عزازيل يوسف زيدان: شيطان هو أم ملاك

Folder: 
قراءات

 

 

 

 

سأنقل ما رأيته في عزازيل يوسف زيدان، وسترون أني لم أعتمد في قراءتي هذه للرواية على كونها قد حازت على جائزة قيِّمة كجائزة البوكر، وهذا ما عرفته بعد أن أنهيت قراءتها، وأعجبت أيما إعجاب بها. ولا على أن هذه الرواية قد نقلت الكاتب العربي المصري يوسف زيدان إلى العالمية التي يطمح لها أيُّ أديب. كما أنه لم تعنيني كثيرًا التفاصيل التي تهتم بالمكان والزمان والهويَّات والتوصيف، رغم تسليمي بأنها أمر حتميٌّ يحتاجها أي عمل كي يكتمل، ويخرج على الصورة التي يريد له خالقه ومبدعه أن تكون. فأية رواية بشكل عام هي مرآة للحياة بكل ما فيها. والتفاصيل كاللغة إن هي إلا اللباس الذي يرتدي المعنى، فإن وصل القارئ إليه، لم يعد لها قيمة أو جدوى، إنها المطيَّة التي لابد منها للوصول إلى القصد... فلا وصول بدونها، ولكن إن وصلت صارت عبئًا عليك ومضيعة.

وما أكثر ما شغلت التفاصيل – كوسيلة لا بد منها – من يعلق بها، وكم أغرته بجماليَّاتها وفنونها، حتى تحجبه تمامًا عن الغاية المبتغاة، خاصة إذا امتلك من يسوسها ناصيتها، وعرف كيف يستخدمها، وبرع في توظيفها. وما في ذلك منقصة بل إبداع كي لا يؤتى المعنى إلا كل ذي حظ عظيم.

إنما شدَّني للكتابة عن هذه الرواية – وقلما أفعل – الطرح الجديد والجريء من قبل كاتب "عربي" لأحد أكثر المفاهيم البشرية جدلاً على مرِّ العصور ألا وهو عزازيل أو الشيطان. حيث ارتكبت أفظع الجرائم وترتكب، ويلصق دومًا الفعل بمخلوق مجهول يجسِّد البشاعة والشناعة بمظهره والشرَّ بأعماله.

ومع ذلك، ومن باب التعريف لا التعلق بالهوامش، أجدني أعتمد على مقدمة الكاتب التي أثارت الجدل بين مكذِّب ومصدِّق لواقعية القصة، وتلك لعمري صورة أولى لإبداع يوسف زيدان.

فالرواية واقعية جدًا بغضِّ النظر عن كونها حدثت زمانًا ومكانًا وأشخاصًا، ذلك لأنها تحدث دائمًا وفي كلِّ وقت، فالمعنى واحد والتفاصيل تتغير.

وهل أتى على الإنسان منذ عهد آدم حين من الدهر لم يكن الإنسان فيه مثنويًا بين خير وشرٍّ؟؟ أو هل أتى زمن لم يكن فيه البشر ديَّانين، وإدانتهم دومًا للآخر لا لأنفسهم؟؟ أو لم يكونوا فيه أعداء ما جهلوا؟؟ وهل جرَّب البشر يومًا التخلي عن مفهومهم السلفي للشرِّ – والذي يتقمصه الشيطان صورة وعملاً – وتبني مفهوم آخر أولي له.

ليتهم يبصرونه على ما هو عليه... قوة إنسانية، لا قوة فوقية خارجة عن حدود ذاته، ووجود إلهي مخلوق لخدمة الإنسان لا ضدَّه.

وليتهم يرونه تكوينهم الآخر أو الطرف الآخر للحقيقة، إذ لا يمكن نفيه عن أي إنسان.

وليتهم استفادوا من وجوده فيهم لخدمتهم، وطوَّعوه لأجل هذه الغاية، وحققوا وظيفته الإنسانية بالقدرة الإلهية الموجودة فيهم، ووظفوه حسب إرادتهم الخاصة.

ليتهم تعلَّموا من سليمان كيف سخَّر لخدمته كل قواه، بما فيها شياطينه، فإذا بهم يبنون له ويغوصون لأجله، أو على الأقل مقرَّنون في الأصفاد، وقد غلَّ أذاهم وعُطِّلت وظيفتهم في عمل الشرِّ.

لكن الغالبية العظمى من البشر إما عاجزون، أو لا يعرفون، أو لا يريدون.

وهكذا تعمل شياطينهم ضدهم وتنقلب عليهم، في المنع والسلب والحجب.

إذًا، ولنعد إلى المقدمة فنجدها تخبرنا عن أن هذه القصة ما هي إلا عبارة عن ثلاثين رقٍّ اكتشفت قرب حلب في منطقة أثرية، مكتوبة بلغة سريانية منذ القرن الخامس الميلادي بيد الراهب الطبيب هيبا، دوَّن فيها تجربته الروحية عبر خطواته الأرضية وعروجاته السماوية، وما كانت مسؤولية الكاتب "المترجم" يوسف زيدان إلا ترجمتها فقط على مدى سبع سنوات إلى العربية.

وتبدأ تداعيات الراهب التقي النقي وذكرياته خلال تجواله، وقد استسلم لعزازيله يحضُّه على التدوين، وكتابة ما قرأ – وما الكتابة إلا قراءة لحظية لوجودنا – حائرًا كيف يبتدئ أو ينتهي، ما دام

ليس ثمة هناك بداية أو نهاية على الحقيقة، وما ثم إلا التوالي الذي لا ينقطع.

ليودع ما كتبه بعد انتهاء أيام خلوته الأربعين في صومعته الصغيرة، تحت البلاطة المخلخلة عند بوابة الدير، ظانًّا أن أحدًا لن يقرأ ما كتب، ما دام دفنه في طيات الكتمان.

تنجلي لنا ملامح هيبا شيئًا فشيئًا ونستكشف جماله ونحن ننتقل معه من رقٍّ إلى آخر، فنقع على جوهر نظيف، ينطوي على تمرد خفي تبوح به نوعية قراءاته وحواراته، وقد ساعدته لغاته الأربع – الآرامية والعبرية والقبطية واليونانية – على تحصيل ثقافة عالية كان يظنها حتى ذلك الحين في الكتب والأوراق.

رحلته ابتدأت من أخميم قرب البحر الأحمر إلى الإسكندرية عاصمة الملح والقسوة، ومن الإسكندرية إلى صحراء التيه سيناء، ثم إلى أورشليم التي حجَّ إليها في الثلاثين من عمره وما الحج إلا

رحلة تهيئة، وما السفر إلا إسفار عن الأمر المقدس المكنون بجوهر الروح.

حيث راح المسيح يدعوه ذات ليلة، بعد سنوات التيه الثلاث في قرى ومدن فلسطين، أن يترك نفسه والأموات وراءه ويتبعه ليحيا.

في كلِّ مدينة أمَّها كانت له قصص وحكايات، يخفيها في حنايا الصدر لأنها لا تقال إلا من لسان ناطق إلى أذن صاغية. ولو أنه قالها في وقتها ولم يدوِّنها لنتطلع عليها بعد كلِّ هذه السنين، من يدري، ربما كنا ممن يدينه ويرجمه ويهوِّل ما فعل، ناسين من قال عن المجدلية:

من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بأول حجر.

ذاك المطَّلع على خفايا النفوس، الذي رأى في الخاطئة طهرًا لا يروه، ورأى تحت ثياب الدين التي يرتدونها سوادًا مرعبًا، فما كان منه إلا أن أوصى حوارييه القلَّة: "لا تكونوا ديَّانين".

هكذا تتفتح صدفة الروح عن مكنونها في درب الرجوع إلى الفطرة، حيث تصبح الرؤية أوضح كلما سرنا خطوة إلى الوراء نحو طفولتنا المنشودة، في بحث لاهث عن الله في كل صورة، لنكتشف في النهاية أننا كنا ننشده في الخارج وهو بنا، أقرب إلينا من حبل الوريد.

وهكذا أيضًا سيكون مكر الله لنا بالمرصاد، في دروبه الوعرة غير الممنهجة ولا المعبَّدة، فما دمنا سلكنا الدرب سيكون خير الماكرين معنا، يوقعنا في التجربة أو الخطيئة، ليخرجنا أكثر قوة ونقاء.

إذًا، لا عجب أن تناديه الإسكندرية إليها، فيأتيها لأمر، ويقضي الله أمرًا آخر.

يباغت حضور أوكتافيا الطاغي الراهبَ الزاهدَ في الحياة والنساء، ويقلب له كل موازينه، في أول حبٍّ في حياته، فكأنه جاء على قدر إليها أو جاءت إليه، حين حمله بحر الإسكندرية رغمًا عنه إلى أحضانها، ويختبر معها في أربعة أيام وثلاث ليال سويًّا، وجهًا آخر للحياة لم يعرفه يومًا، جنة امرأة عاشقة تبذل جسدها ونفسها وروحها لمن تحب، جنة يحياها كأسطورة وخيال، وسط نيران الأفكار وعذابات الضمير، وتشتته بين ما نذر عمره له وبين ما دفعه القدر إليه، فاستسلم لملذاته بكل توقه الفطري للمرأة الحبيبة، تحرِّض مكامن الوصل فيه ليبلغ كماله، حتى تأتي لحظة الفراق بسكين الاختلاف الفاصمة، حين يخبرها بما أخفاه عنها من أنه راهب مسيحي، فإذا بالحبيب في نظر الوثنية سافل حقير، مطرود من جنتها إلى غير عودة.

"اكتب"... يهتف به عزازيل في صومعته أثناء زياراته له في خلوته الأخيرة لأربعين يومًا.

زيارات عزازيل!!

لا... لا... عزازيل لا يأتي أو يذهب.

أنا لا أجيء وأذهب، أنت الذي تجيء بي حين تشاء، أنا آتي إليك منك وبك وفيك، إنني أنبعث حين تريدني لأصوغ لك حلمك، أو أمد بساط خيالك، أنا حامل أوزارك وهمومك ومآسيك.

"اعترف" يهمسها في أذنه فينزل عبء اعترافاته عن كاهله إلى الرقوق.

الاعتراف طقس بديع، يطهرنا من خطايانا كلها، ويغسل قلوبنا بماء الرحمة الربانية السارية في الكون.

اكتب إذًا أيها المطرود من نعيم أوكتافيا، المحروم من رحمتها.

اكتب عن أستاذة الزمان... النقية، القديسة، الربَّة، شقيقة يسوع، هيباتيا أو "السامية".

اكتب عن "كائن سماوي هبط إلى الأرض من الخيال الإلهي، ليبشر الناس بخبر رباني رحيم".

اكتب يا هيبا عن "الجامعة بين الرقة والجلال... في عينيها زرقة خفيفة ورمادية، وفيها شفافية. في جبهتها اتساع ونور سماوي، وفي ثوبها الهفهاف ووقفتها وقار يشابه ما يحف بالآلهة من بهاء".

اكتب عنها كما رأتها عين قلبك، وعين القلب لا تكذب.

اكتب عما فعله ويفعله الدين بالبشر على مرِّ العصور.

اكتب عن الجمال يقتل بسكين الحقد باسم الرب.

اكتب أيها الشاهد "باسم الحقِّ المختزن فيك" عن الشهيدة، ولا تجبن؟!

اكتب عن أنفاس الحب، تختنق بكفِّ التشريع.

قل إن وثنية هيباتيا أقرب إلى الله من دين يقتل ليستمر، دين يستمد نسغه من أشلاء الضحايا ليحيا.

حياتك خوف متجذرٌ، منذ قتل أبوك أمام ناظريك، وبعدها حين فظَّعوا بهيباتيا، وغلَّ الخوف يدك عن أن تمتد إليها، رغم استنجادها بك.

آن أن تقهر خوفك بخوض النار، وتقتلع جذروه إلى الأبد من أعماقك.

بعد كلِّ هذا المخاض... وبالألم... يولد هيبا ثانية.

في رمزية جميلة يصوِّر الكاتب خروجه من بوابة الإسكندرية الشرقية، وفي أعلى دلتا النيل حيث تلتقي الأرض والسماء، والماء العذب والمالح، يعمِّد نفسه بنفسه مترنمًا بصلاته الخاصة التي لم يسمعها يومًا من أحد قبلاً، مؤيدًا بالملكوت الخفي وقد اختار لنفسه اسم "هيبا" الذي يمثل النصف الأول من اسم هيباتيا.

وفي أورشليم وحيث – الأرواح المتشابهة تأتلف – يلتقي بالقس الطيب نسطور "الأنموذج السماوي لرجل الدين" كما يراه، وتنشأ بينهما علاقة طيبة لطيفة، ويجد برفقته في نفسه الجرأة لاقتحام خطوط حمراء محظورة، وطرح تساؤلات لم تقدر التعاليم الوضعية ولا الأفكار السلفية أن تجيبه عليها، أو تروي ظمأه وتعطشه لاستجلاء الحقيقة. خاصة حين يحدثه هيبا عن مقتل أبيه أمام عينيه وهو صغير بيد مدَّعي المسيحية، وهم يهتفون بالمجد ليسوع الرب والموت لأعدائه. فيعزيه القسُّ الطيب واصفًا إياهم بأنهم

الجهَّال الذين أرادوا الخلاص من موروث القهر بالقهر، ومن ميراث الاضطهاد بالاضطهاد.

يعرف نسطور كلَّ ما جرى ويجري باسم "مؤسسة" الكنيسة منذ البدء، ويرقب الأحداث في صمت وسكينة وألم. فتنساب الكلمات بينهما بلا رقيب ولا حسيب من القلب للقلب، في مسامرات وحوارات لطالما احتاجها كلٌّ منهما.

لكن ما من سعادة تدوم، وهاهم الحجيج على أهبة الرحيل، والقسُّ نسطور الصديق الطيب سيغادر أورشليم عائدًا إلى بلاده، وبرحيله لا معنى لمكوث هيبا في أورشليم التي بقي فيها لسنوات. فيتخذ قراره بناء على نصيحة صديقه بالتوجه إلى دير قديم شمال حلب.

وفي دير حلب يترصد له مكر الله من جديد، لا ليقطع طريقه، بل ليشير إليه إلى حقيقة الرهبنة، بأنها ليست في الاعتكاف والزهد، ولا في الانزواء والانطواء والبعد عن البشر، وإحاطة أنفسنا بالخاصية، وأوهام الحقائق وأسرارها. بل روعة الإنسانية أن نحياها كما أرادها الخالق لنا. نقبل على الحياة الدنيا كما هي، لأن الدنيا ليست حجاب الآخرة.

والمرأة التي تفر منها، لأنك تراها الخطيئة وتفاحة الإغواء، قد تكون مرآتك العاكسة، وحين تهرب من شرك الغواية فإنك تهرب من رؤية حقيقتك فيها. فإذا بما ظننته فضيلة يفوت عليك معرفة نفسك في مرآتها الصافية.

فلا عجب إذًا أن يلتقي هيبا بمارتا في الوقت الذي أراده الله، بعد طول مجاهدات روحية ومعاناة، مادام الله أعرف بنا منا. ولا عجب أن يشير له من خلال لقياها إلى درب الحياة الحقيقي، في جنة امرأة محبة، فكأنها هبة الله له ورحمته ونعمته بعد مرِّ الصبر.

أتوقف هنا... وأترك لكم متعة التأمل في عزازيل. فلعل حوار الغيوم بيننا يفتح لنا مدارات إنسانية لم تفتح بعد.

*** *** ***

 

View thanaa's Full Portfolio