خالد سليمان فايز أبو حسن
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمـة:
يدور البحث المقترح حول الحرية المفقودة والإبداع، فالحرية طريق للإبداع في
المجالات المختلفة، ومنها مجال الثقافة، وفي حال غياب الحرية فإن الإبداع يغيب. إذ
كيف يكون هناك إبداع في ظل غياب الحرية؟ كيف ذلك عندما تكون أرزاق الناس وسيلة
لابتزازهم؟ وهذا ما يقترحه العنوان، من خلال الربط بين كون المثقف موظفاً والحرية
المفقودة. ففي حال أن المثقف يكون موظفاً، فإن الحرية تكون مفقودة، وعلى وجه الخصوص
في ظل النظام الدكتاتوري.
والبحث يتناول جانباً محدداً للإبداع، وهو المجال الثقافي، ولا يتناول الجوانب
المختلفة للإبداع، وهو ما يقتضينا الإجابة على أسئلة مهمة وهي: من هو المثقف؟ وما
علاقة المثقف بالإبداع؟ وما علاقة الحرية بالإبداع؟
وهل المثقف هو الذي يحوز المعرفة فحسب؟ أم أنه الذي يحوز المعرفة ويتأثر ويؤثر
بمعنى أنه يحمل هماً عاماً، ويسعى إلى التغيير؟
ترى كيف إذا أصبح هذا المثقف موظفاً ينتظر المعاش ليأكل هو وأهله؟ عندئذٍ لابد أن
يفكر قبل أن يقول شيئاً، بله أن يفكر ويبدع وقد يصبح رقيباً على نفسه. يوازن كلماته
قبل أن يتفوه بها.
وهذا يقتضي منا الحديث عن الحرية وإعطائها مفهوماً وكذلك الإبداع، وهذا يأتي في
إطار بحث مفاهيمي تاريخي من وجهة نظر إسلامية نلقي فيه الضوء على هذه المصطلحات
التي وردت (الحرية، الإبداع، المثقف) وعلاقتها ببعضها، ونجيب على السؤال المهم وهو:
متى صار المثقف موظفاً؟ وأثر ذلك على واقعنا الملموس وخصوصاً المثقف؟
وقد تكون الإجابة واضحة أو ضمنية من خلال المفاهيم.
وهذا البحث يتضمن فصلين وخاتمة، وقائمة المراجع، بالإضافة إلى المقدمة.
أما الفصل الأول فقد ألقيت فيه الضوء على مفاهيم الكلمات الثلاث الواردة في الفصل
الأول وهي (الحرية، الإبداع، الثقافة أو المثقف).
الفصل الثاني: فقد أجبت فيه عن السؤال المهم وهو: متى صار المثقف موظفاً؟ وأثر ذلك
على مثقف العصر؟
الخاتمة: فيها إجمال وخلاصة للبحث، تجيب على افتراض العلاقة بين المثقف الموظف،
والحرية المفقودة، ونتيجة ذلك هي انتفاء الإبداع لأن المثقف إذا لم يتحرر من ضغط
الخوف على الرزق، وهو أحد الجوانب المهمة إلى جانب الخوف على النفس، فإنه لن يبدع
ولن ينتج.
الفصل الأول
مفاهيم (الحرية، الإبداع، المثقف)
أولا- الحرية:
وقبل الخوض في معنى الحرية لابد من مقدمة عامة ممهدة للحديث عن الحرية، وهذه
المقدمة تتضمن نظرة إسلامية للإنسان.
الإسلام إعلان عام لتحرير الإنسان، وقد قال زعيم الإصلاح في العصر الحديث الشيخ
محمد عبده: \"الإنسان عبد لله وحده، وسيد لكل شيء بعده\"(1)، وهي مقولة تلخص نظرة
الإسلام إلى الإنسان، فهو أي الإنسان عبد لله وحده، مسلماً كان أم كافراً، وفي
القرآن الكريم بيان لذلك(2) من مثل قوله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على
الأرض هوناً) ومن مثل قوله تعالى: (أأنتم أضللتم عبادي)(3).
والإسلام جاء ليحرر الإنسان من مظاهر العبودية لغير الله، ومظاهر العبودية التي
حرر الإسلام الإنسان منها هي: عبودية الإنسان للإنسان بغض النظر عن مكانته: (اتخذوا
أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)(4) (ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون
الله)(5)، ومن عبودية الإنسان لهواه: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على
علم)(6)، ومن عبودية الإنسان للحجر (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)(7)، ومن
عبودية الإنسان للألقاب والأسماء (ما تعبدون من دونه إلا أسماءً سميتموها أنتم
وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان)(8)، ومن عبودية الإنسان للدرهم والدنيا (تعس
عبد الدرهم تعس عبد الدينار)(9).
إننا نرى في قصة(10) القبطي الذي ضرب ولدُ عمرو بن العاص ولدَه، وشكوى القبطي إلى
أمير المؤمنين مثلاً رائعاً من تحرر الشعوب لا نعلم له مثيلاً قبل الإسلام. فهذا
القبطي كان من أمة مغلوبة على أمرها قبل أن يفتح المسلمون مصر، وكان الروم يذلون
كرامتها، ويستلبون أموالها ويلهبون بالسياط ظهور الرجال والنساء، ويتدخلون في
حريتها الدينية ومذاهبها الكنسية. ولم يكن يرتفع لأحد منها صوت لإنكار هذا الظلم.
\"وعندما فتح العرب مصر كان الإكليروس القبطي مختبئاً في الصحاري هرباً من
التصفية\"(11)، فلما جاء الإسلام تفتح وعي الشعب المصري حتى اعتبر هذا القبطي أن
ضرب ولد صغير -وهو ولد الحاكم- لولد صغير من أبناء المحكومين، من غير ذنب جناه
الولد المضروب، ظلماً لا ينبغي السكوت عليه، فهاجر من أجل شكواه شهراً كاملاً على
ظهور الإبل، ليطلب من رئيس الدولة عمر بن الخطاب أن يرفع هذا الظلم الذي جاءت به
الحروب الإسلامية للقضاء عليه، ولتحرير الشعوب منه.
