إنْ لم يكن الشعر العربي ابناً شرعياً للموسيقي، فلابدَّ توأمها. نفس الُّلُّحمة والسدي. أوزانه الستة عشر، ومجزوءاته تصل الي الستين ، تنوع وثراء، قد يندر لهما مثيل. اكثر من ذلك أنها تسـّمي بحوراً، لا اعتباطاً ، وكأن لا نهاية لكل منها ، أو هي في الاقلّ، تحتاج الي سابح ذي مهارة وحذاقة في خضّم لا يفتر، أو هكذا احترم العرب صناعة الشعر من مجرد التسمية. الا ّ أنَّ الفراهيديّ ـ وهو المعنّي بالتربية ، لساناً وفكراً وعقيدة ـ جغرف هذه البحور وبوصلها ، ورسم خرائط تفاعيلها ، ولم يفته الا بحر المتدارك . كان عبقرية تعليمية ، فذّة الحرص. لكن كمعظم الوصفات الطبية من تأثيرات جانبية غير مقصودة ، فقد تسببتْ اكتشافاته في تغليب المعرفة المنمذجة علي الفطرة والغريزة . والنمذجة والفطرة ، إنْ اتحدتا فكتوأمين ملتصقين لا بدَّ لهما من عملية جراحية غير مأمونة لفصلهما ، والاّ خنق أحدهما الآخر. الاكثر اشكالاً ، أن التفعيلة الواحدة ، كـ : متفاعلن مثلاً في بحر الكامل، تختلف نبرة وايقاعاً من شاعر لشاعر. بل تختلف من قصيدة الي اخري عند الشاعر نفسه ، بل من بيت الي بيت . صحيح انها بذات الوزن من حيث السكنات والحركات والاوتاد والاسباب ، الا انها تتفاوت من حيث اللون والايقاع والحالة النفسية ، وهي كالنوتة الموسيقية لا تتشابه لدي عازفيْن ، و لا تجيء نفسها مرتين حتي لدي عازف واحد ، او هي كالوجه البشريّ ، فهو وان بدا بنفس الملامح والقسمات ، الا انه يتعدد ويتناقض في الغضب وخلافه ، في الفرح وخلافه ، في التسامح وخلافه ، في التجهم والبسمة . يتعدد ويتناقض حتي في الغضب الواحد ، ان كان لونه احمر وقاداً ، او ابيض مرتجفاً ، إن كان مندحراً يحوس وينوس ، او علي أهبة التفجر يغلي ، إن كان صاغراً يائساً ، او يُحرق الاُرم .
إن صحَّ ما قاله أبو حيان التوحيدي : لكل شاعر بحر ، فلأمريء القيس بحر الطويل ولا أعني : قفا نبك ، وان كانت قصيدة مرهوبة بكل معيار ، ولأبي العلاء المعّري بحر السريع ، اما الخفيف فمن ممتلكات بولص سلامة ، والبسيط من اقطاعيات المتنبي ، والمنسرح لا يليق الا بأبي نواس ، ويتوقد الياس أبو شبكة في مجزوء الخفيف والكامل. مع ذلك ، قد لا تصحُّ قولة أبي حيّان التوحيدي ، تمام الصحّة ، او لا يمكن الاطمئنان اليها ، إذا ما ذُكر الأعشي وابو نواس وأحمد شوقي . اولاء الثلاثة معاهد كبري في الموسيقي ، تتنافس فيها الآلات ، حتي تصعب المفاضلة بين آلة وآلة ، بين وزن ووزن . ما أن تقول هذا بحره اذن ، حتي تجد بحراً آخر لديه ، بنفس الملكة والقوة والتأثير . أولاء الثلاثة تمثّلوا بيئتهم أصواتاً ، فاختزنوها ، عرساً ومأتماً وسوقاً ، بكاءً متوحداً ، وانتصاراً جماعياً ، أختزنوها ، طيراً وشجراً ونهراً وفصولا. لقد وهبتهم الطبيعة ، فألفوا للعزف المنفرد وللكورس ، والسمفونية والاوبرا ، واكثر من ذلك اجادوا عزف ما ألّفوا. علي العموم ، لنقل ان الشاعر العربي يعزف المعني ، وفي العزف الجيد ـ في بعض الاحيان ـ تهريب للأفكار الهيّنة ، كما يضلّل ريشٌ يانع جميل ، حوصلةً ممروضة . ربما شاعت لهذا السبب المعاني المبيرة الفارغة من كل شحنة كهربائية ، وهي لا تٌمتّع الا السّذج ، كما يتمتع الصغار بقدرة الصوف الممغنط علي جذب أشياء تكاد تخلو من وزن كقصاصات الورق وشعر الرأس.
