حياد المرايا
قصائد : محمد درويش علي
بإهداء شفاف (إلى… حبّ آخر يلوح)… ابتدأ الشاعر(محمد درويش علي) مجموعته الشعرية (حياد المرايا) الصادرة عن الشؤون الثقافية(2001م)، حيث جاءت المحاولات المتنوعة بعبق الياسمين… في مرايا تقلب الشمال إلى يمين، واليمين إلى شمال، ولا تحيد، رغم الظروف التي مرّ فيها الشاعر العراقي(أي شاعر) متأبطاً بندقيته، محارباً في خندق كان على حدود بلده…يدافع عن الحياض، والمبادئ.. صورة نراها في صورة الذات قبل أن تكون صورتنا التي تعودنا على رؤيتها- من داخل الذات.. لأننا تعودنا على تلك الصورة التي تتغير تدريجياً، دون أن نلاحظ التغيرات، المتراكمة التي تركتها… عواصف لوعة الصدمات بالحزن المقيت الذي أبقته على الوجه… سنابك خيول الزمن القاهرة..(الحرب إن توقفت في الجبهات/ فإنها تبدأ في قلوب العائدين منها) ص91. قصائد حملت من الكلام ذاته، المملوءة بالبارود المشتعل موتاً، و غناءاً عذباً أرقته القصيدة من زمن الحرب في الذهن، أباحت الموت بصمت لم تكن تتركه الانفجارات، أن يمر بذاكرة الشاعر ما لم يحدي أغاريدها التي عذبته. (كان القائل يبيع الصوت / والكلمات تتبع القائل/ بين الكلمات والقائل/ ضاع القصد) ص 33. النصوص المليئة تبدأ في الذهن، وتطارد متلقيها بألف صورة، بألف معنى.. تعيد عليه رواية الأشياء بتركيب جديد محمل بقتامة أيام الاحتراق المضنية، موسيقاها تتسربل تباعاً عبر لفتات صغيرة، ذكية المعنى، قوية الغرز، دقيقة التركيب (ما بيننا حرب/ وسوالف ساعات الهدنة/ وهدير الدبابات المسرعة إلى حدود القلب/ رائحة بارود/ ووميض قنبلة انفجرت في البعيد/ وجه أسير/ وذاكرة جريحة) ص48. الذكريات التي شتتها الصواريخ من ذاكرة المحارب الذي حمل من عمره حده الأعلى إلى أتون الذكريات، نحو الحدّ الفاصل للبطولة، ملاحم لم تكن سهلة النسيان، أبداً. يسجلها الشاعر، ألانه التاريخ المسكت عنه في أمكنة لها نكهة الدويّ العنيف، ذكريات مليئة بالأركولوجيا لن تسقط من ذاكرة الشعر، الذي اتلف لنا كل ما بقي لدينا من أوراق، وعمر… بتفاصيل كانت مليئة بالشظايا… (الحرب هي الحرب) ص87. ذاكرة الشعر في (حياد المرايا) مليئة بما هو أقسى من الكوابيس.
موسيقى الكلمة كانت لا تكفي- اندلاق بيت واحد من أفق لحب آخر يلوح في غبش العمر الذي كان مؤجلاً إلى اجل لم نكن نتوقعه. قال شهاب الدين احمد بن عبد ربه: (وزعمت الفلاسفة إن النغم بقي من المنطق.. لم يقدر اللسان على استخراجه، فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع، لا على التقطيع، فلما ظهر عشقته النفس، وحن إليه الروح )
(أنا / حرب / وضعت أوزارها / وبدأت الآن في الفراغ ) ص 23 .
(هي حرب / نحن قتلاها / ورمادها) ص66.
(ما بيننا صواريخ لا تعرف الرحمة / وروح لا تعرف الخوف / وجسور من المحبة) ص 91.