وكان عمر عند ظن هذا الرجل، فارتاع لشكايته، واستقدم حاكم مصر وابنه، وحاكمهما
وقضى على ولد عمرو أن يضربه الولد القبطي على رأسه ضرباً موجعاً أمام الجمهور… ثم
لم يكتفِ بذلك بل وضع السوط على رأس عمرو، وخاطبه بتلك الكلمات الخالدات: \"متى
استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً\"(12).
والإسلام (عقيدة وشريعة)(13) جرى التعبير في القرآن عنهما (بالإيمان والعمل
الصالح)(14). قال تعالى: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)(15)، وإذا كان أساس العقيدة
التوحيد، فإن أساس الشريعة العدل (فبالتوحيد يتحرر الإنسان من عبودية الحجر،
وبالعدل يتحرر الإنسان من العبودية للإنسان)(16).
ومقتضيات العقيدة في الإسلام تتلخص في اعتقاد المسلم أن الآجال بيد الله، وبذلك
يتحر رمن الجبن والبخل، وفي اعتقاده أن الأرزاق بيد الله، وبذلك يتحرر من البخل
والشح، والخوف على الرزق، وفي اعتقاده أن الله يراقبه في سره وعلنه، وبذلك يتحرر من
الأهواء والشهوات.
أما العدل فيتضمن العدل مع النفس، والعدل من الآخرين، والعدل مع الله سبحانه
وتعالى.
أما العدل مع النفس فهو أن يضعها في موضعها الصحيح، إنه (إنصاف المرء نفسه)(17)،
وأما العدل مع الآخرين فهو إعطاؤهم حقوقهم، وأما العدل مع الله فهو إقامـة شرعه.
وما سبق لا يستقيم إلا في ظلال الحرية، فما هي الحرية؟ لقد اختلف الناس في نظرتهم
إلى الحرية اختلافاً كثيراً وواسعاً إلى الحد الذي لا يمكنك معه الاعتماد على معنى
بعينه، فالكل يتحدث عن الحرية، ولكن من خلفية مختلفة عن الآخر، وهو ما يجعلنا نبتعد
إلى حد كبير عن التعريفات المصطلحية، ونغوص في مضمون الحرية.
فالحرية هي (الخلوص من الشوائب أو الرق أو اللؤم)(18)، والحر: ضد العبد والرقيق.
وتحرير الرقبة: عتقها من الرق والعبودية.. (فالحرية هي الإباحة التي تمكن الإنسان
من الفعل المعبر عن إرادته، في أي ميدان من ميادين الفعل، وبأي لون من ألوان
التعبير)(19). قال تعالى: (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد
والأنثى بالأنثى)(20). والحرية أول مبحث من مباحث الفلسفة الإسلامية، وقد ارتبطت
بالمسئولية في ظل تغيرات الحكم الأموي، وهل الإنسان مسيّر أم مُخيّر؟ ومادام الأمر
مرتبطاً بالمسؤولية، فإن نطاق الحرية تجاوز الفرد إلى الجماعة، فهناك فروض عينية
على الفرد القيام بها، وتستلزم حرية هذا الفرد المكلف، وهناك فروض كفائية تجب على
الأمة والجماعة وتستلزم حرية هذا الفرد المكلف، وهناك فروض كفائية تجب على الأمة
والجماعة وتستلزم حرية اجتماعية للأمة والجماعة.
إذن هي ضرورة إنسانية، وفريضة إلهية، وتكليف شرعي واجب وليس مجرد حق من الحقوق،
يجوز لصاحبها أن يتنازل عنها إن هو أراد.
وعند قوله سبحانه وتعالى: (ومن قتل مؤمناً خطئاً فتحرير رقبة مؤمنة)(21)، يقول
الإمام النسفي: \"فإنه -أي القاتل- لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن
يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار، لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها، من قِبَل أن
الرقيق ملحقٌ بالأموات، إذ الرق أثر من آثار الكفر، والكفر موت حكماً (أو من كان
ميتاً فأحييناه)(22)، ولذا وقف الإسلام من الرق موقفاً عملياً وليس نظرياً فحسب،
وذلك حين دعا الإسلام إلى تحرير العبيد، وجعل لذلك أبواباً كثيرةً.
ومقام الحرية ليس مقصوراً على المسلم وحده، فالأمر يتعداه إلى غيره وذلك حينما قرر
الإسلام حرية الضمير في الاعتقاد الديني، وذلك شاهد على حرية تقديس الإنسان في كل
الميادين (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)(23)، (أنلزمكموها وأنتم لها
كارهون)(24)، (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)(25). وبذا انتصر الإسلام للحرية
في كل الميادين.
ولكن الحرية التي أعطاها الإسلام للإنسان، تأتي في إطار ونطاق ثوابت ومقاصد
الشريعة.
وهناك قيدان قيدت بهما الشريعة الإسلامية الحرية وهما(26):
الأول: قيد داخلي ينبعث من صميم النفس، يقوم على السيطرة على النفس، والخضوع لحكم
العقل والضمير (والحياء شعبة من الإيمان).
الثاني: قيد خارجي عن النفس ينظمه القانون، والباعث عليه: هو ضعف القيود النفسية
الداخلية، وهو في الواقع حماية للحرية، لا تقييد لها.
قال الإمام السخاوي: \"الإسلام أعطى الإنسان الحرية، وقيدها بالفضيلة حتى لا
ينحرف، وبالعدل حتى لا يجور، وبالحق حتى لا ينزلق مع الهوى، وبالخير والإيثار حتى
لا تستبد به الأنانية، وبالبعد عن الضرر حتى لا تستشري فيه غرائز البشر\"(27).