يكاد يكون الشعر العربي والموسيقي مثل ضفيرتي حبل ، لا يقوي احدهما الاّ بالآخر، وهذه التوأمة المتواشجة هي التي تميّزه عن الشعر الانكليزي الذي هو توأم للرسم والمسرح . فان كان الشاعر العربي يعزف المعني ، فأن الشاعر الانكليزي يمسرحه ، وهو بهذا أقرب الي البناء العضوي ، لأنك تتبينه مكاناً مكاناً وزماناً زماناً ، ونمواً ، برعماً فزهرة فثمرة . يهتم الشاعر العربي اكثر ما يهتمُّ بالمطلع ، بالضربة الموسيقية العالية ، يجب
ان يكون مثيراً صارخاً دون مقدمات تمهيدية . فإذا قال المتنبي : واحرَّ قلباه ممن قلبه شبِمُ أو قال أبو تمام : السيف أصدق انباء من الكتب فإنك تستنتج علي الفور ، أن لا حلبة مكانية تدور فيهما القصيدتان اولاً ، ثم ان الشاعرين ابتدآ بقصوانية شديدة محلقين بعاطفة كثيفة جامحة ، بلغت غايتها . انها طوفانات ، فكيف يمكن المزيد عليها ، الاّ بطوفاناتٍ أشد ، فأشدَّ اندفاعاً. بمعني انها متلاحمة بلا تلاحم. قطارات متتابعة ، ذات اتجاه واحد ، وذات سكة واحدة ، متواصلة غير متصلة . فاذا استعرنا تشبيهاً من الاوبرا ، فإن الشاعر العربي يبدأ وينتهي بـ aria وما من حوار سابق recitative . وهو اشبه بطفل ضاحك ، يصرخ فجأة وبأعلي ما يمكن عند زرق ابرة طبية في فخذه او عضده ، او كنائم احّس بلدغة فطاش وعاط ، خارجاً من الاهاب والثياب.
يبدو أن هذه العادة الشعرية ، انحدرت الينا من العصور اللاتدوينية التي حرمت القاريء من الانفراد بالنصّ ، يقرأه ويستعيده ، يحللّه يفككه ويركبه عازلاً صدفه عن لؤلؤه . مع ذلك ، استمرت هذه العادة حتي الآن ، وهي ما تزال مستمرأة ، وخاصة في المحافل السياسيّة.
بالمقارنة ما من شاعر بريطاني اهتمَّ بالموسيقي الشعرية الضاجّة الا/أو بدرجة ديلان توماس . واذا عرفنا انه من ويلز موطن الغناء والموسيقي ، بطل العجب . بسبب منه ظهرت في اوائل الخمسينات حركة شعرية مناهضة ـ كردّ فعل ـ عُرفت بأسم الحركة movement . هنا ابتعد روّادها عن الجعجعة والصخب والزخارف الصوتية ، مهما كانت مدوزنة ، ولجأوا الي العبارات الشعرية البسيطة الخافتة الي النأمة والآبار الارتوازية والمنجم ، تاركين زبد البحر وهديره .
لكن قبل ذلك في أوائل هذا القرن ، اتفق للشعر الانكليزي ان ظهر علي مسرحه ، شاعران مغتربان هما ازرا باوند ، وتي أس أليوت ، قلبا الموازين الشعرية بصورة لم يسبق لها مثيل . قرّرا أن يستغنيا عن أوزان الشعر المتعارف عليها ، ثمَّ بدلاً من ذلك نصحا ولجّا في قراءة النثر لاستنباط أوزان جديدة منه ، وهو اعتراف ضمني بفاعلية النثر منذ ظهور رواية الأحمر والأسود لستندال ، وإقبال القراء عليه . لم تلتفت القصيدة العربية الحديثة في أواخر الأربعينات وخلال الخمسينات ، الا الي الشكل الذي وصلت اليه القصيدة الاوروبية . بشكلها فقط تأثرت ، فظهرت تنويعات موسيقية منطقية بالتفاعيل من حيث الكم والتوزيع . وهكذا ظلّت قديمة ، ولكنها اخذت تعزف علي آلات حديثة . عيب بلا شك ، ولكن استطاع شعراء الخمسينات من كسر الطوق وتدشين مرحلة جديدة .
يمكن القول عموماً ، أن شعر الخمسينات ، كان يضخم ويكبر ـ كالشعر الكلاسيكي ـ بالتراكم ، كموجة فوق موجة ، اي لم ينم نمّواً عضوياً من الداخل . لذا بقيتْ موسيقاه خارجية حدائية كالموسيقي العسكرية ، إن علت او خفتت لا تعني الاستبطان والتأمل .
صلاح نيازي