عن أديب ابو نوار



رؤية

بقلم

محمد الأحمد

(اللفظ جسم وروحه المعنى - ابن رشيق القيرواني  )



تكونت " المدهش من أحزان العندليب - للشاعر"أديب أبو نوار" المجموعة الشعرية الصادرة عن دار الشؤون الثقافية بغداد – السلسلة الشعرية – ثقافة ضد الحصار – من سبع محاولات تنوع فيها الإيقاع ، والتجريب باشتغال حرّ تواصل بلغة جزلة اقتربت من التقريرية الشفيفة تارة، ومن صنعة الشاعر الحاذق، فجعلتنا ندون رؤيتنا… بمحبة للشعر، والاجتهاد في عمق تجربة نافت على ربع قرن في محاولة إيجاد نفسها بين المجايلين؛ مع حبنا العميق لهذه المجموعة البكر التي تقدم بها الوعي في الشكل، والموضوع لصالح الشاعر، بأكثر من مؤشر، وجعلتنا نهلل بالرأي الصريح، إذ كان حريّا به أن يلحق بهذه المجموعة بعضاً من قصائده التي نشرها في نهاية عقد الثمانينيات، ولعلها كشفت لكل مهتم بأن الشاعر أي (شاعر) هو تراكم تجربة بنائية لا بد أن تتصاعد، ولا تتلكأ في صعودها، وتبوح جهرا عميق صوتها.

متعة التحديق في القسمات الرفيقة، التي نظنها ستمضي، ولن تعود. بدهشة صامته، نستعرض صور أصدقاء الطفولة، المليئة بالبراءة، المليئة بالعشق، والعلاقات الحميمة. ترى كم يكون ذلك مؤلماً كلما افترشنا كتاب الذكريات العظيم؟، ويأكل بنا الندم على ما لم يتحقق أيام ذلك، العنفوان!. متعة، ما بعدها من متعة، كلما يقرب السؤال، المسافة بالسلام المفتتح بألف خير، (حفاوة بالشعر أو بالذكريات / قل بندمان كانوا على مقربة من قربنا – ص5). جولة في أقاصي الذكريات التي كونتنا، ورسمت أقدارها،خرائط غضون الوجه، طرقنا التي نمشي عليها اليوم…خطوات مليئة بطفولة الشعر، مليئة بذاكرة متكررة لعشرين عاما، أو تنيف، على متعة المشقة…بصحبة أصدقاء كانوا هنا، وباتوا هناك..لم يطلها الشوق وحده، بل السلام المدلهم بالأمل المبئر، والألم القاتم… استرجاعاً دقيقاً لكل خاص خاصته؛ خطاب قصيدة النثر الحديثة.. بتحرير الأسئلة، وتعليقها إلى اجل غير مسمى، أسئلة تعتق ذاتها من الزمن الذي ضيقت مداه الحرب، وكانت حريته اتساع الجرأة، خطاب عراقي محتج، وغير متراجع. اندلاع شفاف كأنسام الطيب التي تشرشحها أشواقنا الجسام..

نقرأ جدية التجربة ( احفر دمعة وسبعة أقدام - ص18)...( فإذا كان الحب يعمي عن المساوئ، فالبغض أيضا يعمي عن المحاسن. وليس يعرف حقائق مقادير المعاني، ومحصول حدود لطائف الأمور، إلا عالم حكيم و معتدل الأغلاط عليم، و القوي المنة، الوثيق العقدة، والذي لا يميل مع ما يستميل الجمهور الأعظم، والسواد الأكبر- الجاحظ )، ونقرأ شفافية سرد متواصل بلغة تنتظر التحقيق، مليئة بالوعد، مليئة بالنفاد.. ( سأعود، سأعود ، سأعود ../ لابد أن أعود ../ روحي اشتاقت للجسور، مشتاقة جدا للكاظمين ../ سأزور الكاظمين، وادلف إلى أبى حنيفة ../ سأمعن التجوال في مقبرة الملوك - ص9).. فالسرد ليس عيبا على قصيدة النثر، وانما الكلمة التي تشغل سطرا، دون أن يكون لها معنى، أو تواصلا .. وكما تذكر خزانة تراثنا القويمة ( ذلك هو الخطل الذي سمعت العلماء يعيبونه- الجاحظ  )، حيث يقول التشيكي ميلان كونديرا: (فن الإيجاز ضروري، انه يصر على ذهابنا مباشرة إلى قلب الأشياء- )…

