ينبغي ألا نعد الراحل جون قرنق إنه أول من نحت مصطلح "السودان الجديد" في دلالاته الثقافية, فالواقع إن هذا المصطلح إنبني من خلال الجهد الصحافي لجيل الستينات, فكانت صحيفة السودان الجديد التي أصدرها الاستاذ أحمد يوسف هاشم تنحو إلي فرد أشرعتها للافكار والرؤي الوطنية التي يجب لصحيفة صادرة بعد الاستقلال أن تدعو لها ويعمل كادرها التحريري علي معالجتها. كما ينبغي أيضا أن نسلم أن الرؤي السودانوية التي قال بها الرحل قرنق لم تكن جديدة في تصوراتها الفكرية , فمصطلح "السودانوية" أيضا خرج من الحقل الثقافي عبر تنظيرات الدكتور نورالدين ساتي والذي هو أول من إشتق المصطلح ثم سعي الاستاذ كمال الجزولي ما بعد الفترة الديمقراطية للتجديف حوله من خلال المقالات التي نشرها في صحيفة "السياسة" لصاحبها الدكتور خالد فرح, علي إنه في بدايات التسعينات فاجأ الراحل أحمد الطيب زين العابدين المشهد الثقافي بتأسيس مصطلح السودانوية وذلك عبر حفرياته التشكيلية الشيقة التي ضمتها مجلة حروف الصادرة وقتها من دار نشر جامعة الخرطوم إبان ترأس البروفيسور زهير حسن بابكر لمجلس إدارتها والمجلة أيضا, وربما سببت مادة تلك المجلة في قتل إبداعات دار النشر ــ من ضمنها معرض المليون كتاب السنوي ــوإقالة رئيسها وكادرها المنتمي لليسار وإتجاهات ليبرالية, والسبب هو أن في ذلك الوقت ـــ وأقصد بداية التسعينات ــ كان المشروع الحضاري للسطة " يتنزل" علي مسامع وأبصار الناس حيث بدأت أفكار إعادة الصياغة الاجتماعية تنسرب من أفواه منظري السلطة في وقت سدر المثقفون في ما سمي ب " الصمت الثقافي" بينما كان الدكتور أحمد عبدالعال يفذلك لمدرسته التشكيلية الجديدة التي أسماها " مدرسة الواحد" كناية عن توحد المبدع مع الله وتماشيا مع فكرة أسلمة الفن والتي إنطلقت من هيئة الاعمال الفكرية الناشطة آنذاك بواسطة المحبوب عبد السلام والتجاني عبدالقادر وأمين حسن عمر وحسن حاج علي, ولا ننسي أن شنان وقيقم ومحمد بخيت كانا يجدان وقتا إضافيا في الفسحة الاعلامية ليصبحوا "بايونيرات" للاغنية الجديدة البديلة للاغنيات "الفراش الحائر والقبلة السكري وأنا والنجم والمسا" التي أوقفت ضمن كثيرات كونها لا تتماشي مع سودان الترابي الجديد.
إذن فأن مفهوم " السودان الجديد" والسودانوية كانا من بنات أفكار أعضاء الحقل الثقافي وليس السياسي, وخلافا لذلك فإن الدارس للابداع الثلاثيني الذي تمثل ذروته في إبداعات الناقد السوداني الاول محمد محمد علي وحمزة المك طمبل وخليل فرح ومرورا بمنافحات اللواء الابيض ومدرسة الموردة الفكرية التي ضمت الاخوان عشري الصديق ــ يجد أن الثيمات الاساسية لمصطلحي السودان الجديد والسودانوية علي إستنادة علي تلك الكتابات والمجادلات التي تبلورت حول صراع مفهوم الهوية ولاحقا مثلت الستينات بروزا أقوي للتيارين العربي والافريقي في محصلة الصدام الفكري للنخبة السودانية وكانت الثيمات الادبية والفنية المستلهمة من الابداع الثلاثيني تحاول تجاوز الظروف والازمات السياسية بما يعد إنه الفكر الجديد الذي يوازن بين الافريقانية والعروبية لضرورات الجوار الاجتماعي السلمي, كما أن ذلك الفكرالستيني أمل كثيرا في أن يخلص المواطنين السودانيين إلي قطر يساوي ثقافيا بينهم ويوحدهم علي درب المواطنة الطويل والتقدم الممكن والازدهار المرتجي.
