عزيزي فوزي
ها انا احاول كما اتفقنا الرد ببعض التفصيل علي طلبك مني ترجمة قصيدة اللازورد (لابيس لازولي ) من ييتس ، والتعليق علي السياق الذي ذكرته للطلب ، ولابد ان احذر في بداية التعليق انه يصر من جهة علي امكان وضرورة الترجمة ، ولكن في معرض الاعتذار عن التلبية .
مقولة الامكان بالطبع تأتي لتنقض القول الكئيب الشائع عن الاستحالة الكامنة في ترجمة الشعر ، وما يستتبعه هذا القول (ما استتبعه ذلك فعلا) علي صعيد الممارسة . وليس من رد علي القول ، في شكل اولي ، سوي الاشارة الي ان هذا نوع غريب من الاستحال ـ الاستحالة التي تكسر دوماً ، كلما قام احد بترجمة قصيدة ، وما اكثر الترجمات عبرالتاريخ وما بين كل الحضارات .
كما ان هذه الاستحالة ، المعتمدة علي مقولة اخري هي الخصوصية المطلقة لشعرية كل لغة ، لا يمكن حصرها بالشعر ، ولابد من اطلاقها ما بين اللغات ككل ـ ومن ينكر ان لكل منها فرادتها ، مهما كان بينها من التلاقح . اذن ، استحالة الترجمة ككل ، وليس ترجمة الشعر فقط . ولكن اليس لكل ناطق طريقته وفرادته المطلقة في استعماله للغته ، الفرادة المحكومة بعناصر لا تحصي من التنشئة والزمنية والمكانية والذوق والخصوصية الجسدية الخ ؟ . اذن ـ الاستحالة ليس فيما بين اللغات ولكن ضمن اللغة الواحدة نفسها ، بين مستعمليها .
واذن ... فالسخف بعينه والعي بعينه : سخف الخصوصيات المطلقة التي كانت ستنفي لو وجدت كما في هذا التصور ، اي امكان للحياة البشرية كما نعرفها . اي الاستحالة الغريبة نفسها كما في اعلاه : الاستحالة المنفية تلقائيا من قبل الواقع .
لا نريد ان نفلسف الموضوع ونكتفي بطرح هذا الشعار (من هيغل): الشعر ، في جوهره ، هو بالضبط ما يبقي منه بعد ان يمر بالترجمة ! مبالغة من الشيخ الجليل ؟ ربما ، ولكن الي حد ما فقط . فالشعر ـ واللغة عموماً ، والفكر عموماً ، والفن عموماً ، والعلم عموما ـ هو بالضبط تلك الدفعة نحو كسر صمت الخصوصية ، احتوائها والانطلاق عبرها الي الشمولية ـ الانطلاق الذي يشكل العبور الي لغة اخري امتحانه الاقسي . كما قلت لا نريد أن نفلسف الموضوع ، كما ان المفكر لم يكن بالتأكيد يعني هذا النوع من الترجمات البائسة ، بل البذيئة الفقر ، للشعر ، اي غالبية ما يتوفر للقاريء العربي ـ الترجمات التي تقدم نفسها تحت شعار الاستحالة .
وهنا ، ربما ، السر : الترجمة ، ايها القاريء العزيز ، مستحيلة كما تعلم ـ لذا لا تتوقع الكثير . الترجمة كايماءة الي الاصل ، ايماءة عمومية ، اعادة نثرية قاموسية مجهدة بلغة اخري ، لقول شعري ـ اي بالتالي الغاء الشعرية من الشعر ، اي التحرك بالضبط في الاتجاه المعاكس لذلك الذي حدده الفيلسوف : الترجمة هي ما يبقي من الشعر بعد الغاء الشعرية منه ، اعادة سبكته الثمينة الي خساسة مكوناتها المفردية النثرية ... هذا بالطبع ، في احسن الاحوال ، اما في الترجمات المعتادة ، فأيننا حتي من النثر .
لا شك انك تلمس في صياغتي هذه ، عمقا من العدوانية يتجاوز هذه القضية التي تبدو متواضعة . منبع هذه العدوانية هو انتشار الترجمة السهلة المستسهلة منذ الخمسينات ، الترجمة النابعة من فقر الروح ( اللغة ) عندما تواجه ذلك الاخر ، الترجمة التي تقول لنفسها قبل ان تقول للقاريء : الشعر ليس اكثر من هذا ... شوية صور غريبة ملصوقة كيفما اتفق .. ممارسة لا تحمل علي سطحها اكثر من هذه الاعتباطية .
هذه الرسالة الايديولوجية بدأت متواضعة ، وحتي مفيدة ، ولكنها واسعة الانتشار حاليا ، اذ توزعها بعناية تلك المجاميع المستشرية في صحفنا ومجلاتنا . المجاميع التي تعتقد ، من اعماق جهلها وغبائها ، ان شعر الغرب كله دون وزن وقافية ، او اي تطوير لهذين الي ما يبدو من الحرية والنثرية ـ وبالتالي الشعر دون اي شرف للصنعة والشكل ، بل كما يأتي الي الشاعر علي التساهيل .
هذه الرسالة مرتبطة تماما بالمرحلة المعاصرة من كتابة الشعر ، بل انها مصدره الرئيسي ، وبالتالي مصدر لتزييف مفاهيمنا للشعر الاجنبي عموما وبالتالي للشعر ، شعرنا نحن ـ وبالتالي ، الي حد ما ، لكارثة الشعر العربي في هذا المنعطف التاريخي . من ناحية ... ميخالف .. انها كارثة بالتأكيد ولكن اينها ايلاما من جملة الكوارث .. يعني بقت علي الشعر ؟ من ناحية اخري ... الي هنا ونحن كما اعتقد متفقان . الترجمة ليست مستحيلة ـ وهنا بالضبط صعوبتها التي تصل ، في هذه القصيدة المعينة من جهة وامكاناتي المتواضعة من الجهة الاخري ، الي حد الاستحالة . ولكنها ليست الاستحالة الميتافيزيقية التي لا تجاوز لها الا بالتزوير والاستسهال ... الصعوبة الحقيقية ، الصعوبة العملية ..
اقتراح .. عدد خاص من المجلة للترجمة نطرح الموضوع في شكل عملي اكثر .. كوارثنا مع ترجمة الشعر العالمي وكوارث الشعر العالمي عندما يترجم الشعر العربي (ليس ذلك المكتوب توصاة للترجمة بل مجرد الشعر العربي ) ... متي وكيف يمكن ان يترجم احد منا قصيدة مثل اللازورد .. الخ الخ
فالح حسن عبد الرحمن
لندن 1992/6/30