الفصل الثالث / توأم الروح ٣

"٣"

 

بدت كلمة "أُحبّكِ" التي نطق بها لساني لأوّل مرّة بعد شهور من تعارفنا كانفلات الآه من ضرام الشوق في صدر أنفاسه عشق، رغم أني قلتُها آلاف المرّات من قبل في كلّ لقاء يجمعنا بطريقة أو بأخرى.. قلتُها قبل النوم وبعد الاستيقاظ وأثناء انشغالي بأيّ عمل وحتى وأنا بين الأهل والأصدقاء.

قلتُها حين لامس كمّ قميصي هفهفة فستانها عن غير قصد.. فكأنه تلامس روحين من وجد وتوق، لا قميص وفستان.

قلتُها وأنا أتغزّل برائحة عطرها الأثير عندي، وأتنسّمه عميقاً مغمض العينين، ثمّ أفتحهما من جديد لأجدها قد تضرّجتْ حياء تخفي وجهها براحتيها وتعجز عن إخفاء سعادتها.

قلتُها بكفّي الذي يضغط على كفّها كلّما زارتْ أو غادرتْ مرسمي كأنه يأبى أن يغادره.

وقلناها معاً بنفس الاحتراق والصدق عبر الجمل الناقصة التي كان أحدنا يقولها ويكملها الآخر حرفياً.. وبمعرفة كلّ منا ما يجول بذهن الآخر ولو لم يبُحْ..  قلناها بإحساسنا المشترك في لحظات الحزن والفرح والألم لدرجة تصل أن نحسّ بذات الوجع في نفس اللحظة ولو باعدتنا المسافة.

كانتْ محادثاتنا عبر الهاتف تمتدّ لساعات متأخرة من الليل يومياً دون أن نشعر بالوقت، نتبادل بها أفكارنا ومشاعرنا وتجاربنا وقناعاتنا.. ثمّ يعزّ علينا بعدها أن نغلق هاتفينا لنخلد للنوم، وكثيراً ما أفكّر لو أن تلك المحادثات قيّض لها أن تدوّن لنافست أكثر الكتب رواجاً وإقبالاً لقيمتها الفنية والأدبية والإنسانية وحتى السماوية، ولكانتْ كتاب عشق يختلف عن المألوف لأن من خطّه روح واحده بجسدين.

قالتْ لي ريتا بعينيها ما لم تحتَجْ معه للتعبير بالكلام، ولو قيل لي صف عينيها لما وصفتُ إلا النظرة التي تمحوني لتكتبني من جديد، وتبعثرني لتعيد ترتيبي، وتحتويني فأنسى كلّ ما عداها وأهدأ كالطفل بين ذراعيها، مهما تعاظم اضطرابي، وما من مرّة التقينا بها على انفراد إلا وكان الله ثالثنا شاهداً على قدسية هذا الحبّ الذي هو من كتبه وأخرجه واختارنا لتجسيده، وكنت أرى لهفتها عليّ وحرصها على راحتي واهتمامها بتفاصيلي فأغبط نفسي على هذا الحبّ العظيم ولا أملك إلا أن أحبّها أكثر، إن كان هناك أكثر.

شيئاً فشيئاً صار واضحاً ما حاولنا إخفاءه تحت اسم الصداقة أو الاهتمامات المشتركة، فزيارات ريتا المتكرّرة للمرسم وقضاؤها معظم الوقت برفقتي بعد انتهاء دوامها في مكتب المحامي جعلتِ الأهل والأصدقاء يتغامزون ويتساءلون، فقرّرنا ذات مساء أن نعلن الأمر وأن تخبر أهلها بجدّية العلاقة بيننا ففي الإعلان راحة للجميع.

بعد ذلك بفترة دعوتُ ريتا لحضور حفل ميلاد أختي سارة وكانت فرصة ليتعرّف عليها والداي وأخوتي، وقد دخلتْ قلوبهم فعلاً بلا استئذان كما توقّعتُ، للطفها ورقّتها وقبل ذلك محبتها الفطرية غير المتكلّفة.. خاصّة أمّي التي تجيد قراءة معادن الناس من أوّل نظرة وقد أحسّت بأصالة ريتا وطيب منبتها وأعربت عن سعادتها بأن تكون من أفراد العائلة، وكنتُ أراقب نظراتِها تلاحقها مع ابتسامة الرضا وهي تساعد سارة أثناء الحفل وبعده بخفّة وترتيب ولباقة فيطير قلبي فرحاً.

