"٥"
أعترف لك يا ريتا، وقد وصلتِ الآن في قراءة رواية "حصرم الألم" لهذا الفصل بعد طباعتها، وعلمتِ لمَ أحجمتُ عن اطلاعك على مسودّته مسبقاً لأبقيه لك مفاجأة وأسمع جملتك الأجمل التي تعبرين بها عن دهشتك وسعادتك إثر كلّ هدية معنوية أو مادية: " حبيبي الذي لا تنقضي عجائبه"، يا صحوي وسكري والعنب الحلو في حصرم عمري.
لقد خطرتْ فكرة تدوين قصّة حبّنا فجأة كوميض شهاب عابر في ليلة صيفية، حين رآني أتأمّلك نائمة كالملاك مسدلة الأهداب في دعة وسكينة غارقة في ملكوت عالمك الأثيريّ بأنفاس خافتة منتظمة، أسبّح الله في سرّي كي لا أوقظك بتمتماتي، على جمال ما أبدع وخلق من رقّة وتجلٍّ وحدي أستشعر تفاصيله وأنعَم به، رغم أني أخبرته أني لا أعير أهمية لجعل عشقنا قصة تروى يقرأها القاصي والداني مهما بلغ أثرها بوجدانه، حسبي أني أعيش نعيمها في جنّة لا مقطوعة ولا ممنوعة، يا رحمة الله التي أرسلها لي ويا رضاه ورضا والديّ عني، أنا الذي بلغت مقام اليقين بأن حكايتي معك لا تضاهيها أيّ من قصص الحبّ التي أقرأها في الروايات وتجذب الملايين للإعجاب بها، فكأنها السرّ المحفوظ في دفّات الصدور أو اللؤلؤ المكنون في عتمة الصدف، جماله لنا وحدنا، وحدنا فقط.
لكن السكينة التي أخلدتِ بها للنوم كان لها سحر وسطوة جذبت سلاطين الوحي صاغرين وجنّدت ملائكة السماء لتعود بي سنوات للوراء وربما لما قبل الخلق يوم كنا بعالم الذرّ عناق روحين قبل هبوط التجسّد، وليس كالنوم ما يبدي حقيقة الإنسان، بعد أن تهدأ أمواج الفكر المضطربة ويخفت ضجيج الأنا وإثبات الذات، فلا صوت ولا حركة بل هدوء تام كهدوء الطبيعة في غبش الصباح، فكأنك اللوحة التي فتنت بها وأسماها مبدعها الرسّام "الجمال النائم"، وأعذر الفنّان إذ أطلق عليها اسماً، رغم أني كما عهدتني لا أطيق حبس الفنّ ولا الأدب بعناوين، فحقّ القارئ أو المتذوّق أن يسمّي الإبداع بما يشاء، فكم قصّ العنوان جوانح الخيال وحدّ من تحليقه، لكنّ لوحة "الجمال النائم" كانت اسماً على مسمّى، ولو أن الرسّام جرّب أن يختار أيّ اسم آخر لفتح باب التأويل والتكهّن، لكنه أبداً لن يكون روح اللوحة كهذا الاسم.
هو ميقاتي لأمارس عبادتي في تأمّل ملامح وجهك بلا أيّ تعبير أو انفعال فارغاً حتى من مشاعر السعادة، كما أتأمّل بحيرة عذبة صافية فيلوح لي قاعها، أما وجهي فقد غمرته غبطة وشت بعشق سرمديّ ليس به قبل وبعد، ولو قدّر لك أن تفتحي عينيك لرأيت حارسك الأمين يحصي أنفاسك الخافتة نفساً ونفساً ويتعبّد في لطف محيّاك مبتهلاً: "اللهم اقبل صلاتي واحشرني مع من أحبّ، فلا حشر يطيب إلا مع الحبيب".
سألتِني قبل أن تنامي إن كنت أرغب بالنوم فابتسمتُ وقلت:
نامي يا حبيبتي فأنت متعبة، وأنا سأقرأ قليلاً في هذه الرواية التي سمعت أنها حازت على جوائز عالمية، حتى يهيمن عليّ سلطان النعاس وأتبعك إلى عالم أهدأ وأنقى وأنظف.
وسمعتك تتمتمين بين الصحو والغفوة: "غداً ستحكي لي عن هذه الرواية، فمنذ زمن لم أعد أجد الوقت لقراءة الروايات كسابق عهدي".
أقبّل جبينك كأني أقبّل أيقونة وأمسح شعرك بباطن كفّي الذي استودعته كلّ حناني وحبّي وأنا أتوسّل أن تحميك السماء من كلّ شرّ.
وأشرد عن الرواية بين يديّ مفكّراً يا حبيبتي بكلّ المتزوّجين وأصحاب الخبرة الذين أجمعوا على أن الزواج مقبرة الحبّ، وأن الحبّ بعد الزواج يطفئه الاعتياد، وأغبط نفسي جازماً أننا من الشواذ الذين سيزيدهم الزواج شغفاً وتعلّقاً وما كان عناق الأجساد إلا كتحصيل حاصل لانصهار الأرواح.
