً، وما الذي يمكن أن يكون أكثر جاذبية وصواباً بعد سنتين كانتا مليئتين بالغضب من نظرية فوكوياما "نهاية التاريخ" أو رأي ليوتارد عن "تلاشي الأعمال الروائية العظيمة" والشيء نفسه يمكن أن يقال عن البراغماتيين العنيدين والواقعيين الذين لفقوا قصصاً خيالية منافية للعقل مثل لنظام العالمي الجديد أو "صدام الحضارات"- ص 13)، ففي الفصل الأول استعرض صور المثقف، محتوياً صفاته، ودلائله الاستنتاجية، وما يخلفه من فعل على ارض الواقع، (فثمة خطر من إن صورة المثقف يمكن أن تختفي في كتلة كبيرة من التفاصيل، وان المثقف يمكن أن يصبح مجرد حرفي آخر أو صورة في وضع آخر- ص 24)، فالدور خطابياً يعمق الإحساس بان الإنسان كلما دون اكتشافاته صار قويا بذاكرته الحديدية، وان جاء زمن الحاسوب، فانه جاء بدعم مما يحتاجه الإنسان، وما كان يحلم به. (أن يكشفوا المنسي، ويجدوا الروابط التي أنكرت، ويقدموا سبل عمل بديلة بإمكانها تفادي الحرب، وهدف التدمير الإنساني الملازم لها- ص34). فقد تم كسر ما يعرف بالحدود العريضة للبلدان، وصار الفرد لوحده عالما مستقلاً، وصار المرء يتلقي ما يحتاجه عبر تلك الآلة الجبارة، ففي الفصل الثاني من الكتاب (ضبط الأمم والتقاليد في وضع حرج)، يعرج إلى الروابط، مذيبا الفواصل بين (هؤلاء الأفراد تجعلهم قدرتهم على التفكير والحكم مناسبين لتقديم الأفضل-ص 43)، إن اختزال الزمن بواسطة التكنولوجيا، صار يوفر اقتصادا، ويثير جدلا منطقياً بين فواصل المجتمعات، إذ صار التكنولوجيا تسيطر بشكل أو بآخر على عملية التلاقح ما بين الفكرة والفكرة، وصارت المجتمعات تقترب أكثر من بعضها، فالمسافة الزمنية هي الجدار التي اسقط، وتحرر منه التاريخ الحديث، وباتت أفكارا تتبدل، وطابع تتغير، وصار الإنسان يشبه الإنسان ولا يختلف بالمظهر أبدا. (بيد إن الإسلام دين الأغلبية بعد كل شيء، وفي اعتقادي، ليس دور المثقف أن يقول ببساطة إن الإسلام هو الطريق، وتسوية التعارض والاختلاف، وعدم قول شيء عن التفسيرات المتباينة جدا للإسلام، فالإسلام بعد كل شيء دين وثقافة، وكلاهما مركب وبعيد جدا عن الانسجام الأحادي، ومع ذلك بقدر ما هو دين وهوية الأغلبية الساحقة من الشعب-ص 52)... ففي الفصل الثالث (المنفى الثقافي مبعدون ومهمشون)، أعاد النظر فيما يكون به المثقف الراديكالي الذي تنفيه القضية، ويبقى ابدا باسمها كونه لا يقبل التزييف، فهو المسيحي الذي لم يأل جهدا في الدفاع عن الإسلام وهو الفلسطيني الذي تجمعه علاقات واسعة مع اليهود وهو العربي الذي تنقل بين فلسطين ومصر ولبنان ، كما درس في أمريكا وعاش فيها وأصبح بروفيسورا في جامعاتها، فكونه كذلك مثقفاً حيويا يتساءل (وما المانع من رقابة المثقف على السياسي؟) ألم يقل ( المثقفون مخلوقات نادرة جداً) ولم يقل السياسيون مخلوقات نادرة ويقول بما معناه أن دور المثقف