الفصل الرابع
ومن الحبّ ما اكتمل
"١"
أيقظتني ريتا باكراً لنهيّئ نفسَينا للسفر إلى العاصمة ومنها إلى مدينة حبيبتي المحرّرة، ورغم أني كنتُ بين الصحو والغفوة استطعتُ أن أميّز صوتها الواهن المتعب الذي ناست ألوانه التي طالما تغزّلتُ بها، فهو الأبيض حين تكون طفلتي، والزهريّ حين تلهو معي ما بين مزح وجدّ، والبنفسجيّ حين تنطق بالحكمة، والأحمر إن ابتهلت شفتاها عشقاً، و... و...
كانتْ تضع يد على كتفي ويدها الأخرى على معدتها وهي تهمس:
-
انهض يا حبيبي، غسّل والحق بي إلى المطبخ، لقد أعددتُ ما تيسّر من الفطور لنأكل قبل السفر، وحقيبة أمتعتنا جاهزة، لا أظنّ أني نسيتُ شيئاً من حوائجنا ليومين أو أكثر حسب التيسير.
كنا قد رتّبنا أمورنا منذ أيام وحدّدنا يوم السفر بعد أن صرّحتِ الحكومة بالسماح للنازحين بالعودة لمنازلهم وأن المدينة صارتْ آمنة، ولم يكن هناك ما يعيق سفرنا فريتا تركتِ العمل عند المحامي قبل زواجنا بأيام، وأنا حرّ من دوام المدرسة بسبب العطلة الصيفية، أما المرسم فلم أكن قد افتتحتُ دوراتٍ جديدةٍ لتعلّم الرسم أو تطوير مهاراته بعد، وقد تعهّدتْ سارة أن تفتحه يومياً وتدرس هناك استعداداً لامتحان الدبلوم التربويّ، فيما لو اضطررنا للبقاء لأيام، وهكذا يبقى الباب المفتوح للمرسم موحياً بالحضور واستمرار العمل.
أقلقني صوت ريتا بداية ثم زاد قلقي وأنا أرى اصفرار وجهها وشعورها بالغثيان، رغم أننا كنا في تمّوز مما ينفي فكرة تعرّضها للبرد، وحاولنا أن نتذكّر ماذا أكلنا خلال اليوم السابق وسبّب اضطراباً في الأمعاء، لكني لم أكن أشكو مثلها من أيّ عرض، ولم يخطر ببالي أنها أعراض أنني سأصبح أباً عمّا قريب.
قلتُ لريتا وانا أضمّها بحنان:
-
لن نسافر وأنت على هذا الحال!
سأتّصل بأبيك وأبلغه بمرضك ونؤجّل الموضوع ريثما تتعافين.
حاولتْ أن تقنعني أنها بخير وستتحسّن مجرّد أن تأخذ الدواء، وأدمعتْ عيناها وهي تقول:
-
أنت أكثر من يعلم كم انتظرتُ هذا اليوم.
بعد أخذ وردّ توصّلنا لحلّ معقول...
أن أسافر وحدي مع أبيها هذه المرّة وتبقى هي في بيت أهلها لحين عودتنا، بحيث تهتمّ أمّها بها في غيابي، ووعدتها أن أبقى على تواصل مستمرّ معها.
وافقتْ مرغمة، وأخذتْ تفرغ ملابسها من الحقيبة وهي تحاول أن تبدو قوية متماسكة، بينما أتلو عليها وصاياي بأن ترتاح وتنتبه لغذائها وتذهب للطبيب إن استمرّت الأعراض.
ثم قبل أن أغادر، دخلتْ غرفة نومنا وعادتْ وهي تحمل دفتراً أنيقاً وضعته في حقيبتي وهي تقول:
-
تسلّى بقراءته خلال الطريق، وبذلك سأكون معك لحظة بلحظة، لأني أودعتُ روحي بين السطور.
ثم ودّعتني بابتسامة أشرقتْ من خلف غلالة الدموع وهي تهمس: "بأمان الله".
توجّهتُ إلى بيت عمّي الذي كان ينتظرني، بعد أن أعلمته عبر الهاتف بمرض ريتا، ورجوتُ زوجة عمّي ألا تتركها وحدها، وأنا أعلم أن الأمّ لا تُوصّى على أبنائها، لكن حبّي لريتا وخوفي عليها، كانا قد جاوزا المنطق والمعقول.
ولو سألني سائل: ما الذي يدفعك أن تترك زوجتك المريضة وأهلك ومرسمك، وتسافر كلّ هذه المسافات إلى أنقاض مدينة خاوية؟!
لجاء الجواب بلا تفكير: الحبّ.. وفقط الحبّ!
فلا كان حبّ لا يتشارك به العاشقان المشاعر والأفكار والأحلام وحتى الهواجس، ويمضيان يداً بيد في الدروب اليسيرة والوعرة.
وليس حبّاً ما اكتفى برسم اللوحات وكتابة القصائد والسهر لساعات بضوء القمر.
بل الحبّ.. كتف يسندُ ويد للعون تمتدُّ وحضن ساعة الألم يصبح كوناً لا يحدّ.
وريتا وأنا تشاركنا حتى الأنفاس، ورسمنا أبدع اللوحات، وكنا معاً وسنبقى بوجه كلّ صعب قلباً وروحاً ووجداناً.. فكأنّه الحبّ الذي اكتمل.
تبادلتُ وعمّي أطراف الحديث، وأنا استشعر الحزن والقلق معاً بصوته، ورحتُ أبثّه الأمل بأن بيته بخير، وسيعود إليه ويمارس عمله مثل قبل، وأني أعتبر نفسي بمثابة ابنه ويمكنه أن يعتمد علي، والحقيقة أني كنتُ أحاول أن أقوى من خلال حديثي معه، فكلّ ما سأراه حين وصولنا سيكون بعيني ريتا حتماً، وكلّ ما سيعتريني من مشاعر هي مشاعرها لو رافقتني، لأننا ببساطة كينونة واحدة بجسدين.
وحين صمتَ وأسند رأسه للمقعد وتأكّدتُ من نومه، أخرجتُ دفتر ريتا من حقيبتي وفتحته لأقرأ على أوّل صفحة بخطّها الجميل:
يوميّات الحجز والنزوح