الأدب والسياسة

ـــ عبد الكريم ناصيف

الأدب: هو الكلمة والإنجيل يقول: في البدء كان الكلمة أي هي المبتدأ والأساس والمنطلق. ذلك أن ما يميز الإنسان عن الكائنات الأخرى كلها هو النطق وأجمل النطق ما ندعوه أدباً فالأدب هو فن صناعة الكلام، إدارة الكلام، هو القول الجميل، شعراً كان أم نثراً، ذلك الذي يعبر عن مشاعر الإنسان وأحاسيسه، أفكاره وخواطره، والقدرة على الإتيان بذلك القول الجميل لا تكون لكل الناس بل هي للخاصة منهم، ممن أوتوا موهبة متميزة في القدرة على التعبير وتوليد الأفكار وتحريك الخيال بل صنع عوالم جديدة وصور جميلة تسحر العقول وتأخذ بالألباب حتى قال الرسول الكريم إن من البيان لسحرا.

هذا السحر تجسد على نحو خاص في الشعر فآداب الأمم كلها بدأت شعراً ذلك أن الشعر –إلى جانب الحكاية- هو وحده الذي كان بالإمكان حفظه وتناقله شفاها، حين لم يكن هنالك كتابة ولا تدوين، لهذا كان يعتبر نبوغ شاعر في القوم هبة من الله ونعمة كبيرة يحتفي بها القوم ويقيمون لها المناسبات وذلك كما يقول ابن رشيق القيرواني في كتابه العمدة: "كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك وصنعت الأطعمة واجتمعت النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن بالأعراس وتباشر الرجال والولدان لأنه حماية لأعراضهم وذبٌّ عن أحسابهم وتخليد لمآثرهم وإشادة بذكرهم.. الخ(1). والشاعر –أو الأديب- قبل هذا وذاك هو ضمير قومه الحي ووجدانهم المتيقظ، لسانهم الناطق وموطن عقلهم وحكمتهم وهو بالتالي المثل الحقيقي لهم الذي يعبر عن أفراحهم وأتراحهم، تطلعاتهم وطموحاتهم، انتصاراتهم وهزائمهم، ولهذه الأسباب كلها كان للشاعر والأديب مكانة خاصة دائماً جعلته في كثير من الأحيان سفيراً أو ممثلاً لقومه في التشكيلة السياسية للدولة يحسب له ألف حساب.

وفي تاريخنا العربي أمثلة كثيرة عن أهمية الشاعر والكلمة وما كان لهما من دور في المجتمع والسياسة، سنكتفي هنا ببعض الأمثلة:

كان الشاعر يزيد بن المفرغ يهجو عبيد الله بن زياد والي العراق هجاء مقذعا فجاء به وحبسه وكتب إلى يزيد بن معاوية يستأذنه في قتله، هو الذي كان يعرض بأمه سمية، فكتب إليه يزيد محذراً "إياك وقتله، ولكن عاقبه ولا تبلغ نفسه، فإن لـه عشيرة هي جندي وبطانتي"(2).

المثال الثاني هو ما حدث بين أوس بن حارثة وهو من وجوه طيء والشاعر بشر بن أبي خازم الذي كان يهجوه مر الهجاء حتى أقسم ابن حارثة أن يحرق بشراً إن هو أمسك به. وحدث أن قوماً من طيء أسروا بشراً في واقعة من الوقائع فمضى أوس إليهم يستوهبه منهم فوهبوه إياه، فجاء به إلى داره وأخذ يعد العدة للبر بقسمه وتنفيذ نذره، وهو حرق بشر، علمت أم أوس بذلك فجاءت إليه لائمة معنفة "قبح الله رأيك، أكرم الرجل وخل عنه.. فإنه لا يمحو ما قاله غير لسانه".

إن الإدراك العميق لأهمية الكلمة وبقائها ولأهمية الشاعر ودوره في نشر ما يريد الإنسان نشره هو الذي دفع هذه المرأة الحكيمة إلى ما نصحت به ابنها فلا يمحو مقولة الشعر إلا الشعر ومن الشاعر ذاته وليس أي عمل انتقامي آخر. وصلت هذه الرسالة إلى ابنها أوس فأطلق سراح الشاعر فعلاً وأكرمه أيما إكرام وهو ما جعل ابن أبي خازم يحلف أن ينظم قصيدة مدح في أوس مقابل كل قصيدة هجاء كان قد قالها فيه.

وهناك حادثة أخرى شهيرة في تراثنا العربي حين جاءت ليلى الأخيلية إلى الحجاج فمدحته بقصيدة أعجبته فقال لرئيس ديوانه "اقطع لسانها" فمضى رئيس الديوان بالشاعرة يعد العدة لقطع لسانها فعلاً.