إن ما يجعل المرء متفاءل هو أن الاحزاب المعتمدة علي خلفيات عربيةـ إسلامية والاحزاب اليسارية لم تكن قادرة علي غز السير في التشكيك في الدوافع القومية لسودان قرنق الجديد فيما يتعلق , علي الاقل, بفاعليته كخطاب قومي ــ وليس جهوي. في الحقيقة إن الاحزاب ذهبت أبعد بالتحالف مع قرنق بعد فقدانها للديمقراطية ورأوا فيه ثمة منشط لخطاب المعارضة وحراكها, بل وإن رؤي سياسية للحزبين الاتحادي والشيوعي والتنظيمات الاقليمية والنقابات وقوي المجتمع الأهلي تماهت في خطاب السودان الجديد ولو تكتيكيا بينما أن حزب الامة ــ والذي وجد نفسه فيما بعد مخنوقا بهذا التحالف المتين ـــ لم يسع بعد خروج السيد الصادق المهدي من السودان أكثر من إنتقاد الهيكلة السياسية للتجمع , كونها لم تفعل العمل السياسي المعارض وتبعد القضية السودانية عن التدويل, أما إنتقادا مباشرا أمام الرأي العام لخطاب السودان الجديد لم يصدر من الحزب حتي الآن , وربما يفهم هذا الموقف للحزب علي انه محاولة لتطويق كاريزما جون قرنق المؤثرة والذي بدا طوال فترة التسعينات الرقم الاول في القبول السياسي العام وأنشط الزعامات السودانية في توظيف التحالفات الداخلية وتنشيط حركته الخارجية وكذلك يفهم موقف حزب الامة بعد العودة علي انه عمل مقصود لتفريغ الخطاب المعارض في الخارج من الشحنات العلمانية التي سيطرت عليه بعد توقيع اتفاقية اسمرا التي احتوي بند فصل المؤسسات السياسية عن الدين والواقع ان اتفاق جيبوتي ــ إجتماع جنيف أيضا مع الترابي ــ الذي وقعه السيد الصادق المهدي مع سلطة الانقاذ, وفيما بعد الخروج عن التجمع, مثل بصورة غير مباشرة عملا سياسيا مدروسا لافساح المجال للحزب بعيدا عن القبضة الحديدية للحركة الشعبية وتحالفاتها ولم يكن بالاساس الطعن في اهلية مفهوم السودان الجديد وسيطرته علي خطاب المعارضة والدليل هو أن الخطاب السياسي للحزب لم يناقض إلي هذه اللحظة المبادئ الاساسية لاتفاق أسمرا وإن نشط الحزب في تحالفات جديدة مع الترابي وفشل اجنحته السياسية المنشقة في التوائم مع الخطاب الاصولي والممارسة المحتكرة للسلطة الحالية كما إن الحزب لم يقفل الباب امام التنسيق المستقبلي مع الحركة الشعبية والدفع بتصريحات المغازلة السياسية عن إمكانية للتعاون.
إن الخيبة التي منيت بها قاعدة الحركة الاسلامية ـــ نتاجا لفشل قيادتها التاريخية في إنجاح تطبيق برنامجها علي مستوي القطاعات السودانية من اجل خلق الدولة الاسلامية التي بشر بها الاسلاميون, منذ نشوء تنظيمهم, مضافا إليها فشل المعارضة السياسية بجميع قطاعاتها ــ هي السبب الرئيس الذي جعل خطاب الحركة الشعبية هو الاكثر ضمانا ليس لوحدة السودان فقط, وإنما لحل إشكالات السلطة السياسة منذ الاستقلال, وكذلك الاكثر عمقا ــ اي الخطاب ــ كونه يقوم علي أسس موضوعية نابعة من الحرص علي قيم العدالة والمساواة بين اعراق السودان المتعددة.
والواقع إنه مهما حاول خصوم السودان الجديد, أو المشككون في دوافعه, النيل من صدقه كمشروع قومي فإنهم يكشفون دائما عن عجر عن تبيان ما يرونه خطلا فيه أو الاتيان بالبديل النظري لما يكون عليه السودان, إضافة إلي ذلك فإن نقاد الحركة الشعبية كثيرا ما نظروا إليها من زاوية أيديلوجية وعرقية ضيقة وحاولوا محاكمتها عبر الشك والتخمين علي إعتبار أن الجنوبيون لا يشاركون معهم في الدين والعرق.
وقد تساءل الكثيرون عن تأثير غياب قرنق عن المشهد السياسي وحول ما إذا كانت قيادة السيد سلفاكير دينق قادرة علي الاضافة لثراث السودان الجديد. الحقيقة هي إنه ما دامت الدلالات الفكرية والثقافية للمشروع حية وتتجدد عبر أحاسيس الاجيال الجديدة دائما وطالما أن اسبابها ما تزال قائمة وأن دولة المواطنة الحقة لا يمكن تحقيقها البتة إذا ماتم تحجيم الرؤي السياسية التي دعا إليها قرنق, فإن فكرة السودان الجديد ستبقي مطلبا اساسيا لتجاوز إشكالات السودان القديم والذي سيقاوم, بطبيعة الحال, رموزه واساطينه في الظلام والضوء معا دون إنجازه كما إنهم سيسعون للالتفاف علي الفكرة حتي ولو أدي ذلك ــ كما قد يرون ــ إلي قتل الروح القومية لدي الجنوبيين ليصوتوا للانفصال رغم أن الاخير هذا لا يحل مشكلة الشمال حتي ولو ظن اسلاميو السلطة إن السلطة ستسهل لهم الانفراد به, والدليل هو أن الشمال الآن في أسوأ حالاته مما هو عليه الجنوب, وهو الذي في حاجة إلي السودان الجديد لضمان الوحدة وإنهاء عقدة التمايزات الايديلوجية والعرقية الحادة التي أدت للاحتراب في دارفور وجبال النوبة والشرق وحمل المعارضة الشمالية للسلاح, وكل هذا أوجد التمزق والتآكل في النسيج الاجتماعي المتقدم نسبيا في حواضر السودان.
بهذا المعيار فإن السودان الجديد يبقي ليس مشروعا للحركة الشعبية فقط وإنما مشروع تنويري كل السودانيين الحادبين الذين يرون فيه المجال السياسي الذي سيسمح, إذا تمت تنمية عناصره, بصهر تلك التمايزات, بل وأنه هو المشروع الذي يترافق بأطر ديمقراطية وحزم حريات ملموس بعض منها بعد التوقيع علي إتفاقية نيفاشا ويقيني إنه لولا أثر الحركة الشعبية لما إنفتحت الفرص امام التيارات السياسية والمؤسسات الصحافية وكثير من الممارسات للمجتمع الاهلي وقبل هذا وذاك تغير طبيعة النظام الاستبدادية التي شهدناها أثناء صيرورته.