"1"
استمرّت لعبة المساومة بيني وبينه بعض الوقت حتى توصّلنا أخيراً لمبلغ يرضي الطرفين.
كنت أراوغه بحسن نيّة أنّي أقدّم له المجد على طبق بجعله بطلاً لروايتي وأنّي أنقله من حاويات الإهمال إلى سدّة الشهرة، بينما كان هو يفكر من أين يقترض ثمن شهرته ليدفع لي.
وحين أبديت له قبولي بتقسيط المبلغ وأن تكون آخر دفعة بعد طباعة الرواية، ابتهجت أساريره وانفردت تجعّدات جبينه، وظلّ يكرّر شكره بطريقة كسرت قلبي حتى لحظة مغادرتنا طاولة الاتفاق.
لم يكن "سعيد" سعيداً يوماً، إلا إذا اعتبرنا أن خطّة حياته التي رسمتها له في الرواية هي الحقيقة وأن واقعه البائس مجرد خيال.
فقد ولد يتيماً لأبٍ توفي قبل ولادته بساعات عن طريق خطأ طبّي في مشفى حكوميّ، حين أعطي دماً مخالفاً لزمرته بعد أن سال دمه على إسفلت مدينة سياراتها كأقدار أفرادها رصاصات طائشة.
ولعلّ الخبر المباغت الذي صعق أمّه قد عجّل بولادتها فكان أقوى من أيّ محرّض تحتاجه لدفع المولود نحو عالمه المجهول.
فقد وجدت المسكينة نفسها في زوبعة تعصف بها، فلا تدري أتحزن على زوجها أم على مصيرها الغائم من غير عائل.
ولأنّ زوجها كان اسمه سعيد كاسم جدّه، فقد تحتّم أن تسمّي وليدها بنفس الاسم، تتنازعها آلام أشد من آلام الولادة بكثير، وصلاة انكسار تتلوها بدموعها التي لم تنشف بعدها أبداً، أن يهبها الله القوّة والحظّ ليكونَ اسماً على مسمّى.
"2"
الجرعة الأولى من إكسير السعادة ارتشفها على مهله حين رحت أقرأ عليه الفصل الأول من الرواية على مقعد في الحديقة كمتسكّعَين، روائيّ مغمور يكتب أولى رواياته وأجير يعيش يومياته يوماً بيوم بما يجمع من أشياء بلاستيكية من حاويات القمامة، لتنتهي بمصنع يعيد تدويرها وتوزيعها بحلّة جديدة وألوان تطغى على البلاستيك المكرّر ورائحة النفايات.
لم أبدأ بقراءة فصلي إلا بعد أن دفع لي المبلغ المتّفق عليه الذي جمعه خلال فترة غيابي عنه للكتابة.. هذا المبلغ الذي سيكفيني لسدّ رمقي بوجبة شعبية من الفول السوداني أو الفلافل لأيام.
وكنت أتعمّد النظر لعينيه من حين لآخر لأرى تأثير الإكسير فيه فأبتهج وأنا أراهما تشّعان بالسحر الذي يحدثه المال في كيان مُعدم، ويحدثه الخيال عند روائي مغمور.
"بدأ سعيد جولته الصباحية المعتادة انطلاقاً من حيّه الشعبيّ الذي بقي على حاله منذ فتح عينيه على هذه الدنيا كأن تميمة تحفظه وسكّانه البسطاء الفقراء، من الإصلاح والتطوير.
سمّى باسم الله واستهلّ صباحه المبكّر جداً بـ "يا فتّاح يا عليم.. يا رزّاق يا كريم ".
كلمات ظل يرددها سنين طويلة، ولم يخطر بباله أن اليوم بالذات تصل للسماء ويفتح الله الباب لعبده المسكين قائلاً له: قد أجيب سؤالك واليوم يوم ستظلّ ذكراه خالدة فيك لأنه سيغير مصيرك ".
تسارعت دقّات قلب سعيد واتّسعت عيناه لدرجة أنه لم يطق صبراً فسألني: ماذا حدث وكيف الفتّاح العليم الرزّاق الكريم فرّجها علي، أقصد على بطل روايتك المُعتّر؟!