فصاحت به: "ويحك، هو يريدك أن تكرمني لا أن تعاقبني". عاد رئيس الديوان إلى الحجاج يسأله فزجره أيما زجر قائلاً: "تباً لك وهل يقطع لسانها غير أن تجزل عطاءها؟" إذن كان الحجاج وسعدى أم أوس، والكل يعلمون أن الشعر والأدب بالغ التأثير في نفوس الناس، عظيما الأهمية، لم لا والأدب يصوغه الأديب ويشكله كما يشاء، يحركه ويوجهه بالطريقة التي يشاء فيكون مسيئاً ضاراً إن كان ضد الحاكم والسياسي أو يكون مفيداً نافعاً إن كان معه ويتكلم لصالحه.. فما هي السياسة يا ترى؟

السياسة: تعريفاً هي فن إدارة الحكم وتدبير أمور الدولة وتسيير شؤون المجتمع ولأنها كذلك فقد كانت العلاقة بين السياسة والأدب هي علاقة وشيجة متشابكة معقدة دائماً، ذلك أن كلاً من الأديب والسياسي ينتمي إلى الصفوة: الأول: صفوة الفكر والإبداع والثاني صفوة السلطة والسيطرة، كما أن كلاً منهما معنى بالعام أكثر من الخاص، فالأديب، كما سبق وأشرنا، هو لسان قومه الناطق وعقلهم المفكر وضميرهم المتيقظ، من يرى للأمام ويفكر في المستقبل ويطمح للأفضل، فيما يمسك الثاني بزمام الأمور مباشرة، يأمر، ينهى، يغير، يبدل، أحياناً وفق القوانين والنظم وأكثر الأحيان وفق النزوات والأهواء، ودائماً بهدف محدد هو: الحفاظ على الوضع القائم وترسيخه ونظراً لأن الأديب الذي غالباً ما يملك بصيرة ثاقبة وبعد نظر، والذي غالباً ما يجسد تطلعات قومه وآمالهم من أجل الانتقال إلى وضع أحسن يجد نفسه في مواجهة السياسي الذي يريد الحفاظ على الوضع القائم بأي شكل خشية أن يجر عليه التغيير المتاعب والمشاكل، وبالتالي ينشأ نوع من العلاقة الصدامية بين إرادة التغيير وإرادة المحافظة وهي الحال التي كثيراً ما يواجهها الأديب إزاء السياسي.. فالأديب يتطلع إلى ما يجب أن يكون ويعمل من أجله، فيما السياسي يتعامل مع الواقع، مع ما هو قائم.. ويعمل للحفاظ عليه لهذا يعرف بعضهم الأدب بأنه فن التعامل مع ما يجب أن يكون بينما السياسة هي فن الممكن أو فن التعامل مع ما هو كائن، علاوة على ذلك فإن الأديب بحاجة للسياسي كما أن السياسي بحاجة للأديب وذلك لأسباب كثيرة، ربما في رأسها حاجة الأديب للرزق الذي يتحكم به السياسي وحاجة السياسي للأديب الذي يتحكم بالكلمة ويملك القدرة على التعبير عما يريد من تلك الأسباب أيضاً أن:

أ- الأدب ديوان الأمة وسجلها الناطق:

فالأدب هو الذي يدون البطولات والتضحيات، الوقائع والأحداث، الانتصارات والانهزامات، المفاخر والمثالب وبالتالي هو الذي يشكل روح الأمة وقوامها ويمكنه أن يسهم في تحقيق خلودها أو زوالها، لهذا كانوا يقولون "الشعر ديوان العرب" نظراً لأن الشعر في تلك المرحلة كان هو لب الأدب  ومحوره وكان الشعراء هم الذين يدبجون القصائد في الأحداث العظام والمواقع الكبيرة وكأنهم يسجلون تاريخ الأمة، وهكذا كتب زهير بن أبي سلمى في صلح عبس وذبيان وإنهاء حرب داحس والغبراء، كما كتب للمتنبي في غزوات سيف الدولة للروم وأبو تمام في وقعة عمورية... مما خلد تلك الأحداث والوقائع وأبقاها حية تتداولها العصور والأزمان وتتناقلها الألسن والمجالس في شتى البلدان، والحقيقة أن كثيراً من الشخصيات في التاريخ كانت ستذهب طي النسيان لولا الأدب، وكثيراً من الأحداث ما كانت ستبقى حية خالدة لولا الأدب ولعل أبرز الأمثلة على ذلك حصار طروادة الذي خلدته إلياذة هوميروس لتتناقل أخباره الأجيال تلو الأجيال، غزو نابليون لموسكو الذي خلده تولستوي في روايته "الحرب والسلم". الثورة الفرنسية التي خلدها ديكنز في روايته قصة مدينتين والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. كما أن شخصيات كثيرة خلدها التاريخ وصارت أعلاماً شهيرة ما كانت لتصبح كذلك لولا الأدب ولعل أبرز الأمثلة على ذلك سيف الدولة الحمداني الذي خلده المتنبي بقصائد مدحه، كافور الذي خلده بقصائد قدحه وممن خلدهم الأدب شخصيات السير والملاحم: أبو ليلى المهلهل، سيف بن ذي يزن، عنترة بن شداد، الظاهر بيبرس... الخ. كما خلق نماذج بشرية وأنماطاً شاعت واشتهرت إلى درجة صارت معها نماذج وأنماطاً عالمية تأتي على ذكر أحدهم فيدلك على نطاق من المعاني والمضامين كرسها الأدب والتراث عبر الزمان، مثال على ذلك من الأدب العربي: ابن بطوطة، السندباد، علي بابا.. الخ، من الأدب الإسباني دون كيشوت، من الأدب الإنكليزي، دون جوان، شايلوك. من الأدب الألماني: فاوست.. الخ.. وهذا يؤكد قدرة الأدب على الخلود والتخليد وهو ما كان يدركه أجدادنا العرب منذ القدم فكانوا يأتون بأجود القصائد ليكتبوها بماء الذهب ويعلقوها على الكعبة حتى سميت بالمعلقات وهو السبب نفسه الذي كان يجعل الحاكم يسعى لكسب ود الأديب وتجنيده لصالحه وتسخير قلمه في خدمته، عله يكسب الخلود.