هو تنويري (فلا نص بلا قارئ يتوجه إليه ولا قارئ لا ينتظر من النص إضاءة لمشاكله )، وفي فصل الرابع (محترفون وهواة)، يقلص الفجوة بين الُمفكر، و المُدَجَنْ، فثمة ثقافة محايدة، لن تدوسها أحصنة الفرسان الغازين بالنقود الزائفة، فالثقافة لن تدجن، ولن تجير لجهة، وكأنها إن حدث ذلك فإنها تتحول إلى أزمة بينها وبين من يستغلها، لأنها أمست خطاب استعباد، مكشوف نيته مسخ العقل، وإزاحته. فما على المثقف إلا (قول الحقيقة للسلطة)، وهو ما وسم به عنوان الفصل الخامس قبل الأخير. إنها لمرحلة تاريخية دقيقة نعيشها اليوم تستدعى التوقف حيث لا توقف، والتأمل حيث لا تردد، والمراجعة حيث لا قبول بفكر محايد لعمليات العقل الواسع و التفكير الجمعي كعملية نسبية انطلاقية معيارها العقل المنتج لسؤال المستقبل (كحقل دراسي يؤسس قضايا السلام و فلسفته) والذي له خاصية الاتصال محققا التواصل مع كل طرف فاعل و مؤثر في حركتها و اتجاهاتها و صيرورتها ذلك لكون المثقف فاعلاً، وليس منفعلاً. (إن قول الحق للسلطة ليس مثالية مفرطة بالتفاؤل: انه تأمل حذر بالبدائل المتاحة، واختيار البديل الصحيح، ثم تقديمه على نحو عقلاني حيثما يمكن أن ينجح ويحدث التغير المناسب- ص 117).. فكلما نعيد قراءة الرجل نكتشف حريته المحايدة، وشموليته التي يلخصها عبر الفصل السادس (الآلهة التي تفشل دائماً). مشيرا بجرأة منقطعة النظير إلى المثقف الحر، والمثقف المقيد، ويذهب بان الأول غير منتم إلى أية مؤسسة تستخدمه لغسيل العقول، والثاني المثقف (الُمَدجنْ) الذي كون تنظيره حسب الطلب، فيعقد مقارنة مابين خطابيهما، وغالبا ما تكون الرجاحة لما ينتجه الأول، ويفشل الثاني بمجرد فشل مؤسسته الدافعة. ولما يشبه أن يكون الخطاب نسقا نظريا متكاملا يعبر عن الواقع الماثل بأحداثه الجسام و تحولاته الفكرية الحادة، كون المنظومة الفكرية لجملة مبادئ و خيارات المعرفة ليست منفصلة عن الواقع، و لا يمكن قرأتها بمعزل عن تاريخيتها وظرفها و أوانها التي ولدت فيها و الظروف الموضوعية التي أنتجتها. (نظرا لان معظم الثقافات ليست سوى صناديق صغيرة كتيمة، كلها متجانسة، وكلها أما جيدة أو شريرة، ولكن إذا كانت عينيك على راعيك فلن تستطع أن تفكر كمثقف- ص136)، فتكون الأزمنة كلها ملتقية في تلك البوتقة الهائلة التي من الصعب أن نسميها بـ"الحاسوب"،  فليس من الإنصاف أن نصفها كل ذلك الوصف، ونكتفي بكلمة مكونة من خمس أحرف. لقد ترك ادوارد سعيدا إرثا فكريا غزيرا ومن بين ما ترك من مؤلفات "بعد السماء الأخيرة" عام 1986، و "متتاليات موسيقية" عام 1991 "الأدب والمجتمع" و "تغطية الإسلام" و " لوم الضحية" و"السلام والسخط" و "سياسة التجريد" " الثقافة والامبريالية" وغيرها، فضلا عن الكثير من المقالات.



‏الأربعاء‏، 27‏ أبريل‏، 2005

View alahmed's Full Portfolio
tags: