الفصل الثالث / توأم الروح ٤

 

 

"٤"

 

تحرّرتِ المدينة التي تعتبر مكان ولادة حبيبتي ريتا ومرتع صباها ومجمع تفاصيل ذكرياتها ونحن في أوج علاقتنا، في الوقت الذي كنّا نستعدّ فيه ليضمّنا معاّ عشّ الحبّ بعد خطوبة تمّت بمباركة أهلها وأهلي.

تحرّرتْ بعد قصص دامية دامت لسنوات، ستحتاج الإنسانية لمجلّداتٍ إن خطر لها أن تكتب عمّا شهده الوطن وأهله من موت وخراب وفساد وما لحق  بالناس من شرّ وأذى على اختلاف انتماءاتهم.

إنه النصر حقّاً...

النصر الذي يستحقّ التهليل والاحتفال.

لكنه الفرح الحزين...

سيعود النازح ليقف على أطلال مدينته ويحصي عدد من مات ومن فُقد ومن سُجن ومن أُصيب ومن بقي، ثمّ يكون وحده أمام بهتة السؤال: ماذا بعد؟!

لم أرَ ريتا مضطربة مثلما رأيتها ذلك اليوم، ما بين فرح وتوتّر واستحضار لأيام الاحتجاز ثم النزوح، وبدت غير مصدّقة لحقيقة القضاء على التنظيم المسلّح وإجلائه عن مدينتها، ورأيتها كمن يستيقظ من كابوس طويل وما يعقب اليقظة من عدم تصديق وذهول.

صار محور حديثنا اليوميّ حول فكرة العودة للاستطلاع وتفقّد حال منزلهم، لحسم موضوع البقاء في بلدتنا أو العودة لمدينتهم المحرّرة، بينما يدور ألف سؤال في البال بلا جواب، ما دام لم يأت ولو خبر عابر عن حال المدينة بعد تحريرها.

بصعوبة بالغة استطعتُ اقناع ريتا ووالدها أن تؤجَّل فكرة العودة للمعاينة عن قرب واستطلاع الوضع إلى ما بعد زفافنا، حيث ستكون الجهات الرسمية المعنيّة قد أصدرت قراراً يسمح للنازحين بالدخول لتفقّد أملاكهم هناك، بعد أن تمشّط المدينة من الألغام والمتفجرات لتضمن سلامة العائدين.

قلتُ لريتا حاضناً كفّيها بين كفّيّ محاولاً بثّ السكينة بروحها المضطربة وأنا أراها ترتجف قبالتي كقشة في مهبّ الريح:

-       

تأكّدي يا حبيبتي أن سفرك قبل زواجنا ليس بصالح أحد لا نحن ولا أسرتك..

هل تصوّرتِ الوضع الذي ستكونين عليه قبل يوم الزفاف، وأنت ترين المدينة الجميلة التي شهدت طفولتك وصباك قد صارتْ أنقاضاً ودماراً؟!

فكيف لو أنه لا سمح الله كان وضع المنزل.....

صمتتُ ولم يطاوعني لساني أن أنطق بالمزيد.

ثم ابتسمتُ وأنا أحضن وجهها المبلّل براحتي وأمسح بقبلاتي الحنونة دموعها وأهمس لها:

-       

دعينا ننسَ لأيام كلّ شيء يعكّر صفو سعادتنا ونمنح أهلنا فرصة أن يفرحوا بنا، ونتذوّق من عنقود الحبّ ما لذّ وطاب، فحصرم الألم في الحياة يهون  ما دام قلبي يعانق قلبك، إذ لا فرار من الألم ما دمنا علقنا على هذه الأرض.

وأعدك أن نسافر مع أبيك قريباً، لأنه سيحتاجنا حتماً في هذا المشوار الصعب، ثم لا تنسي أنني أعتبره بمقام ابي وسأكون له الابن الذي حقّاً لم يُرزق به، لكن الله أكرمه بثلاث زهرات كان حظّي منهنّ أوّلهنّ.. بنفسجتي العاطرة.

وهكذا كان... تمّ تأجيل حتى التفكير بالسفر لما بعد طقوس العرس وما يتبعه من مباركات وانشغال وعزائم ومشاوير ونزهات، وعدنا لننشغل بتفاصيل التحضير للعرس واستكمال ما يلزم البيت من أشياء .

كانتْ مشكلة السكن وهي المشكلة الكبرى التي يواجهها أيّ شاب مُقدم على الزواج قد حلّت خلال فترة خطوبتنا حين اقترحت  أمّي أن نقسم منزلنا الواسع نسبياً فنستقلّ أنا وريتا بغرفتين ونستفيد من جزء من الحديقة لبناء المطبخ والحمّام، فكان ذلك عرضاً مغرياً لنا تزامن مع عقد عمل تمّ بيني وبين مجلة عربية للأطفال لأتولّى رسوم قصصها، وكنت كلّي ثقة أن وجه ريتا خير عليّ ودعواتها مستجابة، وبتنا نستعجل الأيام لقدوم اليوم الموعود ونحن نتدبّر أمور الأثاث البسيط بمساعدة الأهل واقتراض مبلغ من مصرف التسليف يتمّ تسديده خلال سنتين، وبطبيعة الحال لم تكن ريتا متطلّبة لا في جهاز عرسها ولا في حفل الزفاف لتتمّ نعماء الله عليّ ورضاه عني بتوأم روحي وشريكة حياتي.

تزوّجنا أنا وريتا في حفل بسيط ضمّ الأهل والأصدقاء وبعض المقرّبين…

حبيبتي الجميلة ريتا ترفل بثوبها الأبيض كأنها الكوكب الدرّي، تحيطها هالة نورانية، كحورية قادمة من كتاب الحكايا والأساطير، وأنا أشعر كأن قلبي يكاد ينخلع من صدري وكلّ من في القاعة يسمع تسارع دقّاته.. رغم صوت الأغاني والزغاريد.

هل هذا حقّاً حفل زفافي على أميرتي؟؟!!

أم تراني أحلم؟؟؟!!!

ورحت أتوسّل وأنا أغرق في بُنّ عينيها اللتين زادهما الكحل سحراً:

يا ربّ إن كان حلماً لا توقظني منه

يا الله ساعدني لأتحمّل كلّ هذا الجمال الذي أنعمت به علي

وكن معي يا مولاي لأسعدها وأتممْ نعمتك علي بأن أحيا معها العمر كله.

أما هي..

فلم تغادر عصفورة الضحكة شفتيها لحظة إلّا لتعود إليهما من جديد بينما تشعّ عيناها بألف نجمة عشقاً وفرحاً وأملاً بجنة واعدة سنحياها معاً، ولم أدرِ هل كنت سعيداً بها أم سعيداً لسعادتها، فقد اختلط عليّ الأمر لأننا لم نكن حينها إلا بلبلاً ووردة في رقصة التجلّي والجمال، أو رفيف فراشتين في محفل النور.

لن أحدثكم عمّا يدعونه "شهر العسل" الذي قضينا بعض أيامه في شاليه على البحر، بل سأترك لخيالاتكم أن تصوّر السعادة بأقاصيها والعشق بذروته، ليس لأني أخاف علينا من شرّ الحسد، بل رأفة بمن حُرم من أن يلتقي بتوأم روحه أو أن يتوّج عشقه له باللقاء، ولأن تفاصيل تلك الأيام ونشوتها الخالصة كانتْ أشبه بنبيذ معتّق وأنا حتى اللحظة سكران بمذاقه، رغم كلّ ما سبق ولحق من حصرم الألم.

 

 

 

 

View thanaa_darwish's Full Portfolio