ب-الأدب تعبير عن موقف سياسي:

ذلك أن الأدب لكونه معنياً بالصالح العام، حاملاً لهموم المجتمع، ناثراً لبذور الثقافة والفكر، فإنه غالباً ما يكون ذا موقف سياسي، يريد هذه السياسة ويرفض تلك، ينافح عن هذا الجانب السياسي ويهاجم ذاك. بل هو في أحيان كثيرة يتحمل ما يمكن أن نسميه مهمة إصدار البيان السياسي الذي يحمله الآخرون ويشيعونه مروجين لهذه الفئة داعين لتلك. لهذا السبب يهتم السياسي والحاكم كثيراً بالأديب والشاعر لكي يستفيد من قلمه في الدعوة له واستقطاب الناس من حوله وتغيير مواقفهم وجعلهم يتبنون مواقف أخرى، وفي تراثنا العربي أمثلة كثيرة للغاية كان للأدب وللشعر تحديداً دور بالغ الأهمية في تحقيق ذلك، من هذه الأمثلة وفد قبيلة تميم عندما قدم على الرسول الكريم لا لكي يبارك الدعوة ويدخل في الإسلام بل للمفاخرة والدخول في مبارزة خطابية شعرية لإثبات من هو الأفضل فيتبعه الأقل فضلاً. أي كانوا يريدون للمفاخرة بالكلمة والشعر أن تحدد غالباً ومغلوباً، منتصراً أو مهزوماً، والمنتصر الغالب هو الذي يستحق أن يتولى الزعامة وتؤول إليه قيادة المجتمع، ووافق الرسول رغم أن وفد تميم كان يضم أهم خطباء وشعراء تميم وأعيانهم المشهود لهم بالبلاغة والفصاحة، لقد قالوا له (يا محمد جئناك نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا، قال قد أذنت لخطيبكم فليقل، فقام عطارد بن حاجب فألقى خطبة قصيرة أجابه عليها ثابت بن قيس من المسلمين. بعدئذ قام الزبرقان بن بدر من وفد تميم فأنشد قصيدة منها:

أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا

إذا اختلفوا عند احتضار المواسم

بأنا فروع الناس في كل موطن

وأن ليس في أرض الحجاز كدارم..



فلما فرغ من قصيدته قال الرسول لحسان بن ثابت "قم يا حسان فأجب الرجل فيما قال" فقال حسان قصيدة منها:

بني دارم لا تفخروا إن فخركم

يعود وبالاً عند ذكر المكارم

فلا تجعلوا لله نداً وأسلموا

ولا تلبسوا زياً كزي الأعاجم..



وكانت النتيجة أن اعترف الأقرع بن حابس باسم الوفد التميمي بأن خطيب الرسول أخطب من خطيبهم وشاعره أشعر من شاعرهم وبناء على ذلك قرروا الدخول في الإسلام، أي عملت الكلمة على تغيير موقف قبيلة تميم كلها والانضمام إلى النظام الديني والسياسي الجديد.

مثال آخر نورده عن حادثة وقعت في مطلع قيام الدولة العباسية حين نزل أبو العباس السفاح عن المنبر فقام الشاعر السيد الحميري وأنشد الخليفة على الفور:

دونكموها يا بني هاشم

فجددوا من عهدها الدارسا

قد ساسها قبلكم ساسة

لم يتركوا رطباً ولا يابساً



فسر أبو العباس كل السرور لأنه كان يعلم أن تلك القصيدة المطولة ستكون بياناً سياسياً للدولة العباسية توفر لها الولاء والطاعة والقبول، وهو فعلاً ما حدث، فقال للشاعر: أحسنت يا إسماعيل، سلني حاجتك، قال تولي سليمان بن حبيب الأهواز، ففعل. وهكذا لبى كل من السياسي والأديب حاجة الآخر.

حادثة أخرى جرت في عهد معاوية بن أبي سفيان عندما أراد أن يجعل الخلافة وراثية محصورة في أهل بيته وأن يأخذ البيعة لابنه يزيد في حياته وهو يعرف نفور المسلمين من ذلك، فدفع بعض الشعراء، وهم وسائل الإعلام النشيطة في تلك الأيام، للتبشير بهذا الرأي والدعوة لفكرته وقد لبى الشاعر مسكين الدارمي هذه الدعوة وأنشده –والقوم متجمعون في مجلسه- قصيدته الدالية التي يطلب فيها أن يكون يزيد هو أمير المؤمنين من بعده إذ يقول:

بني خلفاء الله مهلاً فإنما

يبوئها الرحمن حيث يريد

إذا المنبر الغربي خلى مكانه

فإن أمير المؤمنين يزيد..



فأقبل عليه معاوية، وكأنما فوجئ بالأمر كله، ثم قال: "ننظر فيما قلت يا مسكين ونستخير الله". ثم وصله وأجزل عطاءه هو وابنه يزيد.