"ترحّم سعيد على أبيه الشهيد النازف على إسفلت المدينة الذي دهسه الطيش وأجهز عليه في المشفى الإهمال، ولم يعاتبه لأنه ورّطه بدنيا اختبر قبله أنها ليست للفقير، ثمّ ترّحم على أمّه التي ربّته بدموع عينيها ولم تترك صنعة إلا جرّبتها لتعيل طفلها وتوصله لسنّ تدفع به للحياة بعد عدة سنوات قضاها في المدرسة كانت كافية ليقرأ ويكتب.
ثم ابتدأ جولته المعتادة مع عربته الصغيرة لحاويات المدينة ابتداء من حيّه وصولاً للأحياء ما تحت عتبة الفقر.. الفقيرة.. الغنية.. ما فوق الغنية.. كأن الغنى في تدرّجاته أشعة شمس، ولو كانت الحاويات خبرة لقلنا أنه اختبر فلسفة القمامة وتندّر مع أصحابه بقصصها الغريبة ".
شوقتني لأعرف مصيري.. يقاطعني سعيد، ثم يستدرك: أقصد مصير البطل
فأقول بحزم مصطنع: في مجلس الأدباء تعلّم الصمت.. وحين تكون أنت بطله، اكتفِ بنشوة أنهم خلّدوك.
"3"
تقلّبت في فراشي طويلاً ليلة أمسٍ وأنا أفكّر بسعيد، بقصّة حياته البائسة، بفرحه حين عرضت عليه أن أجعله مهمّاً ولو على الورق.
فكّرت كيف أنه أشرف منّي، لأنه يدفع لي من قوت يومه ثمن حلم.. مجرد حلم، في أن يصبح مشهوراً، بينما أنا أبيعه الكذب كي لا أموت من الجوع.
استعدت حديثه الجادّ عن "مقامات النفايات".. وكنت قد أنهيت للتوّ الفصل الأخير من كتاب "مقامات العشق"
قال لي بعين الخبير :
"الزبالة أنواع، ولتعرف مصدرها تأمّلها قليلاً، ومع الوقت لن تحتاج حتى للتأمل، وستفرزها فوراً وتحزر سلفاً أن فرصة فوزك بشيء مهمّ من هذا الكيس أو ذاك.
الأحياء الفقيرة لا تغري بالعمل، ولن تظفر منها حتى بعلبة بلاستيك لأنهم سيعاودون استخدامها لأغراض أخرى، أو يرمونها في السقيفة في اضطراد تراكم لأجل غير مسمّى .
نفايات الفقراء في أكياس صغيرة جلبوا بها صباحاً الخضراوات وغير مربوطة غالباً فتعبث بها القطط الشاردة دون جدوى، فهم يستفيدون حتى من العظام إذا صادف ودخل بيتهم اللحم.
في أحياء الفقراء تتخمّر الروائح وتنتشر الأوبئة لعدم وجود الحاويات، ولو حدث ووجدت لوجدتها صباحاً مقلوبة أو مسروقة.
حاويات الفقر كأعمار أهله لزوم مالا يلزم.
ثم تتدرّج المقامات بين المتوسط والشاهق..
وصولاً لأهل العزّ الذين يضعون قمامتهم بأكياس سوداء كبيرة مربوطة، إلا إذا كان العزّ قد هبط عليهم من غامض علمه ولم يفلح بتعليمهم آداب السلوك.
إن كنت جائعاً فاحتمال كبير أن تجد ما يسدّ رمقك دون أن تزعج القطط السمينة البليدة التي نادراً ما تراها.
و لأزيدك علماً أقول.. يتنافس الزبّالون على دورهم بحيّ غنيّ، ومثلي يجد دوماً حصّة ترضيه من البلاستيك وأحياناً أشياء أخرى يرميها الترف دون حتى التفكير بأنها تشكّل قيمة لكلب جائع مثلي"
تقلّبت طويلاً وأنا أفكر ببطلي.. بالحياة.. بما ورّطت نفسي فيه وما يمكن أن تحدثه نفخة الحلم بسعيد، أتراها تحييه أم تقضي عليه ؟!
وطلع الصباح وفضحت الشمس بؤس حالي، في غرفة صغيرة وأثاث قديم، وأوراق تلحّ عليّ لإكمال ما بدأت.
"4"
نشأت وسعيد في عشوائيات المدينة، وكان بيننا وحدة حال من حيث تدنّي مستوى المعيشة بفارق أنه نشأ يتيم الأب وكنت يتيم الأم بكنف زوجة أب لا تكفّ عن التذمّر والشكوى من طباع أبي السيئة والفقر وتربية أولاد ليسوا من رحمها. ولأني صغير أخوتي فقد كنت متعلّقاً بها، أشفق عليها وأضمها فتهدأ وتستكين وتوشوشني بأني سندها لكبرتها.
أما سعيد فقد بقي معي بنفس الصفّ خلال المرحلة الابتدائية، قبل أن يبتلعه طين الحاجة ويطفئ شغفه للعلم وطفولة عينيه.
ولا زلت أذكر كيف كان يصغي مذهولاً لمواضيع التعبير التي أبرع بكتابتها ويبتسم في سعادة لتشجيع معلّمي لي وكأنه هو من كتب.
ثم تابعت تعليمي رغم ضيق ذات اليد، بينما راح سعيد يسعى في مناكبها ليريح والدته من عبء تعليمه ومن آلة الخياطة التي استهلكت نظرها وأعصابها.
وكان كلّما التقينا يرجوني أن أقرأ عليه ما فاته متابعته من مواضيعي، وكثيراً ما كنّا نجلس سرّاً في علّية بيتنا أو على سطح بيتهم لنقرأ ألغاز "المغامرون الخمسة"، أو مجلات للأطفال كنت أشتريها من مصروفي وأخفيها خوفاً من توبيخ أبي الذي كان غالباً ماله مبرّر مقنع .
كبرنا معاً وبقيت علاقتنا غريبة لا سمة تصفها وكأنها وشائج لا مرئية نسجتها الكلمة، الكلمة وحدها تقدّس سرّها.
"5"
لو فكّرت بالعواقب قليلاً ما كنت تركت البيت إثر نوبة غضب والدي وهياجه لأنه ضبطني متلبّساً أقرأ كتاباً إباحياً كما وصفه، كحال كلّ أقراني في مرحلة المراهقة أو البلوغ.
أردت أن أقول له أني لم أخطئ ولو أردت الخطأ لمارسته في الزوايا المعتمة وبأرخص ثمن، لكنه راح ينهال عليّ ضرباً وشتماً بينما تتضرع إليه خالتي أن يتركني، فكان يلبسها كلّ أسباب فسادي و انحرافي.
وهكذا فتحت الباب و صفعته ورائي بعنفوان المراهق و حلفت ألا أعود أبداً بينما صوته يزمجر برأسي: " دعيه يذهب.. لا مكان في بيتي لقلّة الأدب والشذوذ".
تسكّعت في شوارع المدينة طويلاً وحين حلّ الليل عرفت أني ورّطت نفسي بانفعالي بما ليس وقته، فقد كنت بأمسّ الحاجة للمال، وكنت من العقل حقّاً بحيث فكّرت أني لا أريد أن تبلعني المدينة كما بلعت سعيد.
سعيد الذي نمت عنده تلك الليلة وكان من اللطف بحيث لم يسألني كلمة واحدة حول ما جرى، وقضينا الليل نقرأ كلّ في مجلة، كنت أهبها له من حين لآخر. حتى غلبنا النعاس ونمنا كلّ على أريكة أكل الزمان عليها وشرب.
وحين أطلّ الصباح فتح الباب بلطفه المعتاد وخرج وعربته تاركاً إياي يراودني كابوس العودة للبيت الذي لا مفرّ منه.
وكلّي ثقة أن عيني أبي لم تعرفا طعم النوم ليلتها ينهشه ندم لن يدوم طويلاً.
"6"
أحضر سعيد فطائر من الجبن والزعتر ومازحني قائلاً: ليس لهذه علاقة بالمبلغ المتّفق عليه بعد إنهاء كلّ فصل من الرواية.
ثم مضى وعاد بكأسين من الشاي من بائع جوّال قريب، وجلسنا كعادتنا على مقعدنا الأثير في حديقة نعرفها وتنكرنا، فلسنا سوى تافهين على هامش الحياة تضحكهما نكتة ويبكيهما موقف، ولا يشكّلان فارقاً مع أحد إن حضرا أو غابا، اللهم إذا ما استثنينا العين التي يراني بها سعيد عظيماً والقلب الذي أراه به ككائن مظلوم لا يملك إلا رضاه وحلماً بات يراوده بعدالة السماء.
سألته أين وصلنا المرّة الماضية، فضحك وأجاب أنت لم تقرأ بعد عليّ إلا الوعد الذي جعلني من لحظتها متفائلاً كأني أنتظر حدثاً جللاً يقلب حياتي.
"مشى سعيد تسبقه عربته، يدندن لحناً مألوفاً على صرير عجلات عربته التي يدفعها خفيفة في الذهاب وتكون أثقل في الإياب لو حالفه الحظّ.
تنقّل بين حاويات الأكابر ينقّب عن رزقه من البلاستيكيات، وفي ذهنه أن يقتني عربة أكبر تتسع لما تجود به الحاويات من كراسٍ أو طاولات مكسورة.
وفيما هو منهمك في عمله بينما أعين الخلق لم تزل غارقة في عسل النوم والمدينة يلفّها الهدوء، رأى لفافة بيضاء كأنها الثلج تعلو الحاوية، فاعتراه زلزال من أخمص قدميه حتى شعر رأسه، ثم تناولها بأيد مرتجفة وهو يبسمل ويحوقل، وعبثاً حاول أن يمنع دموعه من الانهمار، ثم انهار على الرصيف ويديه تحضن اللفافة في ذهول كبير"
"7"
تسألني خالتي من حين لآخر، ما الذي غيّر والدي تجاهي، وهل يعقل أن نومي خارج البيت لليلة واحدة جعله يخشى أن يفقدني.
فأرفع كتفي وأقلب شفتي أن الله أعلم بينما أحدّث نفسي:
الجهل يا خالتي نعمة.. فلن يسرّك أبداً أن تعرفي أن هذا الفحل عليك وعلينا له عين فارغة ونفس دنيئة.. وخلف طاولة الدكّان، له يد تتحرّش بأجساد غضّة تناديه يا جدّي، تأتي لتبتاع حلوى أو ما تحتاجه أمهاتهن من لوازم البيت.
لن يسرّك أن أخبرك أنني منذ رأيته والطفلة مذعورة لا تدري ما تعنيه حركات هذا العجوز تهرول خارجة.. انقلب كيانه وتمنّى الأرض أن تنشقّ وتبلعه، ومن يومها وهو يتمنى ألا يجمعه وإياي مجلس واحد، يتجاهل أي تصرف يبدر مني، ويترك لي مصروفي مع خالتي، بينما يصلني منه شعور بالنفور إن لم نقل الكراهية.
سرّك يا أبي لن أبوح به يوماً.. إلا للورق.
"8"
كنا لم نزل واقفين عند قبرها بعد أن غادر المشيّعون تباعاً، حين نظر إلي مكسور الخاطر والروح وقال والدموع تغلبه:
"هل كنت تقصد باللفافة البيضاء كفن أمّي؟!
وأيّ وعد هذا.. أن أعود للبيت فأجدها ترقد رقادها الأبديّ ومسحة الطيبة لم تزل ترخي سدولها على وجهها الأجمل؟!
إن كانت البطولة قاسية القلب هكذا فتبّاً لها ولك".
ثمّ مرّغ وجهه في تربتها وناجاها طويلاً كطفل وجد نفسه وحيداً في غابة من الذئاب.
والحقيقة أنني رغم تعاليّ المبطّن والغرور الذي يسم المتعلّم قبالة الجاهل، بحيث لم أنادِه مرّة بصديقي واكتفيت باسمه المجرّد من أيّ صفة.. كأنني وهذه الدنيا الدنيئة متفقان على تعريته .
أقول رغم ذلك، وجدتني أضمّه وأبكي بحرقة فراق أمي وأمه معاً، واكتشفت فجأة أني أحبّه أكثر مما أحبّ نفسي وأن اتفاقنا باطل من أساسه، فقد كان كل غرضي أن لا انتظر لقمتي من أب لم يباركني مرّة في حياته. وأن أهب هذا الطيب ولو جرعات من إكسير السعادة عبر الكلمات، وكان بإمكاني أن أبحث لقصتي عن بطل آخر أبتزّه وأصعد على أكتافه سلالم الشهرة.
بتّ تلك الليلة معه وطيف أمه يملأ المكان وصوتها يتردد بين المطبخ والغرفة تنادي عليه أو تتوسل لأجله.
وقبل أن نختلس غفوة بعد يوم حزين، همست له: صديقي سعيد.. لن أكمل الرواية.
فانتبه من غفوته، و أبى علي إلا إكمالها.. لأنه بشوق كبير لمعرفة ما حوته اللفافة.
"9"
"أفاق سعيد من الغيبوبة التي أحدثتها اللفافة وما حوت واستعاد وعيه وتوازنه، لكنه ظلّ غير مصدّق أن يقوى أمّ أو أب على التخلص من وليد، وعجز عن مجرّد التفكير بأن توضع هذه الملاك في حاوية بدل وضعها مثلاً على باب مسجد.
وبدون أي حسابات منطقية ضمّ الطفلة لصدره وعاد أدراجه مسرعاً للبيت قبل استيقاظ أهل الحيّ، وراح يدفع العربة الخالية بيسراه وهو بين المكذّب والمصدّق لما حصل معه.
وحين دخل البيت ووضع الطفلة على السرير فتحت عينيها السوداوين وبدت له أنها تبتسم رغم أن عمرها لا يتجاوز الأيام
وشعر أنه اختبر الأبوة منذ زمان بعيد وأنه أب لهذه الوليدة أكثر بكثير ممن رماها أو دفع بأمّها لرميها لستر العار.
ووجد نفسه يناغيها قائلاً:
"يا شمس.. يا شمس عمري.. يا روح أمّي.. شمّوسه.
أي إله أرسلك إلي بعد تولّي الفرح عن حياتي برحيل الغالية؟!
وهل من توّج الحاوية بك فقير ارتجى أن يمّر بك غنيّ ويربّيك
أم غنيّ كنت بالنسبة له ثمرة خطيئة وفكّر أن يتخلّص منك كما يتخلّص من فضلات طعامه؟!
وراحت دموعه تنهمر بغزارة لتعلّقه بهذه الطفلة من جهة وعجزه عن اتخاذ قرار بشأنها، وهو الفقير المعدم من جهة أخرى".
ينظر سعيد إلي وأنا أكمل له حكاية اللفافة والشمس التي أشرقت فيها، فيما نحن مستلقيان على سرير أمّه الراحلة، ويضمّني بحنان وفرح لدرجة أن ينقل لي هذا الشعور الغامر بالسعادة، وكأني أشهد حياة لست من كتبها.
يسألني سعيد بصفاء عينيه:
قل لي يا صديقي.. هل إكسير السعادة الكلمة التي تحلّق بي؟!
أم شمس التي أضاءت عالمي؟!
أم المال الذي يشيح بوجهه عني وعنك؟!
أحار ماذا أجيبه، وألوذ بالصمت.. لولا أن يستحلفني أن أكمل ما بدأت، ولا أتركه عالقاً بأثير الخيال الجميل دون أن أصل به لأقاصيه.
"10"
كنت على أبواب التخرّج، وكان عليّ أن أبذل جهداً مضاعفاً في الدراسة والتفرّغ لمشروع التخرّج من كلية الصحافة والإعلام كما حلمت منذ طفولتي.
وقد اخترت لمشروع تخرجي أن يكون حول "دورالكلمة في التربية والتعليم" وشجّعني الدكتور المشرف على رسالتي ودلّني على مراجع معتبرة يمكن أن تساعدني، وكان يتابعني خطوة بخطوة.
أصرّ عليّ سعيد بعد وفاة أمّه أن أبقى عنده بشكل دائم تجنّباً للطاقة السلبية التي يبثّها أبي في البيت وتحول بيني وبين التركيز.. فحبّذت الفكرة لأني أصلاً أقضي معظم وقتي في بيته البسيط.
وكانت خالتي تزورني يومياً وغالباً دون علم أبي، تحضر معها ما تيسّر من الطعام وما تستطيع توفيره لي من مال.. تنظّف لنا البيت وتغسل ملابسنا، وهي لا تكفّ عن سرد معاناتها وقلّة حظّها وطباع أبي التي تزداد سوءاً.
