الشعر والموسيقي





جاء في مقدمة الترجمة العربية لملحمة جلجامش ، لطه باقر : ان الكلمة التي تطلق علي الشعر في ادب حضارة وادي الرافدين ، وهي كلمة شيرو البابلية ، و سير

و شِر ـ sir السومرية التي ظهرت في نظام الكتابة المسمارية منذ اول ظهور الكتابة تعني في اصلها الغناء والانشاد والترنيم .

وهذه الكلمة مشتركة ايضاً في جميع اللغات الساميّة : في العربية هناك كلمة الشعر وربما السورة ايضا ؛ وفي الاوغاريتية الكنعانية ـ ش ي ر : يغني ؛ وفي العبرية شير وكذلك شور : يغني ، ومنها شير هشريم ـ نشيد الانشاد ؛ وفي الآرامية شور . لكن كلمة shur السنسكريتية تعني يغني ايضا . ولعلها مستعارة من السومرية او الاكدية البابلية ، او ا لدرافيدية ؟ .

قد يفهم من هذا ان الغناء كان اصل الشعر . وفي لغتنا العربية ما يؤكد علي ان الشعر كان ينشد ـ في ايام الجاهلية ، اي يُغنَّي ، وذلك من قولهم أنشد قائلاً .

والشعر الغنائي ـ هو اقدم انواع الشعر علي ما يبدو ـ يقال له بالانكليزية lyric ، وكذلك في بقية اللغات الاوروبية ، مع اختلاف طفيف في الاملاء . وأصل الكلمة هو lurikos باليونانية . وهذه مشتقة من كلمة lyre، وهي القيثارة. فالترجمة الحرفية لهذا الشعر هي الشعر القيثاري . وهذا يدعونا الي الاعتقاد بأن الشعر اليوناني كان يلقي او ينشد او يترنم به بمصاحبة القيثارة ، او علي انغامها.

الظاهر ان العلاقة بين الكلام والغناء متداخلة في بعض الالفاظ . كلمة shedi المصرية القديمة ـ الفرعونية ـ تعني : يتلو / يُلقي. وهي تقابل شدا ، يشدو العربية ، بمعني : يغني . وحتي كلمة قال العربية نجد لها معاني في اللغات الساميّة تجمع بين الكلام ، والانشاد ، والانين ، والترتيل ، الخ . فكلمة قالو الاكدية تعني تكلم أنّ ، نَحَبَ . وتقال ايضا لقائد جوقة المرتلين . وكلمة gol العبرية : صوت ، دويّ، طنين ، رعد . وكلمة gala السريانية قول ، صوت ، ترتيلة ، شعر . وكلمة gal الحبشية : صوت، طنين ؛ ومثلها بالاوغاريتية ق و ل : صوت ، طنين. كما ان هذه المادة موجودة في عدد من اللغات الهندية ـ الاوروبية ، بما يعني : يصيح ، يصرخ ،يصوّت ، ينادي ، يمجد ، يسبّح ، الخ ، مثل call الانكليزية .

ولاحظت ان كلمة هاجاه العبرية ـ تلفظ الجيم علي الطريقة المصريةـ تعني (1): يدمدم، يغمغم ، يبربر ، يهدر، (2) يتكلم ، ينطق ، (3) يتأمل ، يلهج بذكر فلان ، او محاسنه مثلاً ، يغني ، ولها معني آخر لسنا بصدده.

