"٤"
عدتُ إلى وطني حاملاً شهادة تخرّجي كفنّان ممتلئاً بالنعمة والغبطة، ليس ابتهاجاً بتحصيلي العلميّ فقط، وإنما ليقيني حينها أنّ الله كان معي وعبر بي وحيداً ضيق المعبر وظلمته وقوّاني لأتجاوز محنتي، وهنا المفارقة الطريفة لشابّ عائد من بلد علمانيّ، آخر همّ سكّانه أمور الغيب والسماء؟!
غادرتُ تلك البلاد الجميلة التي أحببتها بكلّ معالمها الحضارية ولفتاتها الإنسانية، والتي طالما تمنّيتُ أن تكون مستقرّي ما بقي من عمري قبل الظلم الذي لحق بي فيها، حيث صار همّي أن أعود للوطن، لأنه ظلّ يعني لي دفء أهلي وحارتي وذكرياتِ طفولتي، وما كنتُ أعلم أن الوطن ما عاد وطناً إلا وأنا أرى صور الدمار في طريق عودتي من المطار للعاصمة ثم من العاصمة لبلدتي.
أحياء بأكملها صارتْ أكوام حجارة وساوتِ الأرض، جفّتْ دماء قاطنيها وخفت عويل نسائها وصراخ أطفالها حتى تلاشى، وأنا أسأل سائق السيارة أسئلة متلاحقة ثمّ لا أصغي لأجوبته التي لا تطفئ احتراق روحي، لم يكن يعنيني في تلك اللحظة من الظالم ومن المظلوم، من الجاني ومن المجني عليه، فالحرب بنت كلب وطاحون تطحن الكلّ برحاها والكلّ في النهاية قشّ تذروه الرياح، وحده من يتاجر حتى بلقمة عيش هذا الشعب المسكين يفوز ببرِّها ويتنعّم بتبرِها!
بقيتُ زمناً بعد خروجي من السجن الذي رأيته إعجازاً إلهياً أعيش بإحساس الوصل مع الله، حيثما خطوتُ وكيفما نطقتُ أو استمعتُ ألقى إشارة منه، يخاطبني بها على لسان البشر وينطق بها حتى الحجر، فإذا غفوتُ لاحقتني الرؤى والكشوفاتُ، وأنا بين سعادة الكشف وثقل الحقيقة، ووهم خصوصيّتي بعين الله، خاصة حين تتحقّق الرؤيا بحرفيّتها أو أتنبّأ بأمر ويحدث، وأنا وسط دهشتي وذهولي التي مهما برع العقل في التحليل لا يجد جواباً منطقياً أو علمياً لها.
ولطالما حاولتُ أن أقصّ بعد عودتي لأرض الوطن طرفاً مما يحدث معي لأهلي أو لأصدقائي فيتلعثم لساني وتقصر الكلمات عن ترجمة هول الحقيقة التي كنتُ أراها بل وألمسها، ويزيد ألمي أن يقابل احتراقي بالبرود أو اللا مبالاة، حينها أنكفئ من جديد على نفسي وأندم على البوح، وأعود لأحيا سرّانية التجربة واجداً لهم ألف عذر، متيقّناً أن طريقي لي وحدي، وتجربتي لا تخصّ سواي.
ثم بدأتُ أميل للصمت لعجزي عن إيصال ما أراه، ولي من عبارة النفريّ مستنداً أتّكئ عليه:
"كلما اتّسعتِ الرؤية ضاقتِ العبارة"
خاصّة وأن البلد كانتْ لا تزال تحت وطأة الحرب وتداعياتها، والناس تشكو العوز في أبسط متطلّبات الحياة ولا تعنيها الغيبيات أمام غياب حقوقها الإنسانية، وكنتُ ألمح حتى في صمتي نظراتِ الشفقة في عيون أقرب الناس لي وأحيانا قد تصل للاستنكار، فقد كنتُ أبدو لهم منسلخاً عن الواقع غير متوازن، مهووساً بالما ورائيات، حيث لكلّ أمر ولو كان تافهاً غاية، بينما كان عليّ أن أنظر للأرض لا للسماء، وأرى ما يمكن أن أفعله لي ولأسرتي للمساعدة في تدبّر أمور المعيشة.
