الفصل الخامس
أما بعد
"١"
الملاءاتُ البيضاء على الأسرّة، لباس الممرّضات، ابتساماتهنّ البيضاء، كلّها.. كلّها تواطؤ خفيّ مستفزّ مع الكبير،
الكبير الذي جعل أيضاً أكفان الموت وأقمطة الولادة بلون واحد ناصع مراوغ لا يتناسب مع سواد الحقيقة.
أغمض عينيّ لأهرب من لعنة البياض، فأراني في الحلم أغرق في بحر من الحليب، بينما تسحبني اللزوجة إلى القاع ثمّ لا تفلتني أبداً، فأفتحهما هلعاً وأنا على يقين أن لا طهر أنقى من سواد الألم.
ألتفتُ حولي فأجدني ما زلتُ على السرير الذي صرتُ وإيّاه كياناً واحداً، يئنّ مثلي كلما تقلّبتُ، ويودّ لو لم تكن بيننا صلة رحم أو يُقطع حبل سرّي ربطنا معاً كلّ هذا الوقت، ولعلّه صار يمقتني كما أمقته ويتوسّل لنهاية عاجلة ولو كانت بالموت.
أنقّل نظري بين من يحضر كلّ مرّة لزيارتي من أهل وأصدقاء، وأتوسّل لهم أن يغادروا ولا يزيدوا ألمي ألماً، فدموعهم تزيد عذابي وأنا أرى عجزهم عن فعل أيّ شيء يريحني، حتى كلماتهم المواسية على نبلها وسموّ غايتها أتمنّى أن تصمت.
أشفق عليك يا حبيبتي، من كلّ هذا الألم الذي ورّطتك بحمله معي وورّطتنا الحياة بتجرّعه بعد سنوات الصفا القصيرة والهدوء الذي ما حسبنا العاصفة التي تليه ستكون بكلّ هذه القسوة.
زوجتي ريتا الأجمل بين النساء وما زلتُ أراها كيوم التقيتها تفيض طيباً وطيبة.
تجلس قربي عند حافّة السرير ممسكة بيدي التي غرزوا بها مسابرهم لتمرير الجرعة، تمسّدها بحنان وتحضن رأسي كأنني طفلها المدلّل بابتسامة مشجّعة، وأنا أعلم أنها ما أن أغفو تحت تأثير المسكّن حتى تبكي بحرقة وانكسار وتخلع تجلّدها، فقد تعبتْ كما تعبتُ ونفذتِ النذور التي تهبها كلّ توسّل وصلاة ليشفيني الله ولا يحرم طفلَيّ مني.
قلتُ لها يوم حملها بطفلنا الأول:
-
أريدها بنتاً تشبهك تماماً.
لكن يبدو أن حبّها لي فاق حبّي فقد رُزقنا بمولود ذكر، يشبهني حتى بطريقة جلوسي واستلقائي.
الولد الثاني جاء طفلة، قلتُ جادّاً:
-
نسمّيها ريتا فإني في الحبّ طمّاع ولا أشبع، وإن ناديتك رددتما عليّ معاً فهل بعد هذا سعادة!
فاستنكر الجميع جنوني وأوّلهم زوجتي وقالتْ:
-
بل هي "شغف" لا أظنّه سيخبو يوماً أو يزول.
ويا الله ما فعلتْ بي ابنة الحبّ هذه وكم أعادتْ خلقي من جديد، فكأنّي وأنا أراقصها بخفّة فراشة وكأني وأنا أحبو مثلها أمضي بعمري رجوعاً لطفولتي، لقد صدق من قال أن البنتَ أمّ أبيها، وأنا محظوظ بعدّة أمّهات تعهّدن رعايتي وإسعادي هنّ أمّي.. أختي.. زوجتي.. وابنتي.
كانتْ رغبات "شغف" أوامرَ لا أناقش فيها لأقتنع أو لا، وفي ضحكتها ألف شمس مشرقة تجلو الهمّ مهما تعاظم، وكنا كلّنا في البيت طوع أمرها، حتى "ميلاد" رجل البيت الصغير يلعب وفق مزاجها لو بكتْ اعتراضاً أو ضحكتْ فرحاً، ومعظم رسومي لمجلّات الأطفال من وحيها ووحي أخيها وقصصهما اللذيذة التي تعطي عشقي لريتا جناحين من نور.
فمن أين أتتني قلّة المناعة...
من أيّ ثغر تسلّل المرض لجسمي، ما دمتُ الحامد الشاكر سرّاً وجهراً على تمام نعمة الله عليّ بأن رزقني زوجة حبيبة وطفلين رائعين ورضا والديّ عليّ والعمل الذي أحبّ وأمارسه كمصدر رزق وهواية بنفس الوقت؟!
كيف خطر له أن ينال مني رغم طاقتي العالية ومحبّتي للناس أجمعين ومدّ يد العون لكلّ محتاج ما استطعتُ لذلك سبيلاً؟!
كيف أحكم قبضته على جسد اعتدل في أكله وشربه ونومه ولم يسرف في رغباته يوماً إلا برغبة واحدة.. أن يطيل الله بعمره، ليسعد حبيبته ويعوّضها عن كلّ ألم مرّتْ به وكلّ معاناة قهرتها يوماً، ويربّي طفليه كما حلم دوماً على الخير والحبّ والجمال.
أحسّتْ ريتا بحدس المرأة وقلب الحبيبة أنني على غير ما يرام من انخطاف لوني وهبوط ضغطي والدوار الذي يلازمني، فألحّتْ عليّ لمراجعة الطبيب للاطمئنان، الذي طلب مني فوراً مجموعة من التحاليل، وما أن قرأ نتيجتها حتى غرق في صمت قلِق وطلب مجدّداً مجموعة من الصور قطعتِ الشكّ باليقين بإصابتي بالكانسر وضرورة المباشرة بالجرعات فوراً، وصارحني بيني وبينه أن هذا النوع من السرطان نادر الحدوث، ومن سوء حظّي أني من النسبة القليلة التي أصيبتْ به.
ليلتها... قضينا الساعاتِ حتى طلوع الفجر متعانقَين دون أن ننبس بأيّ كلمة، نبكي في نشيج مكتوم ويمسح كلّ منا دمع الآخر بينما لا نزال تحت وطأة الصدمة، ولم أخبر ريتا بطبيعة الحال ما قاله لي الطبيب بل حاولتُ أن أخفّف عنها بتأكيدي أني سأتعافى، وسيكون الله معنا كما كان دوماً.