هذه الكلمة ذكرتني بـ الهجاء في العربية . ورحت اتساءل : هل كان الهجاء اقدم او من اقدم انواع الشعر العربي ، آخذين بعين الاعتبار المعاني العبرية للكلمة ، وانطلاقاً من ان هذا اللون من الشعر كان يُلقي او يُرتجل عند منازلة الخصم ، والمبارزة ، في الحروب؟

والعربية لغة مجتمع شفاهي او شفوي . والمجتمع الشفاهي يعتمد علي الذاكرة . وتلك هي خصيصة المجتمعات البدوية غير المستقرة . من هنا اعتُمد الكلام الموقّع والمقّفي ، ليكون استذكاره ايسر لان الكتابة وموادها لا تتيسر للمترحل . ومع تطور المجتمع العربي ـ ونحن ما نزال في العصر الجاهلي ـ تعددت اوزان الشعر ، ليكون افق التعبير اوسع واغني ، بمعني ان تعدد بحور الشعر يتيح فرصة اكبر لاغناء الذاكرة نفسها . وقد طوِّعت اللغة العربية في اطار هذه الوسيلة الشفاهية الموسيقية للكلام . ومن هنا مرونة وطواعية المفردة العربية التي باتت اشبه بالعجينة او كتلة الطين بيد نحات . وبهذا عوّضت اللغة عن النحت ، وحتي الموسيقي. علي سبيل المثال ، ان لم يستقم الوزن بكلمة (ربما) استبدلت بربتما ؛ وكذلك القول في (ثم) ، و (ثمة) ، الخ .. وتأتي جموع التكسير ، كما نحسب ، خير مثال علي طواعية المفردة العربية لتلبية هذا الغرض (الشفاهي) . ولا بد ان الشعر كان وراء ابتكار صيغ جموع التكسير ، كما نحسب.

واستعين بالفاظ زائدة ايضا ، مثل (ما) الزائدة ، واللام المزحلقة ، وواو العطف ، و (قد) ، الخ ... وذلك كله من اجل تكريس الذاكرة وشحذها. فهل نستنتج من هذا ان موسيقي الشعر تتناسب تناسباً طردياً مع درجة ترحل او بداوة المجتمع ، وعكسياً مع درجة استقراره او تحضره؟.

مع هذا ، ينبغي لنا ان نحترز من مثل هذه الاحكام ، فما كل مجتمع بدوي جاء شعره صارماً في ايقاعاته واوزانه ، وما كل مجتمع حضري كان شعره حراً من الوزن و القافية (بالمناسبة كان الشعر البابلي حراً وغير موزون ).

علي ان العلاقة بين الشعر والموسيقي تبقي شاغلنا في هذه الكلمة . فهل هذه العلاقة ايقاعية فقط؟أم ان ايقاع الشعر كان يتطلب ضربا من الموسيقي ( أو الترنم بأي شكل من الاشكال ) ؟ ها نحن نعود كرّة اخري الي اللغة : ترانيم ، تراتيل ، اناشيد ، غناء .....كلها تضرب علي وتر الموسيقي.

ولنتوقف ايضا امام هذا التعبير يضرب علي وتر نقول : يضرب علي وتر المحبة ، او التقرب ، او .. او اي موضوع آخر. لكأن هذا المصطلح يفترض وجود ضارب علي وتر (آلة موسيقية )، لعله شاعر في الوقت نفسه ، يلقي كلاماً ـ شعراًـ ويضرب علي الوتر وهو يستطرد في كلامه ـ شعره ـ علي هذا الموضوع . وهذا يعود بنا الي العلاقة بين الشعر والموسيقي.

وتنهض في الذهن ايضا العلاقة البنيوية بين الجملة الموسيقية وبيت الشعر العربي . يقال ان طريقة تشطيرالشعر العربي كانت اساس الفاصلة الموسيقية حتي عند الغرب.

