قراءات قراءات قراءات سَفر في سِفر منطق الطير لفريد الدين العطار " لقد اجتاز العطار مدن الحبِّ السبع، بينما لا أزال أنا في الزاوية من ممرٍّ ضيق" " جلال الدين الرومي " من جديد يوقعني العشقُ في شراكه …….. ومن جديد يفيض عشقي حروفاً تأتلف في كلماتٍ ، تفضح أمري وسرّي . ما أعجبه …. يأتيني من أبوابٍ متفرقة ، متلبّساً كل حين باسم ورسم ، فأكشفه وأعرفه . يغريني ويغويني بحَبّه، فإذا اليمامة قبض يمينه طوعاً واختيارا ، موسومة برقّ حُبّه . ويتساءلون : ما بالها !!؟؟ بالأمس كان معشوقها الروميّ ، والآن العطار لها ربٌّ وحبيب . أتبدّل الأحباب والأرباب ، كما تبدّل الثياب ؟؟ ولا عهدٌ عندها ولا ميثاق ؟؟ معذورون .. من أطّروا أنفسهم بحدود الصورة والاسم ، ولم يروا إلا التعدد والكثرة في عالم الأضداد والهويّات . أما العاشق الناظر من علٍ ، من صار فوق النفي والإثبات ، فلا يرى الوجود إلا وحدة جامعة ، وأهل الله وجه واحداً وروحاً واحدة ، وإن تعددت أشكالهم ورسومهم ، أسماؤهم وهوياتهم ، أزمنتهم وأمكنتهم . فالروميّ هو العطار ، و المنبع الأصلي يفيض على الجميع ، كلٌ حسب قابليته واستعداده ، فتعيه قلوب واعية ، ليتمظهر الفيض إبداعا وخلقا آخر ، فتبارك الله أحسن الخالقين . والعاشق الحقّ هو من تعلق بالثابت الذي لا يتلون ولا يتغير ، مترفعا عن عشق الصور . فيا أيها البلبل المتعلق بالوردة " يا من تعلقت بالصورة ، لا تتباه أكثر من ذلك بعشق الجميلة … وعشق شيء مآله الزوال يصيب العقلاء بالضجر والملل " وأنت أيتها الحجلة الجبلية الشغوفة بالجوهر " ما أصل الجوهر إلا حجر اصطبغ بلون ، وإذا تلاشى لون الجوهر ، عاد حجراً " فكونوا من أهل المعنى لا الصورة لأن " أهل الصورة غرقى بحر كلامي ، وأهل المعنى رجال أسراري " ويا قارئ العشق متى كانت تهمّك الأوصاف ، وما يلوح على أنه اختلاف ، بل وحدك ترحل أبداً عبر الحروف إلى عالم المعاني الرحب اللامتناهي ، سواء كان الكاتب زيدا أو عمرا ، أنثى أو ذكرا . فانظر إلى معناي تحاول أن تترجمه حروفي ، أي حال بات حالي من عشق عطار : .." نثر نافجة المسك المليئة بالأسرار ، على هذا العالم في كلّ آونة " .. فأوقع قلبي في هواه ، وإذا بالهوى هواء أتنشقه من معاني الصور الملوّنة في إبداع قلّ نظيره ، وإذا بالهواء حياة وخلود . في سِفر وسَفر روحيّ ، لا حسابات للزمان والمكان فيه . سفَر وسِفر كأنه مثنوي الرومي حين سمّاه ” قرآن السالكين ” ، فهاهو العطار يطلق أيضاً ما يشابه ذلك على منطق طيره ، وما زهوّاً ما ترسمه الكلمات ، بل تقرير واقع ، وهاهي القرون المتوالية ، تثبت حقيقة ما أكّده : " هذا الكتاب حلية الأيام ، وفيه نصيب للخاص والعام ، ومن يشبه الثلج ويطلع على هذا الكتاب ، يخرج كالنار متقداً من خلف الحجاب ، ونظمي يتسم بميزة عجيبة ، إذ يولد في كلّ آونة معاني جديدة …….. وإلى يوم القيامة لن يكتب إنسان قط كلاماً مثل كلامي أنا الولهان ، فقد نثرت الدرّ من بحر الحقيقة ، كما ختم الكلام علي ، وهذه هي الوثيقة " فامض معي ، يا قارئ العشق ، نستجلي أسرار تلك الوثيقة ، واعجبْ لطفلة ، أربكها العشق , فهمّت لحظة أن تعود عن درب