وكنت أواعدها مازحاً أن أشتري لها بأول راتب لي ما تحبّ وتشتهي فتغادرني وهي تتوسّل لأجلي ولأجل المسكين سعيد.
لم يعد سعيد يلحّ علي لإكمال الرواية، وكان شديد الحرص على راحتي وهدوئي، يحلم معي بحفل تخرجي الذي أصرّ أنه سيحضره ولو اقترض بذلة تليق بصديق الإعلامي الكبير.
كنت أرى جيداً أن "شمس" الفكرة المضيئة.. قد أنارت حقاً عالمه ووهبته طاقة لم تكن موجودة عنده من قبل.
اشترى عربة أكبر وزاد نشاطه وربحه وكأنه كان يعمل لأجل طفلة أحلامه "شمس".
"11"
"حزم سعيد أمره وقرر أن يتصرّف بسرعة ولا يسلم نفسه للتردّد.
شمس هبةٌ من الله ولن يكون ناكراً للنعمة بالتخلّي عنها..
سيسعى لأن يكون لها شهادة ميلاد وأب.
أما الأمّ.....
ابتلع ريقه ولم يدر ما يفعل لكنه سلّم أمره لله ونهض ليحمل الملاك ويمضي بها إلى أقرب مخفر شرطة ويعرض عليهم أن يتبناها .
وفيما هو يهمّ بحملها لاحظ أن بين ثيابها منديلاً صغيراً .
ولم يخطر بباله أبداً أن يحتوي المنديل على هذا المبلغ الكبير من المال.
"يا إلهي.. يا رب العرش العظيم.. يا من رسمت قدري من قبل أن أخلق.. إني عاجز عن استيعاب ما يجري.
بابا شمس.. ما الذي تعدينني به.. وهل تدرين أنك تمنحينني سعادة الكون كلها بقدومك".
وفيما هو في مناجاته ومناغاته.. يدقّ الباب، فيفتحه بحذر ليجد صبية مسربلة بالسواد لا يبدو منها إلا عيناها من خلف الخمار. تقول له الصبية بحياء: صباح الخير
ثم تحاول جاهدة من خلال دموعها أن تشرح له كيف شاهدته وهو يعود بالطفلة وكيف تبعته واهتدت لبيته.. ثم تنهار عند عتبة الباب وهي تنوح: إنها ابنتي.
"12"
" أحضر سعيد كأس ماء للصبية بعد أن جلست منكمشة على طرف الكرسيّ الذي قرّبه منها لترتاح. وحين نزعت النقاب عن وجهها تجلّى قمراً ليلة التمام والحزن زاده حسناً. وبدا سعيد كالمسلوب تماماً على كرسيه المقابل لا يدري ما يفعل أو يقول.
ثم استأذنته بعض الوقت لإرضاع الطفلة، فنامت شمس في حضن أمّها كملاك الربّ.
ثم نطقت أخيراً وقالت:
أيها الغريب الذي عرفت عنه كلّ شيء قبل أن أودِع ابنتي في طريقه، وتتبعت منبته الطيّب رغم فقره وشعرت أني أختار لابنتي خير أبّ بعد أن ذقت خسّة من اغتنى واستبدّ.
وتصيّدت اللحظة المناسبة لأنسلّ مع الفجر من الوكر الذي فررت إليه لأتمّ أشهر حملي وألد بعيداً عن كلّ عين تعرفني.
ليست ابنتي هي ابنة الحرام بل ذلك الوغد الذي ظنّ أنّ من حقّه مقابل إيوائي للخدمة في قصره أن يقذف في رحمي الطاهر نطفة صلبه النجس.
وكيف لغصن مقطوع من شجرة بلا حول أو قوة أن يتمنّع أو يهدده بإخبار زوجته ما دام قادراً أن يلفّق عليّ أية تهمة.
وحين بدت عليّ أعراض الحمل وأخبرته في هلع، زمجر قائلاً: يا سافلة.. اذهبي للنذل الذي فعل بك ما فعل بدل أن تتجرئي على إقحامي بقذارتك.
ثم ختم حقارته:
في الغد لا أريد أن أراك في هذا البيت.
لم أنم ليلتها أفكر كيف أجهض طفلي وماذا سيحلّ بي.