الجملة الموسيقية sentence تتألف علي العموم ، وليس حصراً ، من ثماني فواصل موسيقية bars ، تنقسم الي جزأين ، يبدو اولهما قلقاً او غير تام ، اما الجزء الثاني فيكون بمثابة مكمل او متم للجملة (للشطر الاول منها) . اي ان هناك تناظراً معيناً في جزأي الجملة الموسيقية : اربع فواصل ، تليها اربع اخري (علي العموم). وهذا يذكرنا تماماً بشطري البيت في الشعر العربي . ومع هذا ، لماذا ثمانية ؟ اهناك علاقة مباشرة او غير مباشرة بالثمانية البابلية ، رمز عشتار ، او نجمة الزُهَرَة ، وهو نفسه عدد نوطات الاوكتاف في السلم الموسيقي ؟ . هل له علاقة بايقاع ما في جسم الانسان؟ هذا السؤال يطرح علي من هم اكثر منا الماماً وعلماً بالموضوع . وفيما يلي نموذج للجملة الموسيقية التامة :



في مقابل ذلك يمكن ذكر اي بيت من الشعر العربي العمودي ، علي سبيل المثال :

تسألني أُم الخيار جملا يمشي وئيداً ويكون اوّلا !

طبعاً، هناك جمل موسيقية مجتزأة او مضغوطة ، واخري مطولة . اي ان التناظر بين شطريها غير تام . ولسنا بصدد التوسع حول هذا الموضوع.

ومن قرأ (كتاب الادوار) لصفي الدين عبد المؤمن الارموي البغدادي (ت 1294م) ، وشرح هذا الكتاب لمولانا مبارك شاه ، وجد انهما استعملا نفس المصطلحات الزمنية الايقاعية التي استعملها الخليل بن احمد الفراهيدي في تقطيع الشعر . علي سبيل المثال ان ايقاع (الثقيل الاول ) في الغناء (العباسي) هو :

تنن تنن تننن تن تننن

مفاعلن فعلُن مفْ تعلُنْ

لكن الموسيقي كانت لها ايقاعاتهاالخاصة ايضاً، ومن ثم فعلي الشعر أن يجاريها . من هنا اضطر بعض الشعراء الي مراعاة هذه المتطلبات الايقاعية الموسيقية ، مثل تقصير الاوزان او تجزئتها ، علي نحو ما كان يفعله عمر بن ابي ربيعة وآخرون.

وما يزال الشعر يجد في الموسيقي خير وساطة لرواجه، عن طريق الاغنية بشتي اشكالها وانماطها.



علي الشوك

عودة

  

  



حول القافية



للقافية فضائل كثيرة ، تجعلها أجمل من ان يطمرها النسيان . انها تعيد تأسيس القرابة القديمة بين الشعر والموسيقي ، فتلبي حاجتنا الملحة الي الايقاع : فهناك من يؤكد حاجتنا اليها قبل الولادة عبر الاصغاء الي نبضات قلبنا ، لذا فنحن جميعاً شعراء داخل الرحم . انها تعيّن الكلمات المفاتيح ، تلك التي تشد انتباه القاريء . ولكني اود ان اؤكد امتيازين اضافيين للقافية ، اولهما لصالح قاريء الشعر ، وثانيها لصالح الشاعر.

ان كل من يقرأ الشعر الجيد يطمع بأن يصطحبه معه ، يتذكره ، ويتملكه. واكثر الاحيان لا يحتاج لدراسته : فأشياؤه تتكشف وكأن الحفظ اخذ مكانه بصورة تلقائية وطبيعية دون الم ( بينما حفظ النصوص ، حيث لا نعي .. مهمة مؤلمة او شاقة علي أقل تقدير ). الآن ، وقد تم الحفظ عن طريق الذاكرة ، تبدو القافية انقاذاً اساسياً : بيت من الشعر واحد يستدعي بيتاً معه او ابياتاً ، والقصيدة المنسية يمكن ان يُستعاد بناؤها ، بصورة تقديرية علي الاقل . ان هذا التأثير قوي لحد ان الشعر الذي يخلو من التقفية في الحيز الغامض ولكن المحدود في مخزن ذاكرتنا ، كثيرا ما يترك مجالاً للشعر ذي التقفية ، حتي لو كان الاخير اقل قيمة.

من هذا جاءت النتائج المنفعية : فالشاعر الذي يحب ان يُتذكر (الكلمة الايطالية تعني ان يكون محمولاً في القلب، وفي لغات اخري تعني الحفظ عن قلب ) يجب عليه ان لا يهمل فضيلة القافية هذه.