(النار أكلت كل شئ/ أتريد أن تدعوني إليك/ وتوجز الذي كان بكلمة واحدة؟). ص 75
(كل يوم لنا فيه ألف عام/ ألف هسهسة/ ألف ذكرى/ وخيبة، وانبثاق/ أكوام أعمار في أعناقنا/ يجررها قلب ذابل) ص74
قصائد كموال يخربش صفاء ليل طويل… يقض النغم بوجع مبك، تبدأ عنده - بإشارة سريعة، تجعل قارئها يدخل إلى البضعة، ويغرف بها حيث أمله المؤجل… إنها تجربة تستحق البحث كونها تجربة حرب.. الحرب التي جاءت بعد النصر المؤزر.. حربه في القصيدة تسحبنا بذكريات مؤتلفة، ومتشابهة تعيث بنا الذكرى، ونرحل نحو أصدقاء حصدتها الشظايا، و وقت أكل منا أغلى الخلايا المتفتحة على آمالنا الكبار… معظم قصائد المجموعة، امتازت، بالقصر، فأجاد الشاعر التكثيف، الذي يواكب العصر التكنولوجي السريع، بعد أن ضاق الوقت حتى على الحلم.. (في المرآة / وجدت الليل يجدد الظلام ! ) ص 32… فمن قال أن المرايا تنقل الصور بحياد؟.. إنها مرايا الحرب التي صار عندنا من الوقت لأن نتأملها، بعد زوالها، حقا، قصائد الحرب، أوضحت ملامحها الحرب. يقول "بروكس " عن أهمية (الموقف الدرامي) : (إن القصيدة هي نفسها دراما تقوم لا يمكن اختزالها إلى مقولة المعنى، أو التجربة الإنسانية المألوفة. بل إن القصيدة تتركب، وتتآلف من بنية تقوم أساسا على الاستعارة، والمجاز، وتتسم بالمفارقة لا محالة، ومن ثم فان أجزائها تتفاعل بطريقة موضوعية تعمل معاً لتشكل القصيدة، و بالتالي تعكس صورتها من خلال أجزائها في كل متكامل ذي وحدة عضوية). ويبقى الأمر ما بعد النص- في القارئ ليعيد تشكيله، لما توافق في ذهنه عن الحرب الضروس. حيث يفضي إلى متعة التدارك، والاستعادة.. فيكون (الجندي) الذي كان هو القارئ ذاته الذي هو (الجندي/ الشاعر)، (الجندي/ القارئ).
يرى "فولفانغ آيزر " (القراءة عملية جدلية تبادلية مستمرة ذات اتجاهين من القارئ إلى النص، ومن النص إلى القارئ، وتعمل هذه الجدلية دائماً على الزمان والمكان. وان المعنى ليس موضوعا مادياً يمكن تعريفه ضمن وحدة ما، و إنما هو تأثير تصويري السمة يجب معايشته، والإحساس به. وللنص عموماً أربعة استراتيجيات، منظور الراوي، منظور الشخصية، منظور الحبكة، وما خصص للقارئ).
(الوجوه: تدون تاريخ سواها / ولنهارات منسية/ تسعى) ص 37..(القصيدة القصيرة).. تحتاج إلى تأشير في تجربة الشعر العراقي، خاصة. و إلى فسحة يتسع لها القصد. متخيلة من الحرف الأول حتى النهاية..بكل إيقاعها، وسرعة زمانها، القصيدة تحوي قصتها المفترضة أساسا، لاجل أن تسير ضمن كلية الموضوع. تبدأ في الذهن، تبدو وكأنها كاملة مكتسية لحماً، وعظماً. لها وجودها، وحسها، فامتازت طقطوقاته القصيرة مثل ( … … ) بحلاوة القفلات، وتعدد الموضوعات، وجدية المعنى، وغالباً ما تستعصي المعاني المحصورة بين ثلة كلمات.. الصورة التي بقيت في الذاكرة من تلك الأهوال، التي لم تستطع أن توجزها الكلمة الضيقة، تلك الكلمة التي ما احتوت إلا نغمة من تلك الجمجمة. كان المحارب الذي خلفته الحرب في الأنفاس يطارد الشاعر، بكل ذكرياته، فينال منه، ويمزقه إربا. (الريح تولول خارج البيت/ ربما كانت تبحث عن ملاذ/ ولكن/ من يدعها تدخل؟) ص 55
في (حياد المرايا) أعتبر (النص ) مرآة عاكسة للعالم، وما فيه من أحداث.. نقله من خلال نظم تعبيرية، لم تحد عن شئ… حتى بالمفردة – التي كانت متبادلة بين الجنود، آنذاك.. مثل(الدايحة – الكواني– الجولة – خلصت ) ليعطي نصاً مقروءاً، نقل تلك المفردات التي لا تقبل التبديل. (محمد درويش علي) تجربة (من باب لشيخ) دونت الوجه البغدادي الجميل في (باب الشيخ)، فأرخت المكوث، وذلك تفصيل آخر نمّ عن اعتزاز الشاعر بعرقيته، وعرقيتنا هي الحرب.
بغداد