لنقرأ عن
كوابيس دونكيشوت..
(الهادي التليلي) شاعر تونسي قدمته الأحلام إلى يمّ هاجسه المتسع حتى حافة الحلم العربي.. احتواها ديوانه الشعري الموسوم بـ (كوابيس دونكيشوت ) عبر رؤية تواصلت بعطاء جزل من ثلاث قصائد (كابوس الدهشة)، (كابوس الغيم)، و(كابوس الغاب… ملحمة القيامة) التي تناصت على مساحة من الحب تشتعل بالتوجس، لأجل أن تبوح بماهية جروح متعددة، تنكأها الأزمات التي يمرّ بها العربي كل يوم، وكلما تقلصت حدود حركة تأريخ النصر الأيدلوجي، فيلجأ متحركاً نحو الحلم، هارباً حيث يتسع الحلم مخيبا آماله، ككل مرة، ويوقظه على ابشع كابوس.. حيث يُنهض قصيدة عشقه من أنبل مطاف.. ينغمس في لذة حلم قويم، ويلتقي بما في هشاشة الخريطة العربية من حدود، وهواجس..
قصائدٌ تتفاعل بحرف عربي واضح المقاصد، وسكون متشظّ الى عاصفة يتنبأ بها الشعر، اكثر مما يتنبأ بها السياسي الذي تسوقه إليها المؤسسات المجردة من الحس، و لا يهمها سوى برميل النفط العربي الذي تحول بلمحة بصر، من حلم رفاهية إلى جامعة معصمين… (ليتها الآن/ بغداد في الغاب كي يحررها/ من نسور الغيم في ليل السجال – ص 10)، فكتاب الشعر(أي كتاب) يغرينا على الدوام بالإبحار بحثاً بالمعنى، و ما وراء القصد، لأجل اصطياده كالحوت الذي ابتلع سفن الحكايات، ونفاها إلى عمقه البطين. ليس لأن جملهُ الشفافة تشي بالمعاني العميقة، وتكسر ركود اللحظة الضيقة، و إنما القصيدة في الكتاب تتلامع على أن تعطي ثمارها بسهولة مثلما تعطيها بقية الفنون السردية. تجبرنا على أن نقف طويلا عند النثر البديع حيناً، وعند النظم الرصين.. فهو تارة يلعب بتورية عاشق يغازل حبيبته أمام الملأ دون أن يكشف شفرته المشحونة بألف قبلة، ومحملة بألف كف حنون يتجول على المسامات، ويفتحها رغم عيون المحيطين.. فقد امتازت قصيدة النثر بوفرة التصوير الدقيق، واعتراض تلك الجمل، تميز أداة الشاعر من بين أدواته الأخرى، فبرغم كل الشفافية تبدأ جمل الاعتراض بالانقلاب على ذاتها منفلتة من الرقابة العربية الدامغة، تبدأ أسئلتها بكل ما على الشاعر من سعة رؤية، وعمق إدراك.. لقد صادر الشاعر كل خوفه الموروث، وتألق بما امتلك من مساحة حيوية في مدى لعبة القصيدة الحديثة التي ابتكرت لذاتها فضاءاً شاسعا، وبقيت تقول القول بلا ارتباك. (كي يسرق القمر البعيد/ ويترك الضوء/ تعلقه السماء – ص 23). عندما انشأ (سرفانتس) النص الأول، والذي اخترع فيه شخصية (دونكيشوت)، بذلك العصر المزدحم بالأحداث، المزدحم بالمعارف، جعلنا نستدل إلى تشابهه تلك الحقب، فنستدل إلى اختيار الشاعر العربي التونسي لشخصية (دونكيشوت) الحالم بالنصر على المارقين يصحو على واقع هش أقحم نفسه (أي كتاب) دون أن يعي، بأنه قد دخل نزاعه مع طواحين الهواء، متخيلاً إنها جمهرة أعداء، و لتمرير خطابه جعلنا نتوقف لأجل أن نكتشف القصد في أسرار النص، ودلالاته قبل أن نكشف أسرار القصائد، ودلالاتها… ذلك ما يؤكد عليه النقاد الغربيون كقضية المؤلف، والتأويل النقدي، وفاعلية القراءة (Lecture)، وعلاقة النص بالعالم من حوله كنص امتلأ دماً، وموقفاً…(لانه لا يتبع حواشي الكلام، و لا يعاظل من المنطق، و لا يقول إلا ما يعرف، و لا يمتدح الرجل إلا بما يكون فيه )..
و المرأة بين دفتيه همس متصاعد كتحدّ ملتبس له كل الكلام، وله بعض منبسط الأسارير يفرغ الشاعر فيه محتواه، وأيديولوجيته، ليمضي في خطابه إلى أمة تتوالد من رحم ألام الواحدة، والأخت، و الزوجة، والبلد.
ثمةُ بعدٌ ساخر تكشفه كلمات الشعر، فيتحول الجلي الوضوح الى مقاصد أخرى تجري في باطن النص، وتغير مجرى الوجهة في المعنى، لتفلت من كابوس الرقيب الأدبي الذي توارثناه، وان ماتت تلك المناهج في عصر التكنولوجيا، عصر التقنية الفعلية التي لا تقبل بالأوهام… ثمة سؤال يتصاعد من متن الشعر : ما نسبة الشبه بين العربي الحالم، وهو لا حول له ولا قوة، أدونكيشوت عربياً إلى ذلك الحدّ المتطابق؟.. رغم اختلاف الثقافات؟. لكن (الهادي التليلي) يجهر بحلاوة صوته بأن الإنسان واحد، وما يجري عليه استلاباً مقررا كقدر أحمق يطارده ابد الدهر.
كوابيس تطارد الشاعر، يشكيها لي أنا قارئه، لأوشر لهل جديتها، و أهمل منها ما لا يجعلني أرى فيه نفسي، أتقول خطابي من خلال النص الذي بين دفتي الكتاب المستحق الوقت مني، والجهد.
تحيتي إلى الشاعر بإبداعه.
السبت، 22 حزيران، 2002