الفضيلة الاخري اكثر براعة اذ ان اي شاعر ينوي كتابة قصيدة بتقفية سيفرض علي نفسه قيودا ولكن بفائدة . انه ملزم بانهاء البيت الشعري لا بكلمة مُملاة بفعل منطق استطرادي ولكن بكلمة اخري ، كلمة غريبة ، يجب ان تنتخب من بضعة كلمات تنتهي جميعها بطريقة صحيحة . ولذا فهو مجبر علي الافلات ، علي الانحراف عن الطريق الاسهل ، لانه متوقع . ان قراءة ما هو متوقع عمل اضطرار ولا نفع فيه . ان قيد القافية يتطلب من الشاعر الالتجاء الي ما هو غير متوقع ، الي اجبار النفس باتجاه الابداع ، باتجاه الايجاد ، باتجاه اغناء قاموسه بمفردات غير معتادة ، وليّ بنية جملته : بأختصار ان يبتكر.

ان حالة الشاعر تشبه حالة البناء الذي يعمد الي استعمال الاجر غير المعتاد ، متعدد السطوح ، مخلوطاً مع الآجر المعتاد . معماره سيكون اقل نعومة ، واقل فعالية ، وربما اقل متانة ، ولكنه سيقول الكثير لمخيلة الناظر اليه . وسيحمل ابداً لمسات البناء الخاصة . لهذا ، فالقافية وقواعد الشعر عامة ، تتمتع بفاعلية كاشفة لشخصية الكاتب . ونحن بالتأكيد ، نلاحظ بان المسافات اكبر بين الشعراء منها بين كتاب النثر . ان انتساب القصيدة لصاحبها ايسر من انتساب النص النثري . فالشاعر مواجهاً بعوارض الوزن ، يجد نفسه مجبراً علي تنفيذ القفزة ، قفزة البهلوان ، فاسلوبه ملكية صرفة : انه يوقع كل بيت ، اراد ا ذلك او لم يرد . عرف ذلك او لم يعرف .

بريمو ليفي

عن القافيــة



الاهةَ التوافقاتِ السريّـة الضالعةَ في القِدَم

النزْويةَ أبدا فلا أحدٌ يستطيعُ استدعاءها أو التنبؤ بها ،

تأتي كما تأتي السعادةُ ،

يدٌ مليئةً بالانجاز ، هي الان قيد الازهار .

ريلكـــه



عودة







الشعر موسيقي معبأة



بالنسبة لي ، يمثل الشعر الكلاسيكي الصحن الاعظم لتلك الكاتدرائية التي هي الشعر الفرنسي . الشعر الحر بالنسبة له يمثل مصلي جانبيا غنيا بالمفاتن والغموض والتأثيرات الغريبة غير المألوفة . الشعر الكلاسيكي يجب أن يستمر حيا ويبقي . لانه ولد من روح

الشعب وارتفع من تربة الماضي ، وتفتّق عن ازدهار رفيع . ولكن الشعر الحر مكسب جميل يتمرد أبدا علي فكرة المألوف والمبتذل .ولذا فهو ليس بالمنشق والطائفي المنافس

بمصلّي منفردٍ خاص به .دعنا نصغي لارغنات الشعر الكلاسيكي الحصيفة العظمي ، حيث الاصابع الحاذقة تجذل في التراتيل الجليلة ، وترتعش مع ملاطفات الحب ، وترتجف مع أحزان الحياة . اذن دعنا لا ننسي أن الفن لانهائي ...والشعر موسيقي معبّأة تعلن تغيرات الروح . الشعر الحر يملك أن يعلن تغييرات كهذه . وبالرغم من انه أقل سطوة من الشعر الكلاسيكي الا انه ليس أقل عظمة .



مالارميــه

View shamasnah's Full Portfolio