د. الواثق كمير
kameir@yahoo.com
مقدمـة:
هناك من بين السودانيين، خاصة في الشمال، من يعتبر أن السودان الجديد مفهوم مبهم أو أحجية غامضة، وربما يعنى أشياء مختلفة لأناس مختلفين. وهناك من انتقد الفكرة ابتداء كفكرة عنصرية ذات توجه معادي للإسلام وتهدف في نهاية الأمر إلى محو الهوية العربية-الإسلامية وإحلال الهوية الأفريقية مكانها. كما يرى فيها آخرون دعوةً مقنعة للانفصال وإقامة دولة جنوب السودان المستقلة. وهنالك أيضا من أدان الرؤية دون تحفظ لمجرد صدورها ممن لم تألفه أفئدتهم وأذهانهم.
وهذا ما جعلني أرجح أن اختيار الأستاذ كمال الجزولي لشخصي تحديداً لمناقشة هذا الموضوع مرده موالاتي للحركة الشعبية لتحرير السودان، التي كان زعيمها الراحل عراب مشروع السودان الجديد والمروج له والمنافح عنه. ولئن كان لا اعتراض لدى على حكمة هذا الاختيار، لكنى كنت أعتقد أنه ربما حققنا قيمة إضافية للحوار لو أن كاتباً آخر (أو كاتبة) من غير المنتسبين (أو المنتسبات) للحركة الشعبية قد دعي لعرض وجهة نظره (أو نظرها) حول رؤية السودان الجديد من منظور مختلف. وقد يكون غريبا أن أثير هذه النقطة! ولكن من الفرضيات الأساسية لهذه الورقة أن ما صاحب رؤية السودان الجديد من سؤ فهم و ما اكتنفها من غموض ولبس عند البعض يعود بقدر كبير إلى الخلط بين السودان الجديد كإطار مفهومي والحركة الشعبية كمروج للمشروع وكتنظيم سياسي بادر في لحظة تاريخية