وما من شك في أن ما سبق من تصور، وفيما ذكرناه من قيود، وفيما قاله الإمام
السخاوي، يعطينا صورة للحرية في إطار الإسلام، وعلى ضوء ذلك نستطيع المضي قدماً في
الحديث عن المفاهيم الأخرى، ومدى ارتباطها بالحرية، وأثر ذلك على البناء الإنساني
هدماً وتعميراً.
(1)
(2) سورة الفرقان الآية 63.
(3) سورة الفرقان الآية 17.
(4) سورة التوبة الآية 31.
(5) سورة آل عمران الآية 28.
(6) سورة الجاثية الآية 23.
(7) سورة الزمر الآية 3.
(8) سورة يوسف الآية 40.
(9) علاء الدين المتقي بن حسام الدين الهندي- كثر العمال، ج3، ص202، رقم الحديث
6170- ط. مؤسسة الرسالة.
(01) علي الطنطاوي وناجي الطنطاوي، أخبار عمر- ص144-145، ط. المكتب الإسلامي.
(11) فكتور سحاب، من يحمي المسيحيين العرب- ص 14، ط. دار الوحدة.
(21) علي الطنطاوي- مرجع سابق، ص 145.
(31) محمود شلتوت- الإسلام عقيدة وشريعة، ص10، ط. دار الشروق.
(41) محمود شلتوت- مرجع سابق، ص 10.
(51) سورة الكهف الآية 107.
(61) فهمي هويدي- القرآن والسلطان، ص 158، ط. دار الشروق.
(71) ابن قيم الجوزية- زاد المعاد في هدي خير العباد، ص407، ط. مؤسسة الرسالة،
تحقيق شعيب الأرنؤوط.
(81) المعجم الوسيط- ص 187.
(91) د. محمد عمارة- معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، ص 97، ط. نهضة مصر.
(02) سورة البقرة الآية 178.
(12) سورة النساء الآية 92.
(22) أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، ج1، ص243، ط. دار الكتاب
العربي، بيروت- لبنان.
(32) سورة البقرة الآية 256.
(42) سورة هود الآية 28.
(52) سورة يونس الآية 99.
(62) د. وهبة الزحيلي- حق الحرية في العالم، ص 40-41، ط. دار الفكر.
(72) د. سيد محمد الساداني- ص22. الإمام السخاوي، نقلاً عن الزحيلي، مرجع سابق.
ثانياً- مفهوم الإبداع:
(بَدَعه بدعاً: أنشأه على غير مثال سابق، فهو بديع للفاعل والمفعول)(1)، (وأبدع:
أتى البديع)(2)، والإبداع لفظ أَقرّه مجمع اللغة العربية (وهو عند الفلاسفة: إيجاد
الشيء من عدم)(3).
وهناك موقف خاطئ تجاه الإسلام فيما يتعلق بقضية الإبداع ناجم عن فهم مغلوط، وتفسير
خاطئ لحديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: \"إن أصدق الحديث كتاب الله، وأن أفضل
الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة
في النار\"(4).
وبناءً عليه ظن بعضهم تحريم الإسلام لكل إبداع، ولجميع المحدثات والمستجدات (دون
تمييز بين إبداع يخالف الكتاب والسنة، وهي البدعة في ثوابت الدين، وبين الإبداع
المحمود في الفكر الإنساني)(5).
فالفرق كثير بين العلم الإلهي الذي هو سبب هذه الموجودات، والفكر الإنساني الذي هو
مسبَّب عن هذه الموجودات، إذ هو متغير متطور (فالفكر يصح على ما أنتجه الفكر
المنطلق في مضامير الحياة كلها، فإنه أبداً لا يجوز أن يستعمل للدلالة على الوحي،
حتى لا يؤدي إلى الخلط بين الوحي والفكر)(6).
أما تجديد الدين الوارد في الحديث: \"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام
من يجدد لها أمر دينها\"(7)، لا يمكن إلا أن يكون ثمرة للإبداع والاجتهاد الذي هو
فريضة إسلامية، وهو مواكبة الحياة وتطورها للخروج من دوامة الركود.
(ولا معنى لإنكار بعض العلماء عبارة \"التجديد\" وتوجسهم خيفة أن يستخدمها بعض
المنحرفين فيما لا يقبله الإسلام، فلسنا أحرص على الدين ممن بعثه الله به)(8).
والإبداع ليس محصوراً في الماديات، بل هو في المعنويات، في الفكر والصناعة، وخاصة
ما يتعلق في مجال الفكر والثقافة.
والإبداع الإسلامي في السياسات، والثقافات ليس مطلوباً فقط، وإنما هو جزء من
الشريعة، وباب من أبوابها، حتى وإن لم ينزل به الوحي أو ينطق به الرسول صلى الله
عليه وسلم، وهذا هو موقف الإسلام من الإبداع وقد كتب ابن عقيل بهذا الصدد قائلاً:
\"السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن
الفساد، وإن لم يشرعه الرسول ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك: لا سياسة إلا ما وافق
الشرع أي: لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت ما نطق به الشرع فغلط وتغليط
للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين ما كان رأياً اعتمدوا فيه على المصلحة\"(9).
وحتى يكون إبداع، لابد من حرية وهذه الحرية تكون في (رفع الضغوط عن العقول لينطلق
سبيلها في النمو فتمزق غيوم الأوهام التي تمطر المخاوف)(10)، ففرائص المستبد ترتعد
من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم، وسياسة المدنية..
من التي تعرف الإنسان ما هو الإنسان وما هي حقوقه)(11).
(1) المعجم الوسيط ص 64.
(2) المعجم الوسيط، ص 64.
(3) المعجم الوسيط ص 64.
(4) كنز العمال- مرجع سابق، ج1، ص 190.
