لجوءٌ عاطفي
نص: عبد الستار البيضاني
قراءة: محمد الأحمد
mu29@hotmail.com
يبدو إن الزمن في النص القصير الذي كتبه القاص (عبد الستار البيضاني) الموسوم (لجوء عاطفي )، قد اختزلتهُ الذكريات، إلى ابعد ما يمكن، فضيّع تجنيسه كرواية ذات فصول متواصلة، جلية الهدف؛ بعيدة كل البعد عن جنس الرواية، كون مصطلح جنس الرواية يحمل جملة شروط، أهمها الرسم الدقيق لعلاقات الشخصيات المتواشجة فيما بينها، فكلما وهنت تلك السمة، فقدت مبررها ألتجنيسي، وبقيت حتى صفحاتها الأخيرة متخذة مسار آخر، حيث لم توجز تتبع المنبع حتى المصبّ، عبر ذلك تتعبد طرق، وتمتدُّ جسور، مقنعة، تأخذ القارئ نحو جدل يعمق الفكرة التي يؤمن بها كمثقف يعي أداته، أو الأسباب الداعية إلى كتابتها، فالعمل الروائي لابد وان يحمل موقفا حادّاً من قضية ما، وقد ابتعد بنائها كرواية، مقتربا من (نص) كما يؤكده (رولان بارت )، و أقر بذلك المبدع في مفتح فصله الأول:- (بان هذا الذي قلته هو نتاج مخيلة عاشق أو أوهام الحرمان- الرواية ص7)، فجاء بجمالية كتابية تستحق الإشادة، إذ جاء النص مناداة الحبيبة البعيدة (طالبة لنيل درجة الماجستير في الهندسة) التي تبتعد عن (صاحب محل لنسخ الكتب الدراسية، خريج كلية الآداب) بمسافة يقطعها قطار (ما بين بغداد، والبصرة)، وسط عالم مزدحم بالتناقضات، والمفارقات، فيناديها كحبيبة قد أخذها الزمن بعيدة عن حبيبها، بلغةٍ شفيفةٍ مليئة بالحزن واللوعة، عبر فصول ثلاثة، تأثث فضائها بشخصيات أخرى (أصدقاء) لم يقصد الراوي، إلا ليجعلها شبحيه، ليس لها عمقاً لا في الزمان أو المكان، بقدر ما أراد أن يرسم (خط) سكة حديد تصله إلى قصة حبّ بطلها -المكان- جلي الصورة، واضح المعاني يربط عبر التذكر ما بين المدن المتباعدة، ولا يدع نسيان الحبيب حبيبه. (أن روضة لم تكن سوى رمزاً لكل نساء البصرة اللواتي أحببتهن ومنحني الإحساس الحقيقي بالحياة؟.. ربما لهذا السبب أيضاً انتهت العلاقة بين جسدها ومخيلتي فقد حاولت أكثر من مرة أن أثير هذه المخيلة بالتركيز على شفتيها الغليظتين اللتين تذكراني بشفاه الزنجيات فوجدت نفسي أسألها:- هل أنت خلاسية؟- الرواية ص82). فالعودة إلى الماضي، تبيتُ هاجساً مضنياً لكل راوِّ عراقي، أو لكل كاتب نص، ولكل بطل محور ُمجتَرَحْ، فثمة إعادة نظر، رفضاً، في كل التاريخ العراقي من الكتاب، فهو يتنكر لما عاشه في الماضي، ويعمل على تغريب ذاته الحق عائدا إلى ما فاته، مقارناً، وما عاش من حقيقة، ولو تشابه، هنا أو هناك، فهو ليس بالضرورة إلا كتابة وثيقة زمن، لجأ كاتبها إلى قصة حب أسقطت عليه ظلالها البديعة، وجعلته يغنيها بلغة جزلة، تفاوتت في إشاراتها، ودلالتها الواضحة. (فكنت بين لحظة وأخرى أستجيب لظلها الذي يغمرني بالطراوة ويخفف عني زحمة العمل- الرواية ص51)، ولكن لمشروع إعادة صياغة ما كان ينبغي عليه أن يكون إلا عائدا بواسطة (قطار، ومحطات، وتذاكر)، (أطلق القطار عويلاً طويلاً بصوت مبحوح يشبه موالاً جنوبياً حزيناً، صوت مجروح يناغي جرحاً عميقاً في أعمق أعماقي، جرح الخسارة والانكسار- الرواية ص93)، فلقد حرم الأديب العراقي من أن يعش حياته كبقية إقرانه من بقية