حادثة أخرى استخدم بها السياسي الأديب لغرض من أغراضه هي ما حصل في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور الذي طلب –كمعاوية- إلى الشاعر أبي نخيلة أن يصدر نوعاً من البيان السياسي يدعو فيه إلى تغيير ولاية العهد، فقام أبو نخيلة –وبحضور كبار القادة والأمراء والولاة- فأنشد قصيدته التي أحدثت ما يشبه الزلزال في الخلافة العباسية إذ قال:

ليس ولي عهدنا بالأسعد

عيسى فزحلفها إلى محمد

فنادِ للبيعة جمعاً نحشد

في يومنا الحاضر هذا أوغد



إنه انقلاب بدأه الشاعر أبو نخيلة وكانت نتيجته أن زحلف المنصور فعلاً، أي نقل، ولاية العهد من عيسى بن موسى إلى ابنه محمد المهدي.

هذه المواقف السياسية التي كان يتخذها الأديب ويعبر عنها بشعره كثيراً ما تحولت إلى ولاءات لتكتلات، وتحزبات دفعت بالأديب لأن يتعصب لهذا التيار السياسي أو يتحزب لذاك وتنشب معارك أدبية طاحنة كثيراً ما كان يستخدمها السياسي لتصفية خصومه ودعم أنصاره. من الأمثلة على ذلك، البيت الشعري الشهير الذي قاله مروان بن أبي حفصة تحزباً للعباسيين ضد العلويين وتأييداً لحقهم في الخلافة على أبناء علي، فقد قال:

أنى يكون؟ وليس ذاك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمام



هذا البيت أثار ضجة بالغة في أوساط الدولة، وسر الخليفة له كل السرور إلى درجة دفع له على قصيدته تلك ألف دينار لكل بيت من الشعر، لكن سرعان ما تصدى له شاعر آخر ليرد عليه قائلاً:

لم لا يكون؟ وإن ذاك لكائن

لبني البنات وراثة الأعمام

للبنت نصف كامل من ماله

والعم متروك بغير سهام..



ومن الأمثلة على ذلك أيضاً قصة الشاعر سديف بن ميمون الذي كان يكره الأمويين وتربطه صلات وثيقة بالعباسيين وآل هاشم إلى حد التعصب لهم والتحزب لحزبهم، لهذا ما إن ذهب إلى الأنبار، مقر أبي العباس السفاح ورأى في مجلسه رجالاً أمويين كان أبو العباس يقربهم من مجلسه حتى انتفض منشداً قصيدته العصماء:

لا يغرنك ما ترى من رجال

إن تحت الضلوع داء دويا

فضع السيف وارفع السوط حتى

لا ترى فوق ظهرها أموياً..



وكانت تلك القصيدة هي الضربة القاضية للأمويين، إذ ثار أبو العباس وهاج وأمر في الحال بذبح كل من كان حاضراً من الأمويين ثم لاحق البقية حتى لم يُبقِ على ظهرها أموياً، كما قال سديف بن ميمون.

ولا شك أن شعراء عديدين في التاريخ تحزبوا لهذا الجانب أو ذاك ربما أشهرهم الكميت، منصور النمري، الشريف الرضي.. وقد نذروا أنفسهم خالصين لموقف معين من الدولة العباسية داعين لإحقاق الحق وإعادة الخلافة لأصحابها من بني هاشم، وبالتحديد بني علي والحسين.

أما في العصر الحديث فالأمثلة أكثر من أن تعد على تعبير الأدب عن موقف سياسي والتزامه بتكتل أو حزب ليدافع عنه، ويشرح أفكاره، ويستقطب له الأنصار، وذلك بدءاً من البيان الشيوعي لماركس وأنجلز وحتى أدبيات الأحزاب كلها تلك التي تكتب في خضم المعارك السياسية والصراعات بين النظم والأحزاب.

ج-الأدب وسيلة إعلام:

كان الأدب ولا يزال الوسيلة الأساسية التي يمكن بها توصيل خطاب معين أو توجيه رسالة معينة بهدف معين، إذ يعمل الأدب بالحجة والإقناع، وأحياناً بغير الحجة والإقناع على نشر فكرة معينة بين الجماهير أو مناهضة فكرة معينة وقد لعب الشعراء في تاريخنا العربي دوراً هاماً في مناصرة هذا الحكم أو صد ذلك التيار السياسي، إذ كانت قصائدهم من أكثر الوسائل تأثيراً وفعالية في مسيرة الحياة اليومية، مما جعل السياسي والحاكم يسعى بكل ما استطاع لكسب رضى هذا الشاعر أو تفادي غضب ذاك وتجنب الوقوع فريسة لسانه الذي لا يرحم أو تحييده على الأقل، فالكل يعلمون أن بيت شعر يطلقه الشاعر قد يرفع إلى السماء أو يخفض إلى الحضيض، وقول جرير:

فغض الطرف إنك من نمير

فلا كعباً بلغت ولا كلاباً



أكبر مثال على ذلك، إذ لم تستطع نمير بعده أن ترفع لها رأساً، بل يقول لنا المؤرخون إن كثيرين منهم صاروا ينتسبون إلى قبيلة أخرى إذا ما سألهم أحد عن قبيلتهم، كذلك قول الحطيئة في الزبرقان بن بدر:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي



جعل الزبرقان يجن جنونه ويشكوه للخليفة عمر فيحبسه الخليفة، السبب بالتأكيد هو معرفة الزبرقان بخطر هذا البيت وتجريده من كل مكرمة أو شرف وهذا أشبه بالحكم بالإعدام..