(5) د. محمد عمارة- معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، ص 174، ط. نهضة مصر.
(6) د. محسن عبد الحميد- المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري، ص 18، ط. كتاب
الأمة.
(7) محمد ناصر الدين الألباني- سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 599، ط. المكتب
الإسلامي.
(8) د. يوسف القرضاوي- من أجل صحوة راشدة، ص 27، ط. المكتب الإسلامي.
(9) ابن قيم الجوزية- الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية، ص 13، ط. دار الكتب
العلمية.
(01) عبد الرحمن الكواكبي- طبائع الاستبداد، ص 112.
(11) الكواكبي- مرجع سابق، ص 3.
ثالثاً- مفهوم الثقافة والمثقف:
في السطور التالية سنلقي الضوء على معنى الثقافة والمثقف، ومفهوم هذه الكلمات، وقد
باتت هذه الكلمات على الألسنة والأقلام، وهي من الكلمات الحديث، إذ لم يكن لها
مفهوم في تراثنا الأدبي.
جاء في تعريفها بأنها: (العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق بها)(1)، ونص
المعجم الوسيط على أنها محدثة.
وفي لسان العرب: (ثَقِف الشيء ثقْفاً وثِقافاً وثُقوفة: حذقة، ورجل ثَقْفٌ وثَقِفٌ
وثَقُفٌ: حاذقٌ فَهِمٌ)(2).
والثِقاف (بكسر الثاء): (ما يقوم به الشيء المعوج)(3).
قال شارح القاموس: ومن المجاز: التثقيف: التأديب والتهذيب، يقال لولا تثقفك،
وتثقيفك ما كنت شيئاً، وهل تهذبت وتثقفت إلا على يديك؟
ومن معنى التأديب والتهذيب، ومعنى الحذق والفهم أخذ المحدثون كلمة الثقافة وما
اشتق منها.
ومع شيوع الكلمة اختلف في المراد منها، فهناك من يقصرها على الجانب المعرفي في
الحياة، أي ما يتعلق بالعلم والفكر والأدب والفن، ولعله ما يفهم من تعريف المعجم
الوسيط الآنف الذكر.
وهناك من يراها أوسع من ذلك، إذ هي تشمل الجانب المادي والمعنوي معاً، والسؤال هل
الأكل يعتبر ثقافة؟(4)
والجواب إذا كان المقصود به المضغ والهضم، فليس من الثقافة في شيء، فهذا أمر يشترك
فيه الإنسان والحيوان، بل الحيوان متفوق فيه على الإنسان، فالحيوان أوسع بطناً،
وأكثر أكلاً من الإنسان.
ولكن إذا قيل للإنسان: سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك.. فهنا يصبح الأكل ثقافة
وليس مجرد عملية حيوانية.
وهكذا كل الأمور المادية إذا ارتبطت بقيم وأهداف نبيلة، ومعايير وآداب، إذ تنتقل
بذلك من المعنى الحيواني إلى الإنساني(5).
وإذا كانت الثقافة جانباً معرفياً فهي لا تقف عند حد المعرفة فحسب، بل هي تأثر
وتأثير، وبالتالي هي رسالة من أجل التغيير، والمثقف هو من يحمل هم التغيير\".
وقد تحدث ابن القيم في كتابه زاد المعاد عن أنواع الجهاد، وذكر عدة أنواع، ومنها
(جهاد النفس على تعلم العلم والعمل به والدعوة إليه، والصبر على المشاق التي تلحق
بالإنسان)(6).
إنه تبشير بمشروع ورأي وقضية، وهو ما أكد عليه الجابري (بل تحدد وضعه -أي المثقف-
بالدور الذي يقوم به في المجتمع كمشرع ومعترض وميسر لمشروع أو على الأقل كصاحب رأي
وقضية)(7).
أما هشام جعيط فيحصر كون (المثقف بالرجل الذي يبدع ويخلق ويلعب دوراً في الربط بين
الثقافة والواقع الفكري)(8).
أما عمارة فيذهب إلى أن (الإنسان الذي يعي ذاته وذات أمته من خلال القضايا الفكرية
والثقافية هو بالتأكيد ينطبق عليه تعريف المثقف.. إنه يحمل هموم أمته)(9).
والذي أخلص إليه مما تقدم هو أن المثقف من يحمل قدراً من الثقافة والمعرفة، ويسعى
للتغيير، بغضّ النظر عن موقعه، سواءٌ كان مدرسّاً في مدرسة أو جامعة، أو إماماً في
مسجد، أو كاتباً في صحيفة.
وهم التغيير لمن يحمله يقتضي متطلبات أهمها المبدئية، وأن لا يبيع نفسه بعرض من
الدنياً، طلباً للتكسب، فهو بذلك يأكل بقلمه، أو بلسانه، أو يفكر، وذلك عار عليه.
والثقافة حين لا تؤثر بصاحبها تكون عديمة الجدوى، هذا فضلاً عن التأثير بالآخرين.
وعلى أساس المبدئية نبتت نابتة العلم والثقافة في الأمة، ومضت سنة الأولين من
المسلمين في تعلم العلم، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على مشاقه، على الرغم من
الانتكاسة السياسية التي حلت بالأمة، وتمثلت في انفصال العلم عن الحكم، إلا أن
العلم ظل مستقلاً في مؤسساته التي كانت تتولى صرف المال لصالحه دون تدخل الحاكم
الذي استأثر بالحكم.