خلق الله، فعمد إلى الرفض العمد، والى التغريب العمد، (قلت لك كل شيء في العراق قابل للتهريب والمتاجرة.. والجوع الظالم جعلنا في هذه العملية متوهمين أننا نربح أو نستريح أو سنربح ونعوض بعد أن يرفع الحصار- الرواية ص54)، وراح يعود ببطله بعد زمن طويل إلى مكانه الذي كان من المفترض في الواقع المعاش أن لا يفارقه. (يقال عندما دخلت القطارات إلى بلدنا أول مرة؛ حرمها أحد رجال الدين، وفضل عليها الحمير، إذ قال إن القطار من خلق الشيطان، والحمار من خلق الله- الرواية ص14)، فالنص المكتوب يفترش آماله، كاشفا عن آلامه، لأنه الأمين لما رآه، فدونه بوعي (أن يرى ما لا يراه المؤرخ، حتى لو كان نزيهاً، لأن الأخير يلامس الحاضر والماضي ويدع المستقبل جانباً، بل إنه يقيس، أحياناً، الحاضر على الماضي باحثاً عن المفيد، الذي ينطوي على التحريض ومحاكاة مجد بعيد مفقود- فيصل دراج )، فكلما أخذتنا اسطرها إلى متن محدود الشخصيات، يجدها القارئ لم تك واضحة الملامح، بمثل ما أعطى للمكان الذي عاد إليه، بشوق، ورسمه بدقة (يبدو مدخل المحطة مغلقاً ببوابة حديد كبيرة ذات لون أخضر، عريضة بشكل ملحوظ وترتفع حتى السقف، تتقاطع وتلتقي القضبان الحديد داخل إطارها مكونة أشكالاً هندسية وزخارف ويتم المرور من وسطها عبر باب صغير تنفتح مثل ظلفة الشباك ضمن البوابة الكبيرة لكن الطلاء الأخضر جعل من الصعوبة علي تمييز الباب الصغير عن البوابة الكبيرة- الرواية ص20)، و(نهضت واقتربت من السياج الذي يفصل الأرصفة عن سقيفة الانتظار، ورحت أمعن النظر في جوانب العربات وتحديداً في نوافذها وأبوابها لعلني أرى الصاج والأبنوس أو ستائر الحرير الوردية، لكن كل شيء غارق في ظلال الباردة، بعد أن مالت الشمس إلى يمين القطار- الرواية ص 34)، فالسرد يدوم حركته بين أصدقاء غير واضحي الملامح، كأنهم يواصلون غربة الكاتب وعزلته، (عرفتها لأول مرة بهذه الصورة.. أية خيبة تولدت لدي أو أي غباء كنت أعيش.. أبعد ست سنوات تتحول إلى امرأة أخرى تتجلى بكل بهائها وعطائها؟ كم كنت قاسياً معك يا صديقتي النبيلة- الرواية ص118). وقد كتب تورجنييف ذات مرة قائلا: (إن منتهى السعادة بالنسبة للأديب أن يصور الحقيقة بالضبط وفي قوة، حقيقة الحياة، حتى وان كانت هذه الحقيقة لا تتطابق مع ميوله الشخصية)، فنص (لجوء عاطفي) يشير إلى تجربة عراقية، ترفع صوتها عاليا، كونه اعتراض، واحتجاج، وسخط على زمن مضى العراقي فيه محاطا بالعوز والفاقة مقصياً ومنفياً عن دوره الفاعل في الحياة، (أطلقته قدماي وردده رأسي مثل مكبرة صوت، شعرت أنهما أطلقا السؤال عندما توقفا عن السير لحظات ملأ بالحيرة التي حيرت الجسد والرأس معها- الرواية ص19)... تجربة حساسة مبدعة تستحق الإشادة، والتأشير، كونها وثيقة زمن لن يطمر أبدا، فقد دأب هذا الجيل (على تصوير مشكلات الواقع الاجتماعي وقضاياه، وتخطى التصوير عندهم أزمة الفرد إلى أزمة طبقة كاملة أو جيل بأسره، فأصبح نتاجهم سجلاً لحياة مجتمعهم- د. محمد هريدي )، فكاتبها عراقي الهوية يعرف بأنه شاهد عصره، وعليه أن يشهد فيه شهادته.. كما كان يؤكده (جان بول سارتر ) رحمه الله.
الثلاثاء، 03 مايو، 2005