"سأكتبُ روايةً"
فاتحة
أستميحكم عذراً أيها السادة، فأنا و منذ البدء لم تكن نيّتي أن أدوّن شهادتي، و كنت أؤثر أن أعبر كما عبر سواي، فلطالما وجدت التدوين جريمة لا تقلّ فداحة عن سواها، و لم تزد الطين إلا بِلّة، منذ عصر اختراع اللغة و حتى اللحظة، حيث يقع القارئ تحت سطوة ما راق له، فإذا به أسير رؤى أو آراء الكاتب لا يستطيع أو لا يبتغي منها انعتاقاً.
و ليس في الأمر ضير، بل أنا واثقة مما للكلمة الطيّبة سواء كتبت أو نطقت من أثر، و كم لها قدرة جبارة على التغيير و تحريض الخير، و كيف يتحول ما نقرأه إلى سلوك، فتتلبسنا الكلمة كفعل واقع. لكنني أيضاً واثقة بالمقابل أن النص قد يكون ككاتبه مغلقاً، حابساً محبوساً يدور كقوقعة حول نفسه، فيما القارئ كحلزون يتبع دورة القوقعة في استلاب واضح.
و أقولها صراحة أنني لطالما سمعت قرقرة الحروف في جوفي، فأسارع لإسكاتها بفتات اللامبالاة و التهكم من عبث أي فعل نهايته الصمت الأبدي، و كان الأمر سينتهي وفق ما أردت، لولا هذا الشيجان الذي ازداد في داخلي، فوجدت أن لا مناص من إكمال اللعبة حتى النهاية، فلعلّني لست سوى أداة لقوة كونية جبّارة تسيّر خطاي و توهمني أني صاحبة القرار و الحسم و الفصل، فملت إلى أن أضحك عليها كما ضحكت علي.
و للتوضيح، و حتى لا تذهب بكم الظنون بعيداً، عليّ أن أوضح أن شهادتي تنطلق بدءاً من نفسي و تعود إليها، فكلّ فعل صغير كان أم كبير لا أبرّئ نفسي عنه، و هكذا فما أدونه هنا عني كما عن أيّ عابر فيكم، وما القصد منه الإدانة، بل صور تمرّ أمام عيني فألتقطها كعدسة الكاميرا ليس إلا، فلا تتأهبوا لرجم بيتي الزجاجيّ بحجارتكم، و لا تصبّوا عليّ وابلاً من لعناتكم، فما لبيتي سقف سوى السماء.
هكذا أيها السادة وجدت نفسي عالقة في مسرحية، أنا الكاتب – أو هكذا بدا لي – و المخرج و الممثل بآن، و كانت الأدوار تتناوب عليّ، فمرة أراني البطل و مرة أكون مجرد كومبارس مهمل قد يؤدي دوره صامتاً لدقائق معدودة، و لكم أن تتصوروا الكمّ الهائل من الأدوار الذي قمت بها متنقلة بين طرفي التضاد من خير و شرف أو رزيلة و فضيلة، و لتعجبوا ما طاب لكم العجب، من هذا العالم اللا متناه الذي اصطلح على تسميته " النفس" كم به من أدوار متناقضة و غير عادلة أو منسجمة، و كيف لهذه النفس أن تكون مجمع التناقضات من فرعون إلى موسى معاً، بين شيطان و ملاك.
و كأني بكلّ واحد منكم، يجذبني لأكتب عنه، و يغريني بتفاصيل قصته لأجسدها كدورٍ على مسرح روايتي، فأحار من أين أبدأها و كيف أنهيها، ما دام لا نهاية لفصولها، و لست ربّة الأقدار لأحتم بمصير شخصياتها، فأؤثر أن أتركها معلقة وفي القلب صلاة تتمنى الخير و النهايات السعيدة للجميع، و لكن هيهات أن يكون ذلك دوماً في عالم الأسباب و النتائج، أو عالم الصدف العمياء.
ثناء درويش
الظل الأول
ثناء
تزوجت في سن متأخرة نوعاً ما ، و كي لا تذهب بكم الظنون بعيداً ، أوضح أن عمري حينها كان دون الثلاثين، لكني كنت ألتفت و أرى صديقاتي جميعهن قد تزوجن و أنجبن فأتلمس ظاهر رحمي بخوف و توجس من أن يناقش ككيس يابس دون أن أحقق حلمي بالأمومة.
حين تقصّين تفاصيل الحمل و الولادة و التربية على رجل ، سيبدي تعاطفاً بأحسن حالاته أي إذا كان على درجة من الحسّ الإنسانيّ و المحبة ، ولكن لا تستغربي لو أعادك لنصّ توراتيّ حكم الله فيه على المرأة أن تلد بالألم كنوع من العقاب على جريمة الغواية ، التي كان ضالعا بها للنخاع.
احتضنت ثمرة ألمي كأنها قطعة من لحمي .. أتأمل الله في أجمل تجلياته.
في طلعة محياها نسيت اهتماماتي و هواياتي لتكون هي وحدها محور حياتي.
فإن غنيت فلها
و إن كتبت فلها
و إن اشتريت قصة فلها
و هكذا يحدث خلال أعوام أن يتناثر النور في أربعة أطياف ترفّ في عالمي .. و تتوجني أماً على الخلق كله.
نعمة أن يحدث الإنجاب في سن الشباب قبل أن تخور القوى .. و تمد الأسئلة ألسنتها عن جدوى كل هذه اللعبة التي تنتهي بالعجز و الموت.
حكمة العجائز مفسدة لكل لذة.. فدعك منها .. و تأمل انبثاق الخلق كبرعم في وجه طفل.
تأمل باطن كفه حين يلهو بيديه..
ثغره الذي لم يلقمه أحد أنه خلق ليمتص حلمة الثدي ثم للمناغاة..
استنكاره للقذارة و الجوع و النعاس و الألم ببكاء يجبرك على الشفقة عليه أو الخلاص من ضجيجه..
تفتح مداركه ليتعرف على أبويه و المقربين منه و على الأشياء حوله.
أن تحيا مع طفل يعني أن تولد من جديد.
و للمعاناة نكهة يدركها الآباء .. رغم أنهم قد يمنّون على الأبناء حين يكبرون تعبهم عليهم ... فيجيء الردّ قاسيا على الأغلب :
بل نحن نلومكم على توريطنا بهذه الحياة.