مثال آخر نورده هو قصيدة كعب بن زهير في الرسول الكريم والإسلام، وتعريضه بهما وهجاء الرسول هجاء مقذعاً إلى درجة أن الرسول، رغم حلمه الشديد وحكمته البالغة وحنكته العظيمة، لم يستطع التحمل فهدر دمه، أي أصدر حكماً بإعدامه وذلك لأن كعباً شهر الشعر سلاحاً في وجه الإسلام وهو سلاح خطير ونافذ وفعال في تلك الظروف إلى الحد الذي دفع الرسول إلى الخشية البالغة على الدعوة الفتية إذا ما ترك الأمور سائبة تعبث بها وسيلة الإعلام الفتاكة تلك، فكعب حينذاك كان أشبه بإذاعة متنقلة يلقي شعره أينما ذهب ويوغل بالإساءة والهجاء للرسول أينما حل مؤثراً في الرأي العام معبأ الناس ضد الدعوة الجديدة مغيراً من قناعاتهم ومواقفهم.. فجاء هدر الدم كي يقطع الطريق على تلك الإذاعة المتنقلة، إذ بات كعب خائفاً على نفسه، يتوقع القتل في كل لحظة، الأمر الذي دفع به لأن يغير موقفه، يتوب ويطلب الصفح من الرسول بقصيدته العصماء، "بانت سعاد"، ومنها قوله:

إن الرسول لنور يستضاء به

مهند من سيوف الله مسلول

نبئت أن رسول الله أوعدني

والعفو عند رسول الله مأمول..



ففرح الرسول بالقصيدة كل الفرح، إذ استطاع بها أن يلوي عنق الحملة المعادية له ويوجهها لصالحه، فقد انتشرت تلك القصيدة بين قبائل العرب انتشار النار في الهشيم، وكانت خير وسيلة دعائية للدعوة الجديدة وصاحبها..

ولا شك أن الحكام عبر التاريخ كانوا يعلمون أهمية الأدب –والشعر خصوصاً- كوسيلة إعلامية مؤثرة وإذاعة متحركة فاعلة، فكان يعمل كل منهم لإيجاد الأديب الذي يرعاه ويمولـه وينشر فوقه مظلته كي يكيل له المدائح ويدبج له الثناء فيكون خير دعاية له وأمضى سيف في معاركه مع الآخرين، من الأمثلة على ذلك في تراثنا: النعمان بن المنذر والنابغة الذبياني، الرسول الكريم وحسان بن ثابت، عبد الملك بن مروان والأخطل، المعتصم وأبو تمام، المتوكل والبحتري، سيف الدولة، المتنبي... الخ.

أما في التراث العالمي فالأمثلة أكثر بكثيرٍ، ونلحظ هنا أن الحاكم، كدوق فايمار والشاعر الألماني غوته مثلاً، كان يتعهد بشؤون الأديب تعهداً تاماً يوفر له رزقه ورفاهية عيشه مقابل الإخلاص له والعمل من أجل تدعيم حكمه.

في الأنظمة السياسية الحديثة تغدو المسألة مسألة خضوع وتبعية، فالأديب الذي يمالئ نظاماً يجند قلمه له ويسخر مواهبه لخدمته، غاضاً النظر عن كل شيء آخر سوى مصلحته ولقمة عيشه، من هنا جاء الاحتجاج منذ القديم على أن يبيع الأديب نفسه للحاكم أو للنظام، فيكتب عنه ما ليس فيه، ويمدحه بما لا يتصف به، كما يقول الشاعر:

أيها المادح العباد ليعطى

إن لله ما بأيدي العباد

لا تقل في الجواد ما ليس فيه

وتسمي البخيل باسم الجواد



إنه احتجاج صارخ على المتكسب بالشعر وبيع الأديب نفسه للحاكم والسياسي مقابل المال.

د-الأدب محور الحراك الاجتماعي:

فالأمة الصاعدة يكون أدبها صاعداً، أما الهابطة فيكون أدبها هابطاً، أي بمعنى آخر انظر إلى أدب أمة فإن رأيته صاعداً كانت الأمة ذاتها صاعدة، أما إن كان هابطاً فهي ولا بد هابطة، أكبر مثال على ذلك نستمده من حضارتنا العربية فحين كانت مزدهرة كان أدبها مزدهراً، شعراء، كتاب، ناثرون، مفكرون، فلاسفة كلهم كانت بغداد تعج بهم في أوج ازدهارها، بينما خلت هي وسواها من كل صافر نار منهم بعد أن دخلت هذه الأمة عصر الانحطاط.

نظرة أخرى إلى أدبنا اليوم وأدبنا قبل مائتي عام تبين لنا تلك الحقيقة واضحة تماماً. فالأمة، وهي تحت نير الاستعمار العثماني، كانت موقداً منطفئاً لا حرارة فيه ولا نار، كل من فيها نفوس خامدة وعقول متلبدة لا تبدع جديداً ولا تأتي بمبتكر، بل غاية ما تفعله هي أن تجتر وتجتر عاجزة عن أي إبداع حقيقي، لكن ما إن بدأت النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر وبدأت الأمة تستيقظ وتتنبه، حتى بدأ شعراء وكتاب، مفكرون وفلاسفة بالظهور من جديد وبالإبداع من جديد، ثم لم يأت الاستقلال ويرفع عن كاهل الأمة كلكل الاستعمار حتى بدأت المواهب تتفتح والقرائح تبدع، فظهر أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، طه حسين والعقاد، وبدأت سيول من الكتابات تظهر في الصحف وعشرات الكتب تصدرها المطابع. إنه الصعود الذي كان الشعراء والأدباء طليعته، فألهبوا حماس الناس للاستقلال وبثوا فيهم روح النضال والتضحية، إلى حد دفع بشاعر الخديوي في مصر أحمد شوقي، لأن يشهر قلمه ضد الاستعمار ويدعو للتحرر والاستقلال، وهو نفسه ما دفع بالإنكليز لنفيه إلى الأندلس، حيث كتب قصيدته الشهيرة محاكياً فيها البحتري ومنها بيته الأشهر:

وطني لو شغلت بالخلد عنه

نازعتني إليه في الخلد نفسي



إنه الحراك الاجتماعي الذي كان يتوجه نحو الاستقلال والحرية ومن يجسد مثل ذلك الحراك؟ الشعر والأدب، فتبارى الكتاب في مواجهة الاستعمار في شرقي الوطن العربي وغربيه داعين لنبذ التواكل والتخاذل والوقوف صفاً واحداً في وجه المستعمر، لإدراكهم أن الحرية تؤخذ ولا تعطى، كما قال الشاعر نفسه:

وللحرية الحمراء باب

بكل يد مضرجة يدق



وكذلك ليقينهم أن خلاص العرب في وحدتهم وتراص صفوفهم فقال حافظ إبراهيم مخاطباً أهل الشام:

هذي يدي عن بني مصر تصافحكم

فصافحوها توحد بعضها العرب



إنه الصعود نحو الأعلى الذي بدأت تشهده الأمة في كافة المجالات، تعليماً، تصنيعاً، سياسة، تربية.. وكان، في الأدب، إبداعاً في كل المجالات أيضاً: الشعر، القصة، الرواية، المسرح، الدراسات والأبحاث، العلوم، الفكر والفلسفة.. مما يؤكد العلاقة الجدلية المباشرة بين الأمة وأدبها، صعوداً أو هبوطاً، وما يؤكد أيضاً أن حضارة أمة من الأمم هي كل لا يتجزأ، تنهض الأمة في جانب فتنهض في بقية الجوانب والعكس صحيح تماماً ولكي يقبض السياسي على زمام الحراك الاجتماعي صعوداً أو هبوطاً لا بد له من القبض على زمام الفعاليات الأدبية والفكرية باعتبارها هي المحرك الأساسي لذلك الحراك، من هنا تنشأ العلاقة بين الأدب والسياسة فتكون علاقة إيجابية بقدر ما يكون ثمة توافق بين نهج السياسة وسلوك الحاكم من جهة وبين تطلعات الأديب وطموحات الشعب من جهة ثانية، أي توافق بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، لكنها تكون علاقة سلبية بقدر ما يكون هناك اختلاف بين نهج السياسة وسلوك الحاكم من جهة وتطلعات الأديب وطموحات الشعب من جهة ثانية وغالباً ما يلتقي الحاكم والمحكوم وتتوافق الصفوة السياسية مع الصفوة الأدبية في حال ارتقاء الأمة ونهوضها، أما في الحالة الثانية فتكون الهوة واسعة بين الحاكم والمحكوم والخلاف على أشده بين الطبقة الحاكمة وطبقة الأنتلجنسيا، وغالباً ما نشاهد الأمثلة الأوضح على ذلك حين يكون السياسي الحاكم أجنبياً دخيلاً لا علاقة له بالأمة، همه فرض السيطرة على الشعب ونهب ثرواته واستغلال خيراته، أو حاكماً جائراً تتملكه نزعة الاستبداد والطغيان، فيحاول استخدام الأدب لمصالحه ومنافعه واحتواء الأدباء لذاته، فيما يقاوم هؤلاء سياسة الاحتواء تلك، الأمر الذي تنجم عنه حالة كثيراً ما نشهدها في تاريخنا العربي والعالمي هي:

د-الصدام بين الأدب والسياسة:

لأسباب كثيرة يدخل الأديب في حالة صدام مع السياسي، على رأسها ولا شك: الاختلاف على النهج السياسي، نقد الأديب لأخطاء الحاكم، عدم رضاه عن سلوكه ومحاولة تنبيهه... انحياز الأديب إلى أحد الأجنحة في صراع سياسي معين، مقاومة الأديب للحاكم من منطلق وطني إن كان هذا الحاكم أجنبياً دخيلاً.. الخ، كما يمكن أن تدخل العلاقات الشخصية في تأجيج الخلاف والصراع، خاصة إذا علمنا أن الأديب والسياسي هما على علاقة مباشرة دائماً، سواء احتك واحدهما بالآخر والتقى به أم لم يحتك ولم يلتق، ذلك أن السياسي يتابع دائماً ما يكتب الأديب ويرصد توجهاته فيضعه في القائمة السوداء إن كان ينتقد أو يعارض، ذا رأي حر مستقل لا يمكن شراؤه أو احتواؤه، أو يضعه في القائمة البيضاء، قائمة الأتباع والحواشي إن كان لين العريكة قابلاً للتعاون والخدمة، فيما يرصد الأديب السياسي نهجاً وسلوكاً ليرى إن كان يتوافق مع مثله وقيمه، طموحاته وتطلعاته، فيكتب مسبحاً بالحمد أو ينتقد ويهجو إن كان غير ذلك، فإذا كانت الحالة الأولى احتوى الحاكم الأديب وانتهى الأمر لكن ماذا يحدث إن كانت الحالة الثانية؟ سيكون هناك الصدام والصراع، وباعتبار أن الأديب هو الحلقة الأضعف، غالباً ما يدفع الثمن باهظاً في هذا الصدام، فالحاكم هو الذي يملك القوة ويملك السلاح والجند، الأمر والنهي وبالتالي غالباً ما تنتج مآس عن ذلك الصدام.