يأنس سالكوه بالنار ، ولا يقرّ لهم قرار ، وقد آلوا أن يجعلوا الأرواح على الدرب نثار . لولا أن يأتيها وحي أن " الأطفال وحدهم يرشدون باكراً " فتلبس خرقة التصوّف ، وتشمر عن ساعد العزم ، وتخوض نيرانه بقلب كسّر الأقفال ، وجلى صدأ الموروث والمعتاد ، تدفعه الهمّة وترفعه ، فيخفّ ويشفّ ، ولولا نظرة وجذبة من معشوقه ومولاه ، لأقعدته وحشة الطريق ، وأرجعته عن مبتغاه . وما الجذبة إلا منحة إلهية يهبها الله لمن أراد من عباده ، ينطق بها عطاري ، على لسان الهدهد حين سأله أحد الطيور ، بماذا استحق عليهم السبق رغم أنه يشبههم : " أيها الطائر ، كان سليمان يديم النظر إلي في كلّ أوان ، وما حصلت على ذلك بذهب وفضة , وإنما تتأتى هذه المكانة من نظرة واحدة ……. فاقض العمر كله في طاعة ، حتى تحظى من سليمان بنظرة " . فماذا فعلت يا العطار بقلبي ، حتى احترف العشق ، وراح يتعرّى من هوّياته وهواياته . وكالفراشة راح يجذبها النور رغبا ، وتقصيها النار رهبا ، وحين تساوى القرب والبعد عندها ، اختارت الفناء فيه لتبقى ، فخرّت ساجدة على أعتابه ، خشية وخشوعا ، سيما وجهها ، احتراق الجناح ، ونثرها الروح ، شوقا للاتحاد بنور ذاك المصباح . وما حنين اليمامة إلا حنين سائر الطيور لمن " اسمه السيمرغ ملك الطيور ،وهو منا قريب ، ونحن منه جد بعيدين ، مقره يعلو شجرة عظيمة الارتفاع ، ولا يكف أي لسان عن ترديد اسمه ، تكتنفه مئات الألوف من الحجب ، بعضها من نور ، وبعضها من ظلمة ، وليس لفرد في كلا العالمين مقدرة حتى يحيط بشيء من كنهه ، إنه الملك المطلق ، المستغرق دائما في كمال العز ، ولكن كيف يطير الفهم إلى حيث يوجد " فافردْ جناحَك يا شوق ، واحتملني ، إلى جبل قاف حيث عنقاء الوجود . وكن لي يا عشقُ البراق ، أرتقي به السبع الطباقَ ، علّي ألتقي السيمرغ الذي عزّ لقاءه . لقد أشعل العطارُ النار بين جوانحي ، وما فتئ لسنين خلت ، يزكيها ، وكلما عدت إليه أستنطق طيوره ، في ” منطق الطير ” أجج لهفتي وزادني توقاً ، لحبيب تغنّت به القلوب العاشقة ، وما يوماً قدرت أن تحدّه أو تعدّه ، تحصره أو تصوره . لأنه هو .. هو .. المجرّد عن الهويّات والتشبيهات ، المتفرد بذاته لذاته ، الأحد الفرد الصمد ، من أوقع الفهم في شباك الحيرة والارتباك ، فما درت رأسا من قدم . وتسع وتسعون اسما له ، علّمها آدم ليدلّ المثل على الممثول ، فأقعد العجز أكبر العقول ، وهو يحيلها إلى مقولة من قال : " اعرف الله بالله لا بأثر من آثاره " . لتراه " منه .. به .. إليه " أشيعيّ كان العطار أم سنّيّ ومن جديد يلجون دوامة السؤال ، وتيه الأسئلة ما له قرار ، فالسؤال لا يفتأ يلد السؤال ، فلا يُروى الغليل ولا يرتاح بال . ” أشيعياًّ كان ذلك العطار أم سنّيّاً ؟؟؟ ” يمحّصون ويدققون ، علهم على علامة يعثرون ، أو إشارة تؤكد ما يزعمون ، يريدون أن يعود التاريخ من جديد مقصلة تجزّ الرقاب ، فيعودون بخفيّ حنين ، حين يأتي الجواب منه لكل من ألقى السمع وهو شهيد ، بأن يختار لكتابه الابتداء بالثناء ، على المصطفى المختار والصحابة الأبرار ،" الأركان الأربعة لكعبة الصدق والصفا "كل على حدة ، فأبو بكر رفيق الغار ، وعمر الفاروق ، وعثمان ذو النورين ، وعلي الفتى النائم في فراشه ، وسيفه ذو الفقار . ليختم قائلا بعد أن يعدد مناقبهم على لسان رابعة التي سألها سائل ، ماذا تقول في صحابة الرسول " إن كنت لا أعرف عن خالق البشر أي سرّ ، فكيف أستطيع الإدلاء عن الصحابة بأي خبر ؟ وإن لم أفن الروح والقلب في الحق ، فلن أكون لحظة مهتمة بالخلق ، وكم أصابت أشواك الطريق عيني ، فسالت منها الدماء وأنا في غفلة ، ومن أصابته مثل هذه الآلام ، كيف يجول بقلبه اهتمام بأي رجل أو امرأة ، وإن كنت لا أعرف من أنا ،فكيف أعرف الآخرين بالقياس ؟ ثم يستطرد ناطقاً بالحق : ” أنت في هذا الطريق لست إلهاً ولا رسولاً ، فاغلل يدك عن هذا الرد والقبول ، وتطهّر من التبرأ والتولي ، وكن عبداً مطيعاً في هذا الطريق ، وما دمت حفنة من تراب ، فتحدث عن التراب ، واعتبر الجميع أطهاراً ، ولتطهّر قولك " . كأنها رسالة إلى هذا العالم المظلم ، تقول أن العرفان لا علاقة له بالمذاهب والأديان ، ولا بالملل والنحل، ولا بالكفر والإيمان . فالعشق على طريقة حافظ الشيرازي : " ملّة خالصة .. ليس في العشق كفر ولا إيمان " . وعلى ذات الطريقة يراه العطار : " أعلى مكانة من الإيمان والكفر ، وأي شأن للعاشقين مع الجسد والروح ؟ كل من له قدم في العشق راسخة ، قد تخطى الكفر والإسلام معاً ، العشق يفتح لك بابا نحو الفقر ، والفقر يظهر لك طريقاً صوب الكفر ، وللعشق قرابة بكفرك ، وكفرك هو لب فقرك ، وإن ضاع منك الكفر والإيمان ؛ فمعنى هذا أن جسدك قد فني وأن روحك قد فاضت . " الطير كرمز : ثم عادوا وقالوا : لم يكن العطّار مبدعا وخالقا ، بل ناقلاً ، وطيوره مستعارة من ” رسالة الطير “لابن سينا ، و” رسالة الطير ” للغزالي . كما يبدو تأثره جليّا ” برسالة الغفران ” للمعرّي ، و” سير العباد إلى المعاد ” لسنائي . وأيّ عيب في التأثر ؟؟ وهل الخلق إلا نتاج لقاح ، فتنصهر الأفكار والخيالات ، ويتمخض خض اللبن عن الزبدة . إلا أني أرى الطير ، عند مولاي العطار ، كما عند أهل الحقّ جميعاً ، رمز لحقائق الطريقة . تأمل أصناف حضورها التي لا تعد ، أشكالها ، ألوانها ، قواها ، طيرانها ، تلاقحها ، ……… ثم عد وتأمل ما فيها من جوامع الصفات ، كالحب والسلام والشفافية والفوقية …. أبصرها الجوّ بين الأرض والسماء ، و صلة الوصل بينهما ، آخذة واهبة . بما يتيحه تجوالها الفضائي ، من إمكانية الاطلاع , والرؤية الشمولية من عل ، فاعلة بعد أن كانت منفعلة . فيا لها من طيور نالت هذه المكانة العالية استحقاقا ، لتكون مسخّرة في الجو ، لما أرادت . لأنها لما أرادت سارت ، وبعد أن سارت طارت ، بالزغب ينبت على جناحيها ريشاً يحلّق بها إلى الأعلى ، متخلصة من الالتصاق بالأرض . فإذا بها حاضرة وإذا السيمرغ أو عتقاء المغرب رمز لربها ، الحقيقة الجامعة الغيبية العظيمة . نفوس ، انعتقت من رقّ الجسد وسجنه ، وطارت بجناحي التضاد على التساوي فوق الأرض ،لا تعود إليها إلا لمأكل أو مشرب ، أو تناكح ، أو لتموت . نفوس تخطت مسالك الأوهام محلقة بجناحي طرفي الصفة المتقابلين كالخوف والرجاء ، أو التوكل والتسليم ، في طريقها لتخطي التكليف إلا