بعد مدّة قصيرة بحساب الزمن، طويلة بكثافة ما اختبرتُ، أرهقني الحال الذي وجدتُ نفسي عالقاً به كأنه برزخ بين الأرض والسماء، خاصّة أني صرت أحيا في مدارات كشفي أكثر مما أحيا مع حواسي وتفاصيل حياتي.. وكأنني شبح، أؤوّل رؤاي على هواي، وأعتمد عليها في الكثير من قراراتي أو انطباعاتي بعقل يجيد الربط بطريقة مذهلة.
وكثيراً ما كنتُ أقف عند سؤال لا أدري إن كنتُ أسأله لنفسي أم هي من تفعل:
"هل أنا أجذب الرؤى لأني أدمنتُ الدهشة والذهول الذي أحياه ولا أفهمه؟! أم الرؤى تجذبني إليها لشفافية هالتي الأثيريّة ولأنها رأت كم لديّ استعداد واحتراق لخرق السبع الطِّباق على براق الشوق، حيث لكلّ منا إسراؤه ومعراجه؟!"
ثم في لحظة قوّة قرّرتُ أن أغادر مدار الرؤى رغم جماليّته وأعود للأرض، وذلك أمرّ عجز عنه الكثيرون ممن صارتِ الكشوفات دليلهم ومنهجهم والرسالة الأصدق لترجمتها لواقع وسلوك.
بإرادتي الحرّة قلت للرؤى وداعاً جدي لك غرّاً غيري، فكلّ ما رأيتُه لم يزدني إلا جهلاً بالكون والوجود والخالق، لكن شتّان بين ما قبل الاختبار وما بعده.
وتزامن قراري هذا مع انشغالي بتدريس مادة الفنون في إحدى مدارس بلدتي، ثمّ بتأسيس مرسمي الخاصّ ودخولي الحياة العمليّة من أنظف أبوابها.. باب الفنّ.
وعدتُ لأحيا بشكل طبيعيّ متصالحاً مع بشريّتي بكلّ ما فيها من نزوات وأخطاء، متحفّظاً عن البوح باستنتاجاتي بعد رحلتي وتفاصيل وصولاتي مع العرفان، خشية أن تصبح كتاباتي هنا مَعْلماً يمضي على أثره سواي، فمن أنا لأقطع أو أبتّ بأمر الغيب مهما عظُمتْ خبرتي الروحيّة فيه!
نسيتُ او تناسيتُ سنواتِ الألم والتيه، وامتلأتُ بيقين أن الحياة التي تعتبرني ابنها لا تريد مني الا أن أكون بارّاً بها محقّقاً لإنسانيّتي ما استطعت لذلك سبيلاً، وأنه اذا كان لي رسالة يجب عليّ أداؤها فستكون عبر الفنّ دون وصاية او إملاء من مخلوق، فالفنون هي مرآة الحياة الأسمى والأصدق وعبرها نخلق عالماً موازياً حين نعجز أن نحياه في ضيق الواقع.
وهكذا أفرغتُ ذهني من الماضي لأحيا ألق واندفاع اللحظة غافلاً عما سيأتي ناسياً ما قد مضى، ورحتُ أهيّئ مرسمي وفق الظروف المتاحة كما أحلم به، في بلدتي الهادئة التي بقيتْ طوال فترة الحرب تحرص على أن تظلّ وحدة أطياف في وجه المدّ الطائفيّ وتمادي الفساد.
وقد كانتْ بطولة فعلاً آنذاك ان يحافظ أحدنا على توازنه أمام اندحار القيم الإنسانية في حرب قتلتْ كلّ ما هو سام وجميل ، لكنّه كان الخيار الأصعب، فإما الانسياق مع التيار المودي للإفلاس المعنويّ والماديّ، وإما التشبّث لآخر لحظة بقيمتنا كبشر لا "كقطيع" او "كوحوش".