بين البطل والكاتبة
استيقظتِ الكاتبة مفزوعة ليلة أمس، تلهث كمطارد في وحشة غابة، بعد أن استُنفِذتْ طاقتها في كتابة الفصلين الأول والثاني من روايتها "حصرم الألم".
تملّكها رعب قاتل، حسبتْ معه خشخشة أوراق الشجر خارجاً قعقعة أسلحة، وأن باب بيتها سيخلع بين لحظة وأخرى من قبل الحُماة أو أولي الأمر، ولن تحتاج تصفيتها لإقامة محكمة شرعية ما دام دليل إدانتها موجوداً وبخطّ يدها.
أحسّتْ فجأة أن روحي باعتباري بطل روايتها تلبّستها بكلّ مخاوفي القديمة ونسيتْ تفاصيل حياتها وكيف أصبحتْ كاتبة ولمَ اختارتْ هذا العنوان لروايتها.
لم تعد تذكر إلّا ليالي سجني السوداء، والظلم الذي لحق بي، وأساليب التحقيق الرهيبة، وسهولة تلفيق التّهم او إطلاق المسمّيات عند كلّ مقتدر، فاعترتْها رجفة من رأسها حتى أخمص قدميها وأمسكتْ بالورق بسرعة، وراحتْ تمحو السطور التي تدينها، فيما لو طبعتْ روايتها أو تسرّبتْ كمنشوراتٍ سرّية.
وحين أعادتْ قراءة الفصول بصيغتها الجديدة، بدت كمسوخ، أو كسيناريوهاتٍ أبدع باختزالها مقصّ الرقابة، فصارت بلا طعم ولا لون ولا رائحة، وأشبه ما تكون بقصّة قصيرة جدّاً لكاتب مبتدئ.
أحسّتْ بحموضة الألم الذي تكتب عنه عالقة في حلقها، وعبثاً أخذتْ تتجرّع الماء للخلاص منها،
ثمّ غطّت وجهها براحتيها وراحتْ تنتحب كطفلة وحيدة في ظلمة مغلقة.
على الكرسيّ المقابل أطلّ وجه أليف تعرفه، تعرفه جيداً كأنه ظلّها.... كان وجهي.
أزحتُ راحتيها عن وجهها ومسحتُ بكفّي دموعها وابتسمتُ لها مشفقاً ومططتُ الحروف كأنّها نزع روح وأنا أهمس لها:
-
أهون ألف مرّة أن تمزّقيني وتمحقيني كأنك ما خلقتني من أن تقوّليني مالم أقل، أو تجتزئي من أقوالي جملاً عائمة، لا تروي غليلاً ولا ترقى بذائقة، مهما كانتْ دوافعك لفعل ذلك.
-
كذلك عزيز عليّ أن أفعل، ومتى كان حلم الكاتب أن ينجب أجنّة مشوّهة أو قبل تمام أشهر الحمل؟!
ثمّ أنّي لستُ من كتب بل أنتَ.. أم تراك نسيتَ؟!
أنتَ من أخذني من يدي وأدخلني عوالمه، وكنتُ قد انتهيتُ للتوّ من قصّة قصيرة ساخرة، فلم تمهلني لأستمتع بالراحة التي يهبها الأدب الساخر كتابة أو قراءة، ودفعتني لأكون ترجمان ألمك ورؤاك.
أنتَ الفاعل بي وأنا المفعول، وليس للأديب حرّية أن ينطق على هواه؟!
-
قولي لهم إذاً الحقيقة..
قولي لهم أنّ الكاتب لسان حال الجميع..
هو الجلّاد والضحيّة
هو القدّيس والخاطئ
هو الشعب والحاكم
هو لا متناهي الحالات والصفات والأسماء، رغم أنه ما من حال يدوم ولا صفة تبقى كما هي.
قولي لهم لا خوف من الضوء إلا لنفوس مظلمة.
- قلتها ألف مرة ولم يصدّقوني،
إن وعي هذه الحقيقة يحتاج لثورة فكريّة حقيقية تمنح الكاتب حقّ الشطح والتقمّص دون مقصّ رقابة.
ذلك المقصّ الذي يبتر أجنحة الخلق والإبداع، ويغلق سماوات الخيال ويحبس القلم في حصرم ألمه.
إنّ كلّ كلمة لا تروقهم أو تخالف مناهجهم تعتبر فتنة نائمة ملعون من يوقظها، ويستوجب إقامة الحدّ عليه ولو بالقتل.