كان الوقت الذي نمضيه يومياً معاً في المرسم غنيّاً مليئاً ملوّناً كلوحة فنّية وكلّ يوم فيه عن ألف عام، وكأنه جنّتنا التي نفجّرها بالحبّ تفجيراً وتنبثق عذوبة ينابيعها بيدين من خصب ونماء، ومذ صارت ريتا جزءاً من تكوينه تغيّر كلّ ما فيه فلمساتها في كلّ ركن وروحها تفيض جمالاً في حضورها والغياب، وحتى لوحاتي التي رسمتها بعد حبنا كانت تشكّل نقلة فنية واضحة، لستُ وحدي من أقرّ بها بل جميع أصدقائي وأهل الذوق من روّاد مرسمي.

كذلك أنجزتْ ريتا الكثير من اللوحات بعد تعارفنا وتطوّر علاقتنا، وبدا لي كم يفجّر الحبّ إمكانياتٍ ما كانت لتظهر لولاه، وكانت لوحاتُها الأكثر إقبالاً ومبيعاً في كلّ معرض يقام ونشارك فيه سواء في مرسمي أو في صالات العرض، مما منحها سعادة مضافة للسعادة التي يهبها العشق، لكن أكثر اللحظات نشوة كانت حين كنا نتشارك برسم لوحة سواء كان انبثاق فكرتها من عندي أو من عندها، ثمّ وقوف زوّار المعرض أمام لوحاتنا المشتركة دون أن يلاحظوا أن من رسمها فنّانان لا فنّان واحد، ويحدث أن نجرّب التنويه لصديق مقرّب بهذه الحقيقة فكان يستعصي عليه التمييز بين ريشتي وريشتها أو أسلوبي وأسلوبها.. وتضيع محاولاته التفريق  سدىً.

تقول لي ريتا من حين لآخر:

- ماذا فعلتَ بي يا توأم الروح، وكيف أحلتَ حزن عيني بِشراً وسعادة، وكيف أعدتَ لي ثقتي بالإنسان وقوة الحبّ، بعد أن رأيتُ بأمّ عيني انتهاك الإنسانية وقتلها على يد الوحوش من البشر، وظننتني لن أقدر أن أنسى يوماً جحيم ما عشناه أنا وأسرتي وجميع من نزح ورأى نفسه بقلب الموت والسواد دون أي ذنب؟!

فأجيبها ورأسها على كتفي ويدي تمسّد شعرها المنسدل الناعم:

- من فعل بالآخر يا معبودتي.. أنا أم أنت؟!

ألا ترين كيف روّضت انفعالاتي وقدتني راضيا لسكينتي، وساعدتني للمضي معاً نحو هدفنا الواحد وأحلامنا المشتركة، وأضأتِ على مهاراتٍ ما كنت آبه لها لولا ملاحظاتك وعين البصيرة فيك؟!

تضحك ريتا وتغمز لي:

- كم يطيب لنا في الحبّ أن نعيد الكثير من العبارات والأفكار وحتى الأحداث ككلّ عاشقين دون أن نحسّ بالملل، بل ويبدو لنا أننا نقولها للمرّة الأولى.

- السبب بسيط جداً.. هو أنها تقال كلّ مرّة بإحساس مختلف ولسبب آخر ومن وحي حال مغاير، فتبقى شعلة الحب في اتّقاد ولا تخمد نار العشق حتى في شدّة القرب.

أقولها وأنا أقرّبها من قلبي أكثر وأحيطها بذراعيّ، فتبتسم في غنج هامسة:

- حاذر أن تكسر ضلوعي وأنتَ تضمّني شوقاً.. فأنتَ الساكن فيها.

ثم يمضي الوقت ونحن بين الصحو والغفوة غارقان في عالمنا الأثيري الخاصّ الذي لا يشاركنا فيه روح ثالثة، أنا وريتا التي..

"أحببتُها" منذ الأزل.. "وتحبّني" إلى أبد الآبدين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

View thanaa_darwish's Full Portfolio