لنقرأ في (ماراثون) للشاعر ركن الدين يونس
قراءة بقلم : محمد الأحمد
عبر شفافية متضمخة برائحة البارود، والآمال الكبار.. ابتدأ الشاعر(ركن الدين يونس) مجموعته الشعرية البكر الموسومة بـ (مارثون)، الصادرة عن دار الشؤون الثقافية- بغداد، والتي حوت على عشر محاولات، تنفس من خلالها التجريب الجريء في الشكل، والبناء.. بلغة سردية بليغة الأسى، سريعة الإيقاع، رقيقة الذوق.. حملت من الهمّ العراقي النبيل أبهى موسيقاه… مسجلة في عراقة الشعر العراقي نبضها المؤرق.. مجموعة فيها تدرج لوني متتابع في العدوّ السريع، ضمن محاولات تشكلت بالتنوع.. بقيت تهدر دهشتها الصامتة. (كل شئ كان يركض.. الحصى على الأرض / كل يركض، يركض، يركض- ص 16).. في (مارثون) نجد للقصيدة إيقاع لن يعرف التهادن، يمضي قدما في صور متبصرة طريقها، ومتفهمة ما عليها من واجب، فتركض الكلمة بكامل بنائها الحرفي، لتركض داخل اللفظة التي هي الأخرى تركض، تجرد ذاتها من كل ما يربطها بالمعنى، وتركض في صورة تجريد هائل الوقع، يتصاعد الشعر بتصفيف مقتدر.. بألوان خلطتها يد فنان مقتدر. لاجل أن يكون كل جزء منها.. متراكب المعنى، أمامنا في هيئة هياكل راكضة إلى جوهر الشعر(فإنما الشعر صياغة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير ).. تتسع لغة الشعر الى لغة الميتافيزيقية… تتخلى عن فطريتها، من اجل أن تترتب ترتيباً جماليا، جديداً.. الحقائق كلها تركض، الى صورتها المثلى دون أن يغيرها أي تحوير، او تزيف.. تسعى بمفهوم أساسه حساسية الشاعر الذي تركض فيه الأزمنة، و لا تملك ثباتاً، سوى إنها تركض بلا توقف، أو لا تدرى إلى أين سيحل بها كل هذا القدم .. تركض نحو الحسم الذي تصير تكرار اليقين، بدل الحدس..الذي صار مرئياًّ بعين الفنان الذي يضع لمساته الأخيرة على لوحته الأخيرة، بما تراكمت عنده الخبرة.. كما قال عبد القاهر الجرجاني في شهيره دلائل الإعجاز: (يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة إلى الفرض ). هكذا الشاعر يرسم خيالاته، و لبناته دموع النخوة، التي جعلت القارئ يمتشق بندقية، ويعتمر خوذته كأي محارب باسل بين الذائدين عن الحياض. (الويل للشاعر.. وهو يدخل الرغوة نفسها / إذ يهمل أحزانكن، ويؤجل ينابيعكن إلى موت آخر- ص5). لقطات مليئة بالحميميّة الشعرية، محاولة في الرفض ، و تخيّل صورة مستقبل جديد. (التماثيل تساقطت في المعبد/ واحدا تلو الآخر/ انهار جدران المعبد/ واحدا تلو الآخر- إحداثيات ص26). الصورة التي تدبجها في الذهن تلك الكلمات الواضحة، تخلخل من معنى الصورة الأصلية، بعد رسمها بالألوان، وتنتقل إلى صورة الكلمة. يدقق الصانع الحاذق في صنعته، بكل ما فيها من لمسات كما تنعكس الصورة في الماء الرجراج، فيظهرها مثله!.. (إذ كان لكل عصر ذوقه اللغوي، والتصويري الخاصة به. وقيمته الفكرية، ومطالبه التي يروقه تصويرها. ولا يمكن في ذلك فصل المضمون عن شكله الذي يصوغه فيه الشاعر، كما لا يمكن فصل المعاني في جملتها عن المذهب الأدبي، او الاجتماعي الخاصين بكل عصر ) جاءت المحاولات على امتداد الصفحات... (جرت دموعهم..سوداً في مآقيهم، على وجوههم، فوق بشراتهم الشمعية- ص8). الشعر الحديث يمضي قدما إلى اتساعه البليغ، وهناك من يحدق إليه من ثقب ضيق، ويلصق جبهته على الحديد البارد في صيف قائظ.