في تاريخنا العربي الكثير من الأمثلة على ذلك للأسف، فأعشى همدان الشاعر المجاهد الذي شارك في الفتوح الإسلامية في طبرستان وأذربيجان... رأى ما عليه الحجاج الثقفي من جور وبغي فارتد على الحجاج واشترك مع عبد الرحمن بن الأشعث في الثورة عليه وخلال ذلك هجاه هجاء مقذعاً منه:

نبئت حجاج بن يوسف

خر من زلق فتبا



فلما انهزم ابن الأشعث وأسر أعشى همدان قابله الحجاج مقابلة أشبه بالمحاكمة لكن بلا محامي دفاع ولا قانون اتهام ولم يفدِ الأعشى أنه كان قد مدح الحجاج أكثر من مرة، فحكم عليه بالموت.

بل إن الحجاج في حادثة أخرى هدد بشن حرب على الدولة البيزنطية كلها من أجل شاعر هجاه. هذا الشاعر هو العديل بن الفرخ الذي لم يكن يعجبه جور الحجاج وظلمه فهجاه بأبيات من الشعر، فأهدر الحجاج دمه وأرسل في طلبه، حاول العديل الالتجاء إلى إحدى القبائل العربية إلا أن هذه كلها رفضت حمايته أو إيواءه مما اضطره للهرب إلى بلاد الروم وهو يقول مطمئن النفس:

ودون يد الحجاج من أن تنالني

بساط لأيدي الناعجات عريض



لكن لم يخطر بباله أن الحجاج كان مستعداً للذهاب بعيداً في طلبه حتى ولو اقتضى منه ذلك إعلان الحرب على دولة الروم في سبيل استعادته وإنزال القصاص به، وبالفعل هذا ما حدث، إذ أرسل الحجاج إلى القيصر رسالة يطلب إليه فيها تسليم الشاعر مهدداً "والله لتبعثن به أو لأغزونك خيلاً يكون أولها عندك وآخرها عندي" وكانت النتيجة أن رضخ القيصر للتهديد وأرسل الشاعر إلى الحجاج.

وهذا شاعر آخر عاش في زمن الخليفة العباسي الواثق هو أبو النبغي الذي لم يكن يعجبه سلوك الواثق ولا النهج السياسي الذي يتبعه، خاصة وقد كان من قبله من خلفاء أدخلوا المماليك الأتراك، ومما قاله:

صبراً على الذل والصغار

يا خالق الليل والنهار

كم من حمار على جواد

ومن جواد بلا حمار



إضافة إلى أشعار أخرى في هجاء حاشية الواثق وأعوانه أدت بهم إلى حبسه وقتله.

أما ابن الرومي فقد بلغ به الحنق والضيق إن هجا آل وهب، عائلة الوزارة لدى الخليفة العباسي، هجاء فاحشاً إذ قال:

تسميتم فينا ملوكاً وأنتم

عبيد لما تحوي بطون المزاود

لكم نعمة أضحت بضيق صدوركم

مبرأة من كل مثن وحامد



مما أوغر صدر آل وهب الذين أوغروا صدر الخليفة عليه، لهذا ما إن شاع بعد موت الوزير أبي القاسم عبيد الله هذان البيتان:

شربنا عشية مات الوزير

سروراً ونشرب في ثالثه

فلا رحم الله تلك العظام

ولا بارك الله في وارثه



حتى دبر له ابنه القاسم مكيدة أودت بحياته مسموماً.

بينما كانت لمواجهة بشار بن برد، هذا الشاعر العباسي العنيف، للخليفة المهدي ووزيره يعقوب بن داوود نتائج وخيمة للغاية، فقد ضاق صدر الشاعر بتضييق المهدي على الحريات والتزمت في سلوكه والظلم والطغيان إلى درجة منعه من أن يقول شعر الغزل أو محاسبته على بيت من الشعر قاله في طباع النساء:

عسر النساء إلى مياسرة

والصعب يمكن بعدما جمحا



لقد حاول بشار الرضوخ لأمر الخليفة وتنفيذ تعليماته، لكن التضييق استمر والحصار اشتد إلى حد جعل صبره ينفد فشرع ينتقد وزيره يعقوب بن داود، متمنياً على المهدي أن يغيره، كي يصلح حاله وحال الناس إذ يقول:

لله درك يا مهدي من ملك

لولا اصطناعك يعقوب بن داود

أما النهار فنخمات وقرقرة

والليل يأوي إلى الزمار والعود



لكن حين لم يستجب المهدي للانتقاد، شدد هجاءه أكثر وها هو ذا يصيح بالناس دون خوف أو وجل.

يا أيها الناس قد ضاعت خلافتكم

إن الخليفة يعقوب بن داود

ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا

خليفة الله بين الزق والعود



ثم لا يلبث أن يشدد النكير فيهجو الخليفة نفسه أقذع الهجاء:

خليفة يزني بعماته

يلعب بالدبوق والصولجان

أبدلنا الله به غيره

ودس موسى في حري الخيزران



فما كان من المهدي إلا أن قتله بتهمة الزندقة وما هو بزنديق ولا يحزنون.