الهدهد الذي اختار تكليفه. فليكن عطاري خالقا أو ناقلا ، يكفيه أنه بقي خالدا على مدى الأيام ، ويكفيني أنني اتحدت معه عاشقا ومعشوقا ، نجسد رقصة العشق على بحر الرمل : فاعلاتن فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن وإذا أبيات شعره التي أوشكت أن تقارب الخمسة آلاف ، بيت عشق واحد يضمني وإياه ، كأنه قباء أهل النور . ****** أيها الهدهد الهادي ، العليم الخبير . ما أندر رؤيتك وما أصعب تحصيلك ، مذ قلّ ارتباطك بالأرض يا من أوقعت قلبي في غيهب التفاف هائك .. مذ رأيتك في حضرة سليمان ، مودع سرّه ، وحامل أمانته .تدرك الماء في باطن الأرض ، وما أحسبك إلا قد أدركت مائي . كم جميل أنك استفدت من خطيئتك الأولى ، وأخبرت مولاك وربّك بالسرّ ، بدل إفشائه للآخرين ، وإلا لكنت مطرودا ملعونا بدل أن تكون من المقربين ………………………………. حققت في مدار الرؤية وكلفت نفسك بالتقصي والمعرفة ، فصرت محط التكليف والحساب . ناديتني فأتيت ، لتكون على القلب حاكماً ، تأمر فأطيع ، لأنك المرشد والدليل ، ومعك أبدا لا أضلّ السبيل ، وكيف أضلّ وأنت قبلاً قد خبرت الطريق ، وعدت لتصحبنا وتكون لنا نعم الرفيق . مرتدياً حلة الطريقة ومتوجاً بتاج الحقيقة ، منقوش اسم الله على منقارك ، لا يقر لك قرار ، طلباً لمن ارتضى أن يقدم الروح نثارا ، فداء للمعشوق الأحد . فإن قلتَ بإخلاء القلب فعلتُ ، وإن طلبتَ الأدبَ شرطاً أولاً للسالك تأدبتُ . وها إني اليمامة ، أوصلها الشوق إلى محفلك ، لتجد فيه آلاف الطيور ، توّاقة مثلها للقاء " السيمرغ " الذي عزّ لقاؤه . أتتك وقد عرفت نعمة الاختيار ، وحضرت إليك ، يا مريد الحضرة ورسول الغيب ، مع كلّ هذه الطيور ، المعروف منها وغير المعروف ، ولن تسمع منها ما قدمته بعض الطيور كالبلبل ، البومة ، البطة ، ……… من واهي الأعذار ، لأنها ما جاءت إلا بعد أن سمعت طويلاً عن مصاعب الطريق والأخطار . واعذر أعذارها يا مولاي ، فأنت أدرى أن في الطريق أفعال لابد منها من عذر ، لأنها ظاهرا مخالفة للمتعارف عليه ، فتلجأ إليها هربا من تأنيب العقل ضمن منظومة قهرية ، فتطير في الآفاق بحرية اكبر . وربما أعذارها لبقايا تعلقات لها في الأرض ، فكن المعين لها في قطع آخر العلائق والعوائق . وما أبدعها من صدفة مقصودة ، أن تقع القرعة عليك ، لتكون هادينا ومرشدنا ، وما أبرعك في الردّ على أعذار الطيور ، تدحضها جميعاً بالحجّة القلبية القاطعة . والحجّة ينطق بها القلب ، فتندرج على اللسان حكاية إثر حكاية …. من أين للعطار كل هذه الحكايا، وكيف نفخ الروح فيها فإذا بها بألف جناح . سرّ الحكايا هذه الذي علّمه يوماً تلميذه الرومي ، فمضى على ذات النهج . ربما ليقينه ، أن الحكاية أقرب للتمثل في الذهن ، وخطاب جماعي ، كأحسن قصص القرآن . وربما لأن الحكاية ذات أوجه ، كيفما قلّبتها تريك تأويلاً ، فإذا الخيال ملاك ذو أجنحة ، يحملنا نحو الحقيقة و وإذا وراء كلّ هذه التأويلات أوله . فكيف لا أجثو على ركبتيّ ، وكلّي آذان صاغية ، لكلّ حكاية منه ، يختار لها الموقع المناسب , ويعقّب عليها ، بروح مفرداته الواحدة ، بينما تحفّز عندي ، أن أرى بها أشياء أخرى ، ما خطّها يراعه ولا سال بها مداده ، رغم أنها فيّاضة عنده ، مولاي جامع الكلم الطيّب . وأبطال حكاياته على تنوعهم واختلاف أجناسهم ، ينطقهم بما يريد ، ويسوقهم إلى ما أراد لهم ، فيبلغ متنشق أنسامه ، الغاية من كل هذا السِفر ، فما الكتابة كما يراها أهل التصوّف والعرفان ,إلا قراءة لحظية للوجود ، وهي ليست غاية بحد ذاتها ، بل هي أداة لازمة ، نحتاجها لنلبس المجرد ثوب الحواس ،وعبر تجسده يصير قابلا للفهم ، والتمثل في ذهن ابن الطين المعتاد على المحسوس واللغة . ومن تمام الإبداع أن يتجسد هذا السفر سلوكاً ، نمضي به إلى الكمال ، ولا نطاله . مائة وثمانون حكاية ،تتفاوت في الطول لتبلغ أوجها في قصة الشيخ صنعان ، التي أفرد لها ما ينيف عن الأربعمائة بيت ، ليقدم لنا رائعة من روائع العشق ، الذي خلع أثواب الكفر والإيمان . قصة الشيخ صنعان فالشيخ صنعان الصالح التقيّ ، المعتكف في الحرم خمسين عاما ، مع مريديه الكثر ، والماسك لزمام الكشف والسر ، وقد بلغ عالي المقامات ، وشهد له الخلق بأعجب الكرامات ، حياته صوم وصلاة وحج وزكاة ، ورياضة روحية ليلا ونهارا ، صار معها قدوة لكل سالك ومريد . رأى هذا الشيخ في منامه لليال متعددة ، أنه رحل عن الحرم ، واستقر في بلاد الروم ، وأنه للأصنام دائم السجود . فانقاد لما أراده الناموس، مشمّرا عن ساقه ، وخائضا نار تجربته الصعبة " فإن يتغلب على عقبته , ينكشف الطريق امامه إلى نهايته " . وهكذا سار وأربعمائة مريد من الكعبة إلى بلاد الروم ، مطوفين في أرجائها ، إلى أن وقعت عيونهم على فتاة تجلس على سطح بناء شاهق . فتاة مسيحية كأنها نفخة من روح الله ، " أشرقت كالشمس في فلك الحسن ، واستقرت في برج الجمال المنزّه عن النقصان " وللحال تعلق بها قلب الشيخ صنعان ،فساد الاضطراب مريديه ، وراحوا يبذلون له النصح دون جدوى ، فقد أصبحت خلوة الشيخ محلة الحبيب . وحين رأت الفتاة تعلق الشيخ بها ، عرضت عليه شروطها : السجود أمام الصنم ، وإحراق القرآن ، وشرب الخمر ، والبعد عن الإيمان . وابتدأ بشرب الخمر ، فسيطر عليه العشق ، ووافق على أن يكون مسيحيا ، وأحرق الخرقة ، ثم عرض على الفتاة الاقتران بها ، فاشترطت أن يكون صداقها خدمة الخنازير عاماً كاملاً . فقبل الشيخ . أما مريدوه فقد تملكهم الغم ، فعادوا مجللين بالخزي والفضيحة ، إلى الكعبة . وهناك التقوا بصديق للشيخ ، أخبروه بالقصة ، فحزن حزنا شديدا ، وقرر السفر مع المريدين إلى بلاد الروم للحاق بالشيخ ، وواصلوا التضرع والتشفع أربعين ليلة ، فاستجاب الله لتضرعهم ، وذات ليلة رأى أحد المريدين الرسول عليه السلام في نومه ، فطلب منه الشفاعة للشيخ عند الله ، فتشفع له الرسول الكريم ، فتخلى الشيخ عن زنار المسيحية ، ولبس الخرقة وعاد الجميع إلى مكة ثانية . بعد رحيله رأت الفتاة في نومها أن الشمس قد سقطت بجانبها وطلبت منها الإسراع صوب شيخها ، فأسرعت خلف الشيخ حتى وصلت الحجاز ، فاضطرب الشيخ لقدومها ولكنها طلبت منه أن يعرض عليها الإسلام ، وما أن أسلمت حتى أسلمت روحها . وإذ أطلق العنان لقلبي ليقرأ ، أرى الشيخ صنعان يشترك ويوسف عليه السلام بأمرين : أولهما اشتراك كليهما بالرؤيا وتحققها فيما بعد . وثانيهما خوض كليهما نار التجربة . فيوسف كان قد رأى يوما ، حين كان صغيرا ، الشمس والقمر وإحدى عشر كوكبا يسجدون له . وحين قصّ رؤياه على أبيه يعقوب ، حذّره من أن يقصص رؤياه على أخوته فيكيدون له كيدا . وفعلا تمر السنين ويصير يوسف هو العزيز ويعترف ويقرّ له أبوه وأمه وأخوته بهذا المقام وذاك معنى السجود كما أرى . كذلك حال الشيخ صنعان ، فما رآه تم ، بل سعى إليه سعيه ولم يخالف أمر الله . انقاد للناموس مسلّماً ، ليطابق فعله ، الصورة الأساسية أو الأرومة الموجودة في لوح القدر ، رغم صعوبة هذا الامتحان ، ولكن لولا هذا الامتحان كيف كان سيصل . ذلك أن الرؤيا الصادقة كما يقال جزء من خمسين من النبوة . حيث يطل فيها العقل بوجهه الباطن على عالم الغيب ، وينقل لنا ما يرى مستعيرا رموزا من الواقع لنستطيع الترجمة . ونتيجة الذاكرة التي امتلأت بالملفات المستهلكة في عالم المادة ، تضيع منا تلك الإشارات ، أو نعجز عن فهمها ، لأنها تحتاج إلى أن نعود أطفالا . ويسترسل القلب في قراءته ، ليقبض على المعنى الذي أراد العطار أن يوصله إلي ، أنا العاشقة التي جاءت بعده بقرون ، بوقت غير الوقت ومكان غير المكان . ويسأل محتارا وما أكبر الفرق بين حيرة الجهل وحيرة العلم : لماذا أراد الله أن يحيا الشيخ صنعان قصة العشق تلك ؟؟!! هل أراده عن طريق العشق أن يرفع الفتاة المسيحية إلى مقام الإسلام وما أعلاه من مقام ؟؟ ولا يقدر على ذلك حتى يقع أسير عشقها .. ظلوما جهولا ، وحين يحررها بالعشق يعود حرا كما كان . أم أن عشق الإله لا يكون إن لم يتجسد على أرض الواقع ، ومن هنا نحتاج عالم الوهم لنصل للحقيقة ؟؟ لأن العاشق الحقّ لا يؤسر أبدا ، بل يدخل الأسر حرا ، ويخرج حرا . أم أراد أن يوصل لنا .. أن تجربة واحدة حقيقية تعادل كل عبادات السنين الخمسين ؟؟ أم أراد أن يعلمنا ويرينا وهم الفضيلة والرذيلة ، فعين العشق حقيقةً عمياء عن وهم التضاد ؟؟ ربما تكون كل تلك الاحتمالات ممكنة ……………. ولعلنا نتوصل إلى أن نهاية التجربة لم تكن بيده ، فمن أدخله في التجربة أخرجه منها ، بعد تضرع مريديه . ومتى كان لنا أن نحلّ ونربط ، بل اليد التي أزكت النار تطفئها وما أروع ما يختم به العطار هذه القصة الشجيّة : " ما أكثر ما يحدث مثل هذا في طريق العشق ، ويعرف هذا كل شخص أدرك العشق ، وكل ما يقال في الطريق في حيز الإمكان ، ففيه الرحمة واليأس والكفر والإيمان ، ولن تستطيع النفس إدراك هذه الأسرار ، كما أن النجس لا يستطيع أن ينال سبقا . ويجب أن يسمع هذا بإذن الروح والقلب ، لا أن يسمع بما صنع من الماء والطين اللازب . وفي كل لحظة يشتد المعركة بين القلب والنفس ، فأكثر من النواح ، فالحزن شديد وقاس ." فلنحسن الظنّ بالعطّار وشيخه صنعان ، لأنه قد يكون أنا أو أنت أو أيّ واحد منّا ؟؟ وعين القلب ترى أن ما راود العطار لم يكن لحظة ، سوء نيّة وطويّة ، بل باطناً أبيضاً ، عكسه في مرآته الصادقة : ” الشيخ التقيّ ” . وإن نحسن الظنّ بالخلق ، ندلّ على حسن ظننا بالخالق . وإن نحسن الظنّ ، تكون الأشياء كما نراها ، ويتشكل الكون كما نريد . فنوايانا الطيّبة صانعة أقدارنا ، وكاتبة ألواحنا . فما الأعمال إلا بالنيّات . أودية العشق : أأودية هذه .. أم نيران سبع تستبطن سبع جنان ؟؟؟ يا لباب باطنه فيه الرحمة ، ظاهره من قبله العذاب . فامض أيها القلب عبرها ، إلى الأعتاب العليّة ، ولا يهمّك طولها ، أو زمن قطعها ، فما عاد أحد قط ليخبرك بالحقيقة ، وكل من سلكوه فنوا فيه كلية ، وتركوا لك الشوق يشحذ همتك ، ويضرم شعلتك . هاهو أول الغيث يهطل يا يمامة ، وها أنت بوادي الطلب ، فاقطعيه متطهرة من الصفات ، صادية الشفة ، ظمآنة ، ذاكرتك نسيان ، وقد تساوى بعينكِ الكفر والإيمان ، لما لاح بريق من نور الذات . ثم امضي إلى الوادي الثاني ، وادي العشق , وما أجمله من اسم . مختلجةً , مضطربةً , تقلبي على ناره ، منعتقة من أسر المادة ، خالعة عمامة العقل ، ممزقة جلباب الوقار ، غير آبهة بالعاقبة ، ولا عارفة ما الكفر والإيمان ،ما الشك واليقين ، بل أين الخير والشر . مقامر ، ثمل ، خليع ، قلبك العاشق الحيّ ، المرّ عنده حلاوة ، والنار نور ، يدفعه العشق لوادي المعرفة ، الذي لا أول له ولا آخر ، وسلوكك يا يمامة مرهون بكماله ، وقربك حسب حالك ، وإبصار شمس المعرفة على قدر استطاعتك ، ليشرق سر ذاتك عليك ، فإذا بك ترين الحبيب وحده ، وتغيبين عن نفسك . لتجدين أنك وصلت وادي الاستغناء الخالي من كل دعوى ومعنى ، ولا قيمة فيه للأشياء ، ولا رغبة في قديم أو جديد أو امتلاك . البحار السبعة هنا بركة ماء ، والكواكب السبعة ومضة ضوء أما النيران السبعة فثلج متجمد ، وكل ما رأيتيه في الدنيا مجرد حلم . وما أن يأتيك وادي التوحيد ، حتى ترين الوحدة في الكثرة ، وكل الوجود وجهاً واحداً ، وإذ بالأزل والأبد يتلاشيان ، والكل عدم . وإلى وادي الحيرة تصلين ، فلا تدرين ، هل أنت موجودة أو لا ، هل أنت بين الخلق أو خارجة عنه ، هل أنت خفية أو ظاهرة ، هل قلبك ملئ بالعشق أم خلو منه ، لكأن الطريق قد ضاع منك ، ولكأن سيفاً مسلطاً مع كل آهة وألم . يا يمامة المحبة ، ابشري بالخلاص ، لقد انتهت حيرتك بك إلى وادي الفقر والفناء ، كل الظلال الخالدة تلاشت أمام شعاع واحد من شمسك الوضاءة ، والعالمين إن هما إلا نقشٌ على سطح البحر الكلي ، أما القلب فلا يجد إلا الفناء ، وما عاد لك يا طير الله أثر . سلوك الطير للطريق صوب السيمرغ السابقون السابقون ، أولئك كانوا الثلاثين طائراً الّذين وصلوا إلى السيمرغ ، من بين مئات الألوف من الطيور . وصلوا الحضرة عديمي الريش والأجنحة ، منهكين متعبين ، محطمي القلوب ، فاقدي الأرواح ، سقيمي الأجساد . أين الرفاق يا يمامة ، وأين من قطعوا المسير معكم ؟ أجابت : قلبي عليهم ……. ففي الطريق إليه مرّ عمر مديد لم ندر عدد سنينه وأيامه ، وكم من رفيق تهاوى ، وسط الآلام والأهوال . البعض غرق في البحر ، أو أسلم الروح على قمم الجبال من شدة الحرارة والآلام ، والبعض احترقت أجنحته من وهج الشمس ، أو أصيب بالذلة والهوان ، من أسود الطريق ونموره ، أو أتعبته الصحراء فمات صادي الشفة ظمآن ، أو قتل نفسه كالفراشة ، أو تخلف من من وهن وألم والبعض داهمته عجائب الطريق فأجفل ، ولزم موقعه ، وهناك من أسلم الجسد للطرب وكفّ بعد ذلك عن الطلب . ولأن مسيرنا فردي رغم مضينا أسرابا إليه ، ما كان بمقدورنا الوقوف كثيراً ، والانشغال بالآخر عن الحبيب ، فالحافز والشوق إن لم يكن من داخلنا ، كيف الوصول ؟ وصل السابقون .. يا يمامة ورأوا عدداً وفيراً من الشموس المعتبرة ، والأقمار والنجوم الزاهرة ، فاضطربوا كذرة حائرة وقالوا : " إذا كانت الشموس تبدو كذرة فانية بجانب ذلك السلطان الأعظم ، فكيف نبدو نحن في هذه الأعتاب ؟ يا للحسرة على ما تحملناه ،من آلام الطريق ! لقد قطعنا الأمل من أنفسنا ، ولكن لم نقطع الأمل من الهدف المنشود ، وإذا كانت مئات العوالم مجرد ذرة من تراب هناك ، فأي خوف إن وجدنا ، أو أصابنا العدم ؟ " وفنت أرواحهم وتطهرت عن الكلّ ، فوجدوها من جديد من نور الحضرة ، وعادوا عبيداً للروح الجديدة ، وتملكتهم حيرة من نوع جديد ، وأضاءت من جباههم شمس القربة ، لتضيء أرواحهم من هذا الشعاع ، "وفي تلك الآونة رأى الثلاثون طائراً طلعة السيمرغ في مواجهتهم ، وعندما نظر الثلاثون طائراً على عجل ، رأوا أن السيمرغ هو الثلاثون طائراً بالتمام ، فكلما نظروا صوب السيمرغ ، كان هو نفسه الثلاثين طائراً في ذلك المكان ، وكلما نظروا إلى أنفسهم ، كان الثلاثون طائراً هم ذلك الشيء الآخر ، فإذا نظروا إلى كلا الطرفين ، كان كلّ منهما السيمرغ بلا زيادة ولا نقصان ، فهذا هو ذاك ، وذاك هو هذا ، وما سمع أحد قط في العالم بمثل هذا ." حينها …. غرقوا في الحيرة وعمي العقل والبصيرة فسألوا من غير حروف .. عن الأنا والأنت فجاء الجواب من غير لفظ أن صاحب الحضرة مرآة ساطعة كالشمس وكل من يقبل عليه يرى نفسه وأنتم أيها السابقون جوهره الحقيقي فامحوا أنفسكم فينا لتجدوها وهكذا انمحوا على الدوام كما ينمحي الظل في الشمس ، والسلام خاتمة اطوِ سِفرك يمامة الحبّ في يمينه ، حتى يأتي عاشق مثلك ، يقلّب صفحاته ، فها قد أوغلت عميقاً في منطق الطير ، ويكاد يلمّ بك ما ألمّ بمولاك ، حين راح يئنّ في عجزه وفقره : " يا خالقي المنعم ، اصفح عن وقاحتنا وجسارتنا ، لا تورد دنسنا أمام أعيننا " " لا تبعد وجه الفضل عن وجهي ، فحينما ينهال عليّ التراب ، أكون في اضطراب ، فلا توجه نحو وجهي أي شيء من أي صوب . وكم أتمنى ألا تواجهني بأي شيء من خطاياي العديدة يا إلهي ، أنت كريم مطلق ، فاصفح عن كلّ ما انقضى وولّى يا إلهي " وما أكثر ما سيسألك جاهل حين يحاول بفكره أن يفهم : " إن كان نهاية الدرب العجز والفقر ، فعلام كل هذا العناء والبلاء . " فتردين بصبر الأوّاه الحليم : " إن خطيئة من سلكوه أشرف من حسنة من لم يسلكوه " " وعلوّ المقامات على قدر المجاهدات " " فظنّ خيراً ولا تسأل عن السببِ " والحمد لله ربّ العالمين *ثناء درويش* View thanaa's Full Portfolio Login to post comments 555 reads Tweet last updated 12 October 2010 - 4:57am ©14 June 2007 - 3:38pm — Thanaa Free Membership Username or e-mail: * Password: * Request new password Who's online There are currently 2 users and 58 guests online.Online usersredacediamond redbrick Who's new Savvart arielle SilverDawn simon EllaF LornaRJ