يقول الغزالي: (ومع فساد الحكم على هذا النحو فإن الإسلام بقي قوياً نامياً، وذلك
للأصالة الشائعة فيه، كالقصر المشيد إثر غارة بالقذائف والرجوم قد تطيح أبراجه،
وينكسر زجاجه، ولكنه مع كثرة غرفاته… يبقى صالحاً للسكن.. وقد وقف آلاف المحسنين
أموالاً طائلة، وريعها في وجوه الخير، واستقصوا آلام الناس ليمسحوها بما أفاء الله
عليهم من فضل الغنى، فماذا انتهى إليه أمر هذه الأوقاف؟؟
كان الأفراد الأبرار يرصدون الصدقات، فيجيء الحكام الظلمة ليغتصبوها ويضعوا أيديهم
عليها.. كما فعل محمد علي باشا وغيره من الحكام!! فانظر ما لقي الإسلام من حفاوة
الأفراد وغباوة الحكام!!)(10).
وعلى هذا النحو سنمضي في الحديث في الفصل الثاني، وبالتجديد عن دور بعض مؤسسات
المجتمع المدني في صناعة الثقافة والمثقف والتي كانت بعيدة عن يد الحاكم المستبد،
والتي مثلت ردعاً للمثقفين وخاصة العلماء، جعلتهم بعيدين عن ابتزاز الحاكم المستبد
لهم، وذلك إلى حين من الدهر، عندما تنبه الحاكم المستبد للأمر فعالجه بصورة تسحب
البساط من تحت أرجل العلماء، وتجعلهم في حاجة الحاكم دوماً.
(1) المعجم الوسيط، ص 118.
(2) ابن منظور- لسان العرب، ص 111، ج2، ط. مؤسسة التاريخ العربي.
(3) ابن منظور- مرجع سابق، ص 111.
(4) د. يوسف القرضاوي- ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق، ص 14، ط. دار الشروق.
(5) القرضاوي- مرجع سابق، ص 15.
(6) ابن قيم الجوزية- زاد المعاد في هدي خير العباد، ص 92، المختصر لابن عبد
الوهاب، ط. دار العلم.
(7) محمد عابد الجابري- محنة ابن حنبل، ص 22، ط1.
(8) هشام جعبط- المستقبل العربي، ع 28، س 1981، ص 122.
(9) محمد عمارة- المستقبل العربي، ع 28، س 1981، ص 122.
(01) محمد الغزالي- كيف نفهم الإسلام، ص 82-94، ط. دار الدعوة.
الفصل الثاني
المثقـف موظفـاً؟
وهذا يعني أن هناك مرحلتين تاريخيتين متغايرتين، في الأولى كان المثقف لا ينتظر
المعاش من الوالي أو الحاكم المستبد، وفي الثانية أصبح المثقف فيها موظفاً، يدور في
فَلَكِ سياسة رسمية، جعلته موظفاً من موظفي الحكومة، ولو بحثنا في سر ذلك لوجدنا أن
هناك سببين(1):
السبب الأول: نطاق الدولة وآفاق تأثيرها قديماً لم يكن على النحو القائم اليوم.
السبب الثاني: أن الأمة هي التي كانت تنشر العلم والثقافة في البلاد المفتوحة
وغيرها من خلال مؤسسات المجتمع المدني كالوقف.
وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن الوقف وأهميته في صناعة الثقافة. فما هو الوقف؟ وما
هو دوره؟
الوقف لغة في لسان العرب \"وقفت الأرض وقفاً: حبساً\"(2)، أما في أصل وضعه الشرعي
فهو: صدقة جارية\"(3) –مستمرة- المراد منها استدامة الثواب والقرب من الله عن طريق
الإنفاق في وجوه الخير والبر على اختلاف أنواعها وتعدد مجالاتها)(4).
ولعل أجمع تعريف للوقف هو ما اختاره محمد أبو زهرة ويرجع إلى ابن حجر العسقلاني
وهو: (قطع التصرف في رقبة العين التي يدوم الانتفاع بها، وصرف المنفعة لجهة من جهات
الخير ابتداءً وانتهاءً)(5).
وما من شك في أن الوقف ترجمة لجانب مهم من مفهوم السياسة التي تعني من منظور
إسلامي: (ما يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد)(6).
والوقف له دور مهم في عملية الإصلاح والنهضة ونشر الفكرة لما يتمتع به من
استقلالية تمكن من القيام بالدور المطلوب بعيداً عن تدخل السياسات الأحادية النظرة
والممارسة على وجه الخصوص.
وقد وقف علماؤنا على أدلة الوقف في الكتاب والسنة، فمن القرآن الكريم قوله تعالى:
\"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون\"(7)، فهذه الآية تشمل الوقف لأنه صدقة
كسائر الصدقات التي يتقرب العبد بها إلى الله، والدليل على ذلك أنه لما نزلت هذه
الآية وسمعها أبو طلحة أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله
إن أحب أموالي إلى بيرحاء، وإنها صدقة، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك
الله، فقال النبي: بخ بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، وإني أرى أن تجعلها في
الأقربين، فقال أبو طلحة: افعل يا رسول الله، فقسمها في أقاربه وبني عمه)(8).
أما السنة فحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم
ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)(9)، والوقف يندرج في إطار الصدقة الجارية، بل هو ما
يمكن أن نفسر به الصدقة الجارية، لأن غيره من الصدقات لا يكون جارياً.
ومن حديث النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، عن المال الذي أصابه في خيبر:
(إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، غير أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب ولا يورث)(10).
وليس ثمة داع للاستطراد في الأدلة فما ذكرناه كافٍ للتدليل على أصل هذه المسألة في
الإسلام ومشروعيتها.
وفي ضوء ما تقدم من أدلة، وباطراد ممارسته في الواقع الاجتماعي نما نظام الوقف
وزادت أصوله الاقتصادية، وكثرت مؤسساته الخيرية على اختلاف أنواعها، وأصبح له دور
بارز في توفير الكثير من الخدمات بطريقة تتسم بالتلقائية واللامركزية والاستقلالية.