كذلك كان أمر الشاعر دعبل الخزاعي الذي دخل في صراع مباشر مع الخلافة العباسية فيقول:

أيسومني المأمون خطة جاهل

أو ما رأى بالأمس رأس محمد

إني من القوم الذين سيوفهم

قتلت أخاك وشرفتك بمقعد



وحين توفي الخليفة المعتصم وجاء أخوه الواثق سارع دعبل بن علي إلى هجائهما معاً إذ قال:

الحمد لله لا صبر ولا جلد

ولا عزاء إذا أهل البلى رقدوا

خليفة مات لم يحزن لـه أحد

وآخر جاء لم يفرح به أحد



ولم يوفر دعبل شيئاً من السباب إلا سب به الخليفة المعتصم، انظر ما يقول:

ملوك بني العباس في الكتب سبعة

ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب

كذلك أهل الكهف في الكتب سبعة

خيار إذا عدوا وثامنهم كلب





لقد ضاع أمر الناس إذ ساس ملكهم

(وصيف) و (اشناس) وقد عظم الكرب



وكانت عاقبة ذلك، بالطبع، مقتل دعبل.. أليس هو الحلقة الأضعف الذي لا يملك حيال القوة الغاشمة إلا أن يسلم عنقه.

شاعرنا العظيم المتنبي نفسه كان ضحية مثل ذلك الصراع والصدام، فقد اصطدمت طموحاته بكل ما كان يراه حوله من تفرق الأمة وذهاب ريحها وضياع كرامتها فيقول:

وإنما الناس بالملوك وما

تفلح عرب ملوكها عجم

في كل أرض وطئتها أمم

ترعى بعبد كأنها غنم

يستخشن الخز حين يلبسه

وكان يبرى بظفره القلم



ويتفق الكثير من الدارسين اليوم على أن هذا الموقف المتمرد والرافض لسيطرة الأعاجم على العرب هو الذي أودى بحياة المتنبي. صحيح أن قصيدته في هجاء ضبة وأمه الطرطبة هي السبب المباشر، إلا أن السبب غير المباشر هو حقد البويهيين (الأعاجم) على المتنبي وتدبيرهم مؤامرة عليه، اتخذوا من ضبة رأس حربة فيها، فكانت الضربة القاضية للشاعر العظيم.

ولو أردنا أن نتابع استعراضنا لحالات الصدام بين الأديب والسياسي وما نتج عنها لما انتهينا قط، فالتاريخ العربي والعالمي مليء بالأمثلة، ماضياً وحاضراً ولا شك في أنه سيظل مستقبلاً. ألم يسجن دستويفسكي ويحكم بالإعدام ثم بالنفي نتيجة هذا الصراع؟ غارسيا لوركا، الشاعر الإسباني، ألم يذهب ضحيته؟ بابلو نيرودا... ما عساه حل به؟ في مصر ألم ينف الاستعمار البريطاني كل من وقف في وجهه من الأدباء أو يحبسه؟ محمد عبده، أحمد شوقي، محمود سامي البارودي... الخ.

الشهداء الستة عشر الذين أعدمهم العثمانيون في بيروت ودمشق في 6 أيار ألم يكن معظمهم من الكتاب والأدباء؟ من أصل ستة عشر كان أحد عشر منهم كتاباً وأدباء، وعبد الرحمن الكواكبي، الكاتب العظيم الذي وقف في وجه الاستبداد والطغيان داحضاً مفنداً، ألم يقتله الاستعمار العثماني؟ وحتى اليوم، ألا يذهب عشرات الكتاب والأدباء في العالم بسبب موقف سياسي أو قولة حق أو نقدة لباطل؟ الجواب نعم بالتأكيد لكن من يسعه أن يتابع والوقت قصير والقائمة تطول.

الخاتمة:

ختاماً نخلص إلى أن العلاقة بين الأدب والسياسة ظلت عبر التاريخ ولسوف تظل علاقة متداخلة متشابكة قائمة على الجدل وعدم الاستقرار... إيجابية حيناً وسلبية حيناً آخر. إنها فعاليتان أساسيتان من فعاليات المجتمع، واحدة تصوغ رؤيته وأفكاره وأحلامه والأخرى تمسك بزمام الضبط والربط فيه، وكلتاهما بحاجة للأخرى، قد تتوافق مصالحهما وتوجهاتهما، لكن ما أكثر ما تتعارض، فإذا ما تعارضت عملت السياسة على احتواء الأدب فإن لم تستطع لجأت إلى قمعه، وما أكثر الأمثلة عن القمع خاصة في تاريخنا العربي، لكن الأدب برؤياه السابقة لعصره دائماً وتطلعه إلى التغيير دائماً والارتقاء نحو الأفضل، غالباً ما يقاوم الاحتواء ويقف في وجه الظلم والقمع، فهو الذي يسعى لأن يصل إلى ما يجب أن يكون، لا يستسلم بسهولة بل يكافح دافعاً بالمجتمع كله إلى التغيير نحو الأفضل، إلى ذلك الذي يجب أن يكون، وهي الرسالة الحقيقية التي يحملها على عاتقه الأدب، تشاركه في ذلك السياسة أحياناً وتخالفه أكثر الأحيان

View shamasnah's Full Portfolio