ثمّ يا حبيبتي، هل كنّا لنتزوّج لولا أنك كنت مثلي ترين أن الحبّ هو الدرب والغاية لتصبح الثنائية وحدة، وتجعل الشراكة بين جسدين ونفسين تداخلاً يصعب فصمه، وأن الحبّ يتربّى ويقوى يوماً بعد يوم إن كان حقّا ليس انفعالاً آنياً أو هوى وميل قابل للانقلاب، وكم من حبّ عاصف تحوّل لنفور، وكم من زواج باطل يأخذ شريّعته من ورقة كما تبطله ورقة، هو اغتصاب وجدانيّ ونفسيّ وقهر إنساني من طرف تجاه الآخر أو من مجتمع تحكمه العادات لكلا الطرفين.
هل تذكرين....
أسمع رنين ضحكتك ملء سمعي رغم اغفاءتك في ملكوت النوم والسكينة وأنت تقاطعينني قبل أن أكمل جملتي:
-
حبيبي جواد.. تعرفني نسّاءة فلا تختبر ذاكرتي، لأني أضمن لك فوزك عليّ يا أستاذ التفاصيل والتواريخ واستحضار حتى وهج المشاعر وكأنها بنت اللحظة.
ابتسم كالمسحور مأخوذاً بهذه الضحكة التي أعشق، وبادّعائك النسيان الذي يتهاوى مجرّد البدء بسرد الحدث وأتابع:
-
هل تذكرين تلك اللحظة المذهلة التي أرسلت لي بها بعد صباح الخير ما نسخته من أحد المواقع بعنوان "توأم الروح" بنفس الثانية التي أرسلتُ لك بها نفس المقال، وضغطنا معاً على تعبير "أدهشني"، وكلانا مذهول مما يحدث معنا منذ تعشّقت روحي روحك وروحك روحي، وأيقنّا أن الله كان الكاتب والشاهد على هذا العقد السماويّ الأرضيّ غير القابل للانفصام، وأن ما يحدث معنا خبرة كونية عظيمة وكأننا لسنا سوى حرفيّ الكاف والنون بيد الوجود ما أن تعانقا حتى قال كلمته "كن" فكان.
-
كان المقال يعدّد سبع علامات لتوأم الروح، وكأنه يتحدّث حرفياً عنا، نحن اللذان ظننّا أن لا مثيل لنا ولا شبيه لقصّة حبنا.
-
أرأيت أن ذاكرتك قد تفوق ذاكرتي وليست كما تتندرين قائلة أنها كذاكرة السمك!
-
لقد سمّيتك محامي الدفاع عني منذ أول بوح بيننا، حين رأيتك ترفض ما أطلقه على نفسي من صفات لا تروقك وتبدأ باستبدالها بصفات محبّبة كأنك أخبر بي مني.
-
حسناً يا موكّلتي ماذا قال المقال عنا؟!
-
قال.. ستعرف بحدسك وقلبك توأم روحك حين تقابله، وستشعر باتّصال روحي فوري وبجاذبية غريبة وتكون أمامه كالمسلوب تختبر شعوراً لم تعرفه ولا يشبه كلّ ما عشته سابقاً، سيبدو لك أنك التقيته من قبل، ولكن أين ومتى.. لا تذكر، ثم سيذهلك التوافق العاطفي والعقلي والروحي والكيميائي والفيزيائي بينكما، الذي سيبدو وكأن يداً سماوية ترسمه وتديره بمنتهى الربوبية والقدرة والإدهاش، وتصل ليقين أن الكون رسم خطّته ليجمعك به وأحكم نسج الخيوط بطريقة عجيبة.
ثمّ تابعت وهي تفيض رقة وحناناً وعذوبة غارقة في سواد عينيّ:
-
أليس هذا ما حدث معنا يا روحي؟ ومهما نسيت كيف لي أن أنسى يوم عدتُ من مرسمك بعد أوّل زيارة له .. لم أنم ليلتها مثلك تماماً، وأنا أسمع وجيب قلبي ودقّاته المتلاحقة ولم أصدق كيف ستمرّ الأيام لألتقيك مجدّداً.
انتبهتُ فجأة لأجد ريتا ما زالت ترقد قربي فلا هي ضحكتْ ولا هي قالتْ، بل روحها التي تسكنني منذ الأزل.
نامي يا توأم الروح، فأنت معي، في النوم أو في اليقظة، في الوعي أو اللا وعي، ولا زمان ولا مكان يحدّان قصة عشقنا.
نامي يا طفلتي وحبيبتي وصديقتي وأمّي وكلّي.. نامي يا معبودتي وسأرقيك بآيات حبّي لتحفظك السماء بطمأنينة وسلام.
وحدك من أيقظ في داخلي جوهري الحقيقي ووحدك من عشقتها كينونة كاملة واعية لا عن نقص ولا احتياج، ولم أخجل لحظة أمامها من ضعفي أو عيوبي وطباعي، ولم اضطرّ للتبرير أو التفسير لأيّ من سلوكياتي، لأنك كنت كذلك معي مرآة شفيفة صافية، لا تحتاج للكذب والمواربة، حرّرها العشق من مخاوفها القديمة فازهرت أحلامها فنّاً وشعراً ومهاراتٍ لم تخطر يوماً ببالها لتفيض حضوراً يعلن:
إنه الحبّ....
يخرج أجمل ما فينا...
ويبعثنا كلّ حين بحالٍ جديد.