وصار يمثل -باختصار- قوة اقتصادية (مادية) إلى جانب قوته الرمزية (المعنوية) التي
يمكن أن تغري أي سلطة بالاستيلاء عليها وتوظيفها لخدمة أغراضها، ودعم مركزها،
وبخاصة في الفترات التي يضطرب فيها الاستقرار السياسي، لذا بذل الفقهاء جهوداً
مضنية لتحصين نظام الوقف من جور السلطات الحاكمة بخاصة، وقد انبنى فقه الأوقاف على
ثلاث أسس كبرى، وهذه الأسس الثلاث وفرت نوعاً من الحماية الشرعية لنظام الوقف
ومؤسساته، إذ لم يكن هناك ما يمنع سلطات الجور من ارتكابه في الواقع العملي.
وهذه الأسس الثلاث هي:
1- احترام إرادة الوقف.
2- اختصاص القضاء وحده بسلطة الإشراف العام على الأوقاف.
3- الاعتراف للوقف بالشخصية المعنوية أو الاعتبارية وبيان ذلك:
أولاً: احترام إرادة الواقف (شرط الواقف كنص الشارع)(11).
وهذه قاعدة فقهية منصوص عليها في كتب الفقه، وهي يعبر عنها في وثيقة وقفة
والمعروفة (بالحُجة) وحينما تقول القاعدة الفقهية بأن شرط الواقف النص فذلك يعني
إضفاء طابع القداسة على (الحُجة) التي هي الدستور الذي يرجع إليه في كل صغيرة
وكبيرة.
ولا أحد بعد ذلك يجرؤ على التدخل في إرادة الناس وممارستهم، ولا يخفى عليك بهذا
الشرط من تحرير إرادة الناس من أي سيطرة أخرى تحاول تقييده سواء ما قلناه ابتداءً
من الإنسان عبد له وحده وسيد لكل شيء بعده.
ثانياً: اختصاص القضاء بالولاية العامة على الأوقاف(12).
هذا إذا علمنا أن سلطة القضاء في الإسلام سلطة مستقلة عن السلطة التنفيذية، والوقف
منوط بالقضاء وحده دون غيره من سلطات الدولة، هذا فضلاً عن أن بعض الفقهاء نصوا
صراحة على منع السلطان وممثليه من رجال الحكم والإدارة من التدخل في شؤون الوقف أو
الاعتراض على التصرفات الإدارية للقاضي.
كذلك لا يخفى على الدارس لهذه النقطة ما فيها من تحرير للوقف من سلطة الحكم
السياسية لصالح سلطة مستقلة مطلوب منها العدل والنزاهة.
ثالثاً: معاملة الوقف على أنه شخص اعتباري(13).
صحيح أن الفقهاء لم يذكروا كلمة اعتباري أو الشخصية المعنوية ولكن حديثهم عن الوقف
وأن يقضى له وعليه، يعني بالضرورة هذا المصطلح الجديد، الذي يعني حماية الوقف من أي
اعتداء كما لا يحق للوقف الاعتداء على الآخرين وبالتالي يصار بالأمر إلى القضاء
فيقضي له القاضي أو عليه.
وقد مضت سيرة الوقف على النحو الذي ذكرناه آنفاً حيناً من الدهر، ونمت مؤسساته
وكان لها الدور البارز في صناعة الثقافة والمثقف بعيداً عن سيطرة الحاكم المستبد،
إلى أن جاء محمد علي باشا (1184-1265هـ) بالدولة الحديثة التي أقامها في ظل نظام
استبدادي (مستأثر بالسلطة)، وسيطر على الوقف وضرب المثقف من خلال ضرب مؤسسة الأزهر
التي كان لها دور كبير في تحريك الناس في مواجهة الغزاة.
ولعل كثيرين يستغربون، ويتساءلون كيف نمت الثقافة في ظل الأنظمة الاستبدادية قبل
محمد علي باشا؟
والجواب على ذلك في نقطتين سبق ذكرهما(14):
أولاهما: أن نطاق الدولة وآفاق تأثيرها قديماً لم يكن على النحو القائم في الدولة
الحديثة التي نعيش في كنفها اليوم، والتي أصبح نطاق تأثيرها اليوم شاملاً، الأمر
الذي يجعل من انحرافها طامة كبرى، بخلاف ما كان في الماضي حين قال معاوية: \"لن
نمنع الناس ألسنتهم ما خلوا بيننا وبين أمرنا\"(15). فقد كانت الأمة ومؤسساتها
الأهلية، وجهودها الطوعية وأعمالها الخيرية وعلماؤها، ومجاهدوها ومذاهبها خارج نطاق
هيمنة الدولة.
ثانيهما: أن الأمة هي التي كانت تنشر العلم والثقافة في ديار الإسلام وغيرها من
خلال مؤسسات المجتمع المدني كالوقف الذي تحدثنا عنه سابقاً، ولقد أعان الإسلام وكما
ذكرنا على ترجيح كفة الأمة على الدولة وأسهمت في ذلك كثير من مبادئه السياسية
وقواعده الفكرية.
ففي زمن الأمويين والعباسيين كان الوقف (تابعاً للقاضي)(16)، وكان مستقلاً عن
الدواوين السلطانية، وكان العلماء هم الحراس على قيام هذه المؤسسة بدورها في تمويل
إقامة الدين وصناعة الحضارة وتنمية الثقافة.
ولقد فكر الظاهر بيبرس في إنهاء الوقف (فتصدى له الإمام النووي ومازال النووي في
اعتراضه حتى عدّل الظاهر بيبرس عن ذلك المسلك وترك هذا)(17)، إلا أن الخطير في
الأمر هو مشروع محمد علي باشا [1184-1265هـ/ 1770-1846م] في مصر، الذي كان تحديداً
لشباب الدولة العثمانية كي لا تسقط في شراك الاحتواء الغربي، وسلك في سبيل ذلك
الاعتماد على الدولة بدل الأمة، ونحن لا نريد أن نتوسع في ذلك، ولكننا نقتصر على
جانب مهم في تجربة محمد علي، والمتمثل في إخضاع أهم مؤسسة من مؤسسات المجتمع وهي
مؤسسة الوقف، وقال: (أنا أعمر المساجد المتخربة، وأرتب لها ما يكفيها)(18). وانفتح
منذ ذلك التاريخ باب السيطرة من قبل الدولة على الفكر الديني وبدا الفقيه –مثقف ذلك
العصر- يفقد الاستقلال الذي ضمنته له الأمة، والذي مولته مؤسسة الأوقاف عبر التاريخ
الإسلامي.