ثمّ انظر كيف يقتطعون أقوالاً لأبطالي نطقوا بها في حواراتهم أو خلال سرد حياتهم، ويضعون اسمي تحتها كنوع من التكريم، وما أنا القائل بل شخوصي وقد قالوا ما قالوه في سياقه لا كأمر قطعيّ أو معتقد دائم، وكم كانوا يأخذوني مرّات كثيرة بعيداً عما خطّطتُ ورسمتُ.
- ادفعي إذاً ولو مرّة ضريبة استعباد الكلمة الحرّة لك، ودعيني أكون بطلاً حقّاً لا كومبارساً على بياض صفحاتك...
فللحبر أن يضيء آن تحرّر مارد الخوف من قمقمه.
وكفّي عن ترداد قول بطل كازانتزاكس في المسيح يصلب من جديد:
"لا جدوى يا يسوع لا جدوى"
فلولا الكلمة ما قامتْ قيامة ولا ابتدأ من بعد الموات عهد جديد.
أو قومي واحرقي أقوالي وكلّ ما أمليتُه عليك، واحرقي معها حلمي في أن تعتّق الشمس حصرمي ليصير عنباً شهيّاً وخمراً جليّاً، فهذا التحوّل كما يعلم كلانا لم يحدث يوماً في أقبية العتم الخانقة؟!
تراكِ يا مبدعتي "يا حضرة الأديبة" تتقمّصين هواجسي ورهاب الأقوى والأعلى؟!
أم أنّ الخوف هو طاعون هذه الأمّة المستشري والمعدي ولو عبر النظرة والكلمة الطاعن في القِدم المتجذّر في النفوس؟!
مسكينة أنتِ يا صديقتي الأديبة، رغم الحبوب المهدّئة كنتُ أرقب تقلّبك في فراشك وأنفاسك غير المنتظمة.
وكم وددتُ لو أنهض عن الكرسيّ الذي تركتني عليه وأغادرك إلى غير رجعة، لأكتشف فجأة خيوطاً شبحيّة تربطني وإيّاك لا ينفع لقطعها مقاومة ولا استبسال.
هكذا أمسكتُ يد الإبداع بين كفيّ كتعبير عن مصيرنا المشترك، لعلّ الدفء يهبنا معاً طمأنينة واهمة.
عيناي تجوبان الفراغ بحثاً عن جواب شافٍ لسؤالي الأزليّ، عن دوافع الكتابة والتدوين، وأزن بميزاني ما جرّتِ الكتابة واللغة عموماً على البشرية من ويلات، مقابل ثورة حضاريّة وإبداعيّة.. فيخونني الميزان كلّ مرّة دون أن أقدر أن أنحاز لكفّة دون أخرى.
يا حصرم الألم ترفّق بي، فعقلي عاجز عن فهم ما أقرأ من كشوفات رهيبة على الرقوق وورق البردي والألواح الأوغاريتية، والتي تقلب الموازين رأساً على عقب.
كلّ ما فيها يجعلني أقهقه لمسرحية مضحكة فصولها دمويّة سوداء.
لقد ضحكوا علينا يا سيدتي، وبرعتِ اللغة عبر تناقلها في التمويه، لنصير عبيد النصّ.
كلّنا ضحايا التدوين وحتى المشافهة من فم لأذن عبر القرون.
انهضي أيتها الأديبة.. واكتبيني بطلاً...
لكن حذاري.. حذاري
من أن تصبح أقوالي في روايتك بعد ألف عام مقدّسةً، وعلى أساسها تبنى أوهام جديدة؟!
أغمضتِ الكاتبة عينيها بعد مساررتنا، وأحسستُ كم أراحتها كلماتي فنامتْ فوراً، وغفوتُ أنا في خيالها بعيداً عن شياطين البشر وفنون شرورهم وجحيم أفكارهم، نحلّق معاً في عالم نقيّ من الجمال والحرّية.
وحين تسلّلتْ أشعة الشمس من خلف الستائر، استيقظتْ الكاتبة لتستقبل الصباح بطاقة عالية وقد قهرتْ هواجس ليلة امس ووساوس الخوف المتوارث، وأشباح حرّاس الأنفاس، وجلستْ إلى مكتبها تعيد كتابة ما محته بثقة أن الكلمة هي السلطة العليا ولها المجد .. لأنه "في البدء كانتِ الكلمة".