لأن قصيدة النثر، سارت إلى عصرها، وحضرته بحدوث فاعل مؤكدة على تمكنها من احتواء موسوعاته، وجديده الحاضر بحضور العصر المعلوماتي الجديد.. أن توسعت المعالم، وصار كل جزء في هذا العالم، يقتضي رؤية متأنية، مستقلة، دون إهمال ما حققه الأقدمون في هذا المجال، أو ذاك.. كانت مفازة حتمية، وحوضا فعليا لأجل احتواء سعة العصر الجديد..فما اقرب قول أبو هلال العسكري: (الشعر كلام منسوج ومنظوم، واحسن ما تلائم نسجه، ولم يستخف، وحسن لفظه لم يستهجن، ولم يستعمل فيه الغليظ من الكلام، فيكون جلفا بغيضا، ولا السوقي من الألفاظ فيكون مهلهلا دونا- ) وقول آخر يستحق التأمل العميق، تفتقده القصيدة الجديدة، كي لا يقصينا التغريب المتعمد، عن مناهجنا الأساسية في الإبداع: (.. أن يكون سمحا، سهل مخارج الحروف من مواضعها، عليه رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة - قدامه بن جعفر):

ولنقرأ الاستنتاج التالي - (السؤال حجة الأغبياء للتباهي بالمعرفة – ص 38)، وهو الدائم السؤال - ( ما الفرق بينك وبين  كل نساء العالم؟ / أنا لا أدري؟ – ص 47 )، فالشعر في رأي ابن سلام : (حجة في عربيته، أدب يستفاد، معنى يستخرج، مثل يضرب، مديح رائع، هجاء مقذع، فخر معجب، ونسيب مشرف).  (رايتك تعودين وحدك / بمعطفك الأسود/ و بذات الشرائط القرمزية / بالأمس ليس بعيدا ..تذكرت/ أني بكيت، فبكيت – ص 45)  قصيدة النثر هي خلاصة فاعلة، لكشف عمق حركة التاريخ، بعمق حركة الشعر… بحث عن الذات في مديات العشق.. نغمة موسيقية تقاس عليها حضارة الشعوب، النثر تصاعد فعل نغمي مدروس، تحكمه حلاوة الكلمة المدعومة بالمعنى الباطن اكثر من المعنى الظاهر، كونها تتجاوز مديات الهم المتكاثر من تلك الزحمة الكثيفة التي يعاني منها الإنسان المعاصر، فأكتشف لها المبرر الذي أعطاها مشروعية وجود فاعل، وغناء مؤثر، وخلود أكيد. إذ تحررت من قيدها القالب العتيد، الذي ضاق على اكثر شعرائنا فصاحة وجعلهم في بحث دائب عن خلاص ، ولم يكد ذلك الخلاص أن يتبين بالتخلص من القافية، وبقاء الأوزان .. حتى جاء من ينادي برفع تلك الأوزان، موصياً بكتابة القصيدة الخالية من التفاصيل الخليلية ، مؤكداً على موسيقى الصورة، وسعة أفق الموضوع، و صارت تسمى بالنثرية، فشاعت المسميات، واغلبها بقي لا يروي من ظمئ، ولا يطفأ ناراً. بقيت المقاييس تتباين من شاعر إلى آخر، وتحتدم المسافات التي تقترب من جانب، وتختلف إلى جانب آخر، بعيد. ( من حيث إن الألفاظ كانت أوعية للمعاني فأنها لا محالة تتبع المعاني في مواقعها - عبد القاهر الجرجاني )

إن قصيدة النثر تعاصر ذاتها في الزمن، وتناغم حركته القاذفة بجنون نحو التقنيات المتفجرة في عالم التكنولوجيا .قد أوشكت أن تتحرر من اللفظ، ولكنها لم تحقق إلا جماليات قياسية،لا تصلح لكل العصور.

بغداد




Author's Notes/Comments: 

mu29@hotmail.com محمد الأحمد  


View alahmed's Full Portfolio
tags: