الى وقت قريب كان يشك بعض الناس فى ان يكون للسودان ادب خاص يحمل طابع شمسه المشرقة وطفراء بدره الوضئ . ويخص بعنايته الحياة السودانية وحدها منحنيا عليها يصفها ويحللها ويصدر عنها ويرسم لها منج>با اليها مندفعة اليه مؤثرا فيها متأثرا بها ، ثم ينكمش على النفس السودانية يوسعها درسا وتمحيصا فينقدها ويمتحنها متحينا بها اسباب الرقى والكمال مستخرجا من مبادئها غاياتها ومن يومها غدها ومن احلامها حقائقها دافعا بها حافزا لها مسيطرا عليها نازلا منها منزلة العقيدة من نفس المؤمنين يحوطونها بالرعاية ويذودون عنها بالنفس . والى وقت قريب بل الى هذه الساعة ما تزال المغالطات قائمة على اشدها فى امر هذا الادب اهو سودانى صميم من صنع البلاد ام هو خليط مما يرد علينا من الاقطار الاخرى فقال البعض به>ا وقال البعض بغيره ولكل رأيه ومعتقده ولنا نحن ايضا رأينا فيه وما هو بهذا ولا ذاك فما نقول انه سودانى محض ولا خارجى محض ولكن كفى دليلا على انه لم يتركز بعد ولم يتضح امره فنصرفه الى ناحيته الخليق بها . هذا الخلاف القائم حوله ا> لو كان الامر فيه واضحا لما نجم انشقاق فى الرأى وهذا برهان صريح على ان فى كلا الرأيين مجازفة وتسرعا بالحكم . وظلم صريح ان ننكر على السودان ان يكون له ادب . ومجاملة صريحة ان ننحله الكينونة الادبية والانتاج المستقل . وقد وقف القارئ على طرف من رأينا عنه عند الحديث عن الادب القومى اذ قلنا ما معناه ان الادب القومى فى نظرنا اصدق فى التعبير عن الحياة السودانية من غيره . وما ذاك الا لانه من جو سودانى خالص من المؤثرات الخارجية التى يجترها من ورائه الادب العربى المشترك بين كل البلاد العربية حاملا معه خصائصها وميزاتها ومنازعها بقدر قوة الامة وتأثيرها فيه .
ومعنى هذا ان الامة القوية فى تفكيرها وادبها تفرض شخصيتها وحياتها ومناهجها الادبية على الشعوب الناشئة والامم التى لم يتركز تفكيرها بعد على اساس من حياتها الداخلية فتظل حائرة مترددة بين حياتين تحاول ان تنسى انهما متغايرتان ولكن الواقع يطل عليها بوجهه فتغضى على الم ويشتد الصراع بين الفكرين حتى يقدر لاحدهما التغلب على الاخر .
والسودان اليوم وان لم يقع فى مثل هذا المأزق فان فكره لم يستسلم ولن يفتر عن العمل والانتاج ولكنه انتاج من يغالب فى نفسه عوامل كثيرة محققة العمل فى نفسه وذلك هو شأن الادب فى السودان فانظروا ماذا تسمونه ؟ ونحن نرى من العدل الا نقر عنوان هذا الفصل على حاله بل ينبغى ان يكون هكذا "الادب العربى فى السودان " ولا يفهمن احدا من هذا المعنى غربة الادب فيه ، وايا كان الامر فأنه ولا غرو ادب العرب الذين وحدهم تنتمى وعلى دوحتهم القنواء والفارعة نجمت فروعنا وانتهت انسابنا فى التاريخ ولكن انقطاع السودان زمنه الاطول عن الحياة الادبية وحرمانه حرمانا تاما بفعل الظروف القاسية من العلم والمعرفة واخلاده كل ذاك المدى الى الادب القومى وانشغاله بروايته وحفظه والتمكين له وتلمسهم عنده اللذة الشعرية التى اخطاتم فى غيره واعوزتهم الا عنده كل اؤلئك وسع الشقة بينهم وبين الادب العربى وجعل من المحال ان يواصلوا جهد ابائهم فى الادب فيتم لهم ان يضيفوا اليه ويضعوا على اساسه ادبا سودانيا تقرؤه فتقرأ السودان لا العراق ولا دمشق ، واذا قدر للسودان بعد ذلك ان يصل ما انقطع من تاريخه الفكرى او ان يحاول البدء من حيث انقطعت به اسباب الحياة الادبية فمن غير السهل ان يستعيض كل ما فقده فى ايام معدودات كما يريدون له ثم من المستحيل ان يفرغ فى روحه صورة التى وجدت واساليبه التى حدثت بفعل العصور بمثل هذه السرعة فيستهدى بها فى طريقه واضعا الى جانبها اساليبه وصوره وتعابيره الادبية السودانية البحتة . ولعمرى لو لا هذا لكان للسودان اليوم شأن عظيم فى ايجاد ادب خاص فيه الحياة السودانية والفكر السودانى ولرأيت صدق هدا العنوان وانطباقه على الواقع من غير تجاوز وتسامح ، ولقد كنا احرص الناس على الاعتقاد بان لنا ادبا سودانيا لوكان فى كل ما قرأنا منه انتاج سودانى خالص وعلى كل حال فان الدم العربى السودانى فى ادب القرن الماضى اوضح واظهر منه فى هذه الايام التى كاد يفقد فيها الفكر السودانى شخصيته وينسى جوه نسيانا تاما ويتفرق وجوده فى مشايعته للاداب الاخرى والادب فى القرن الماضى بجانب ذلك قوى اذا قارنا بينه وبين بعض صور الادب المصرى عهدئذ ، على ان اليد المصرية بطبيعة الموقف كان لها عملها فيه ونظره واحدة نلقيها على المفكرين يومذاك تبين لنا ان السودان لولا الطوارى والثورات لكان له مثل ما لمصر من الاستقلال او شبه الاستقلال الفكرى لان الاساليب الادبية التى كانت شائعة بين مصر والسودان تجد انها بدأت تتركز فى السودان وتقوى اكثر منها فى بعض صحف مصر.