وبدلاً من نموذج المثقف: السيد عمر مكرم [1168-1227هـ/ 1755-1822م] الذي قاد
الجماهير لتنصيب محمد علي، والذي أدرك محمد علي سر قوته وهي استقلالية مؤسسة الوقف
التي ينتمي إليها، فاستخلص من ذلك درساً مهماً وهو أن هذا الذي قاد الجماهير
لتنصيبه، يمكن أن يقودها لعزله، ولذا لابد من سحب البساط من تحت رجله بجعله تابعاً
للدولة يقتات من معاشها، وبذا خرج لنا نموذج آخر وهو نموذج المثقف الموظف المرتبط
بالدولة ارتباطاً وثيقاً كارتباط الجندي بقيادة الجيش.. بل والذي يترقى في الرتب
العسكرية.
ولقد كان رفاعة الطهطاوي [1216-1290هـ/ 1801-1873] على عظمته، النموذج لهذا المثقف
الجديد، مثقف الدولة الذي حبسه الوالي في القلعة ليترجم فإذا أنجز العمل الفكري
أعطاه الوالي نيشاناً عسكرياً ومنحه إقطاعاً؟!
ولقد وصف محمد عبده، محمد علي باشا بقوله: (إنه كان تاجراً زارعاً، وجندياً
باسلاً، ومستبداً ماهرا، ولكنه كان لمصر قاهراً ولحياتها الحقيقية معدماً)(19).
وامتد هذا الخلل الخطير إلى زماننا، وهو ما نراه اليوم مجسداً في الأزهر أعرق
جامعة إسلامية خرّجت العلماء والأبطال الأفذاذ على مدار ألف عامً.
فقد أصبحت مشيخة الأزهر حالاً وظيفية مرتبطة بالدولة وأجهزتها الأمنية (فشيخ
الأزهر يرى المشيخة وظيفة من وظائف الحكومة.. ويرى أن عليه -بهذا الاعتبار- أن
يتحرك في حدود ما تسمح به الجهات الحكومية \"السياسية والأمنية\" ويقرر صراحة أنه
يقول لهذه الجهات: سمعاً وطاعة، بشأن ما يوجه إليه من دعوات رسمية وخارجية.. فإذا
أعطي الضوء الأخضر من تلك الجهات سارع بتلبية الدعوة.. وإنه لا يلبي الدعوات
الخارجية إلا عندما تأذن له الدولة بذلك)(20).
فالمثقف إذن حينما يكون رسمياً، يكون قاصراً مهما كان مخلصاً وذلك لأسباب عدة
هي(21):
أولاً: هو يدور في فلك السياسة المحلية للدولة التي تنشئه، وتنفق عليه، فهو يتحرك
أو يتوقف، ويتكلم أو يصمت، ويشرق أو يغرب، تبعاً لهذه السياسة وبهذا لا يعبر بشكل
خالص عن الثقافة بقدر ما يعبر عن الدولة.
ثانياً: لا يكون أصيلاً، فهو لم يفرزه العمل الثقافي، بل هو معين من قبل الدولة
ولذا لا تسعه مخالفتها.
ثالثاً: قد تنقصه النية الخالصة.
رابعاً: هو متهم من قبل الجماهير وهؤلاء هم: (علماء السلطة، وعلماء الشرطة).
إن تعاظم دور الدولة في مواجهة دور الأمة، ومؤسسات المجتمع المدني، ووصول تأثيرها
إلى مختلف جوانب الحياة حتى يصبح المثقف موظفاً عندها يؤدي إلى تشوه الثقافة،
وانهدام البناء على ساكنيه، وذلك لأن الدولة عندئذ سوف (تناصر التفكير المنحرف،
وتحاول فرضه على الناس، وتحاول إشاعة الخوف في أوساط العلماء المخلصين، وتطاردهم،
وتترك المجال للأميين والجهلة والسطحيين يتصدون للتثقيف)(22)، وسوف تغدق عليهم
الأموال في وقت هي أحوج ما تكون إلى الإبداع والبناء الصحيح.
(1) د. محمد عمارة- هل الإسلام هو الحل لماذا وكيف؟ ص 111، ط. مركز المرشد.
(2) ابن منظور- لسان العرب، مرجع سابق، ص374، ج 15.
(3) إبراهيم البيومي غانم- المستقبل العربي، ع 235، ص 98-1998، مركز دراسات الوحدة
العربية.
(4) إبراهيم البيومي غانم- مرجع سابق، ص 98.
(5) محمد أبو زهرة- محاضرات في الوقف، ص 44، ط. دار الفكر العربي.
(6) ابن قيم الجوزية- مصدر سابق، ص 13.
(7) سورة آل عمران الآية 92.
(8) أحمد عبد الرحمن البنا- الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل
الشيباني، ج15، ص 177-179، ط. مكتبة النهضة المصرية.
(9) ابن قدامة المقدسي- المغني، ج 8، ص 184-185، ط.
(01) محيي الدين النووي- صحيح مسلم بشرح النووي، ج10، ص 85، ط. المطبعة المصرية.
(11) محمد أمين بن عمر بن عابدين- الحاشية، ج3، ص 361، ط. دار إحياء التراث العربي-
بيروت.
(21) محمد أبو زهرة- مرجع سابق، ص 355.
(31) إبراهيم البيومي غانم، مرجع سابق، ص 105.