ثم هداني تفكيري أن آخذ حقّي وحقّ هذا الجنين قبل مغادرتي
فتسللت الى خزنته وأخذت ما يعينني على معيشتي وتربية طفلي، ثم غادرت بعيداً لمكان لا تصله يده الآثمة".
"13"
استطعت أن أميّز بوضوح ابتسامة سعيد تشعّ وسط حضور حفل تخرجي.
بدا لي وكأنه هو من يتسلّم عني شهادته، وقد ظلّ يصفّق لي بحرارة حتى بعد أن خفت التصفيق.
وحين انفضّ الجمع وبقينا وحدنا عانقني قائلاً:
كم يليق بك منبر الإعلام يا صديقي.
أنت كلمتنا الحرّة العالية التي ستوصل آلامنا وآمالنا لمن بيدهم الحلّ والربط.
ثم فجأة سألني وعيناه تتلألآن بدموع عالقة تجاهد كي لا تنهمر :
"هل النجاح هو إكسير السعادة الذي عنونت به روايتك؟"!
تأمّلت سعيد الطيب المحبّ..
أجمل ما فيه هذه العاطفة الجيّاشة ودمعته السخيّة السريعة وذلك لم يتعارض مطلقاً مع رجولته التي لم تكن يوماً استعراض فتوّة وعضلات.
وتلبّسني شعور أن هذه البذلة قد فصلّت له، فقرّرت بيني وبين نفسي ألا نعيدها لمن أجّرنا إياها، كتعبير عن فرحي بهذا اليوم العظيم، فقد توفّر معي مبلغ زهيد من مصاريف حفل التخرج يكفي ليكون القسط الأول من ثمنها، خاصة وأنها مقترضة من ملبوسات أوروبية مستعملة أو ما يدعى "البالة".
أما هو فقد فاجأني حين عودتنا بأنه لم يغفل عن شراء هدية لي، سمّاعات لجوّالي الأثريّ كنت أخطط لشرائها بأقرب فرصة مادية تتاح لي.
وفي ذروة فرحي تأملت سعيد وروايتي عنه وأقسمت:
لست أنا من صنع منك بطلاً يا سعيد، لأنك بطل فطريّ لإنسانية تكاد تنقرض.
يا أخي الذي لم تلده أمّي.
"14"
ختمت روايتي بزواج سعيد من والدة الطفلة شمس وتسجيل زواجهما قبل تسعة أشهر من تاريخه، ومن ثمّ تسجيل شمس لأمّ وأب كأيّ طفل يجيء للدنيا معزّزاً مكرّماً.
وحين قرأ سعيد مستقبله فيها أشرقت أساريره فقد صار لديه مصنع لتكرير البلاستيك ثمّ توسّع عمله بإنشاء فروع في المحافظات وعاشت شمس في كنف أسرة تسودها المودّة والرحمة.
قرأت في عيني سعيد رضاه عن النهاية وحنيناً خفيّاً للحبّ والأبوة والاكتفاء، وعجزاً عن تحصيل أيّ من الثلاث.
فبيتتُ النيّة إن فتح الله عليّ ونشرت الرواية أن أتقاسم وصديقي ريعها.
ثم دار الدولاب، وصارت روايتي بعد عامين بيد منتج اقترح عليّ أن أفصّل الأرومة الأصلية إلى حلقات لإنتاجها في عمل درامي، وأن أدخل عليها لوازم الحوار والحبكة والدهشة .
وحين أتممت بعد أشهر مشروعي ونال رضا المنتج والمخرج، طلبت منهما أن يكون بطل العمل الشاب الذي أوحى إلي بالفكرة وراهنت على نجاحه بإخضاعه لبروفات واختبارات.
فقبلا بعد أخذ وردّ، ولم يحملا الأمر على محمل الجدّ، لولا أن أداء سعيد بدا كأنه حقيقة وأذهل الجميع بقدرته على تجسيد الدور وصدقه في التعبير وكأنه يؤدّي حياته بكل فصولها.
لاقى المسلسل نجاحاً جماهيرياً كبيراً شربنا نخبه معاً، إكسير الصبر والأمل والحياة التي قد تبتسم حين يكون كل ما حولنا يبكي.
وأغلب الظنّ أن سعيد قد أحبّ البطلة، وستشرق شمسهما معاً كأطيب إكسير للسعادة.
تمّت