(41) د. محمد عمارة- مرجع سابق، ص 111.
(51) د. محمد عمارة- مرجع سابق، ص 111.
(61) محمد أبو زهرة- مرجع سابق، ص 355.
(71) محمد أبو زهرة- مرجع سابق، ص 20.
(81) د. محمد عمارة، مرجع سابق، ص 124.
(91) محمد عبده- الأعمال الكاملة، ج1، ص 858، دراسة وتحقيق د. محمد عمارة، ط. دار
الشروق 93.
(02) د. محمد سليم العوا- أزمة المؤسسة الدينية، ص 13، ط. دار الشروق 1998.
(12) د. يوسف القرضاوي- الإخوان المسلمون، ص 32، ط. مكتبة وهبة، 1999.
(22) د. حسن علي خاطر- المجتمع العربي المعاصر، ص131، ط. دار الشروق 2001.
خاتمــة..
يتلخص البحث في النقاط التالية:
أولاً: مهما قيل في تعريف الحرية، إلا أنها في المحصلة النهائية نسبية ومقيدة وفي
الإسلام هناك قيدان للحرية:
1- داخلي ينبع من النفس.
2- خارجي وهو القانون المتبع.
وهي في الإسلام فردية وجماعية، ومرتبطة بالمسؤولية، والإسلام في النهاية انتصر
للحرية في كل الميادين.
ثانياً: لا يتناقض الإبداع مع الإسلام، لأن الإبداع لن يكون في زيادة أو نقصان شيء
من أصول الدين الثانية والتي لا تتعارض مع الإتيان بما هو جديد، ويخدم الإنسان
والحياة والرفاه، في إطار ثوابت الإسلام.
ثالثاً: المثقف هو من يحمل همّ التغيير، هو من يحمل هماً عاماً، ولا يحمل هماً
خاصاً يسعى من خلاله لتحقيق مكاسب ذاتية، فإنه عندئذٍ يكون عبداً للدرهم والدينار،
والشهوة والمصلحة.
رابعاً: لقد رعت مؤسسة الوقف، كمؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني العلم والعلماء،
والثقافة والمثقفين بعيداً عن سيطرة الدولة المستبدة حيناً من الدهر، وكان ذلك أحد
أهم أسباب بناء الحضارة العربية الإسلامية، تلك الحضارة التي شارك في صناعتها
الإنسان من كل جنس ولون وكان ذلك مصدر قوة تقف وراء الثقافة والعلم، فاستغنى
العلماء بما عندهم عما عند الحكام، إلى أن جاء من أدرك سر قوة العلماء، فسعى لسحب
البساط من تحت أرجلهم، ونجح في ذلك بجعلهم موظفين يفكرون ويسبحون بحمد الحاكم وكفى.
لذا فإن ذهاب عنصر الخوف على الرزق والنفس معاً كفيلان بجعل الإنسان حراً يفكر
ويبدع ويبني، وذلك هو البناء الإنسان في إطار الحرية.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
- كتب السنة.
1- كنز العمال، ط. مؤسسة الرسالة.
2- الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، ط. مكتبة النهضة
المصرية.
3- صحيح مسلم بشرح النووي، ط. الطبعة المصرية.
4- سلسلة الأحاديث الصحيحة.
- كتب التفسير.
1- تفسير النسفي، ط. دار الكتاب العربي، بيروت- لبنان.
- كتب الفقه.
1- حاشية ابن عابدين، ط. دار إحياء التراث العربي.
2- المغني لابن قدامة المقدسي، ط.
- كتب اللغة.
1- المعجم الوسيط.
2- لسان العرب، لابن منظور، ط. مؤسسة التاريخ العربي.
- المراجع الأخرى.
1- ابن قيم الجوزية- زاد المعاد في هدى خير العباد، ط. مؤسسة الرسالة، تحقيق شعيب
الأرناؤوط.
2- ابن قيم الجوزية- الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، ط. دار الكتب العلمية.
3- د. حسن علي خاطر- المجتمع العربي المعاصر، ط. دار الشروق 2001.
4- د. سيد محمد الساداتي- الإمام السخاوي، وهبة الزهيلي- حق الحرية في العالم، ط.
دار الفكر.
5- عبد الرحمن الكواكبي- طبائع الاستبداد.
6- علي الطنطاوي- أخبار عمر، ط. المكتب الإسلامي.
7- فهمي هويدي- القرآن والسلطان، ط. دار الشروق.
8- د. محسن عبد الحميد- المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري، ط. كتاب الأمة.
9- محمد أبو زهرة- محاضرات في الوقف، ط. دار الفكر العربي.
01- د. محمد سليم العوا- أزمة المؤسسة الدينية، ط. دار الشروق 1998.
11- محمد عابد الجابري- محنة ابن حنبل.
21- محمد عبده- الأعمال الكاملة، دراسة وتحقيق د. محمد عمارة، ط. دار الشروق 1993.
31- د. محمد عمارة- معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، ط. نهضة مصر.
41- د. محمد عمارة- هل الإسلام هو الحل لماذا وكيف؟ ط. مركز المرشد- جنين.
51- محمد الغزالي- كيف نفهم الإسلام، ط. دار الدعوة.
61- محمود شلتوت- الإسلام عقيدة وشريعة، ط. دار الشروق.
71- د. يوسف القرضاوي- ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق، ط. مكتبة وهبة 1999.
- الدوريات.
1- المستقبل العربي- مركز دراسات الوحدة العربية.
الفهـرس
الموضوع الصفحة
مقدمة
الفصل الأول: مفاهيم (الحرية، الإبداع، المثقف)
أولا: مفهوم الحرية
ثانياً: مفهوم الإبداع
ثالثا: مفهوم المثقف
الفصل الثاني: المثقف موظفاً
خاتمـة
المصادر والمراجع 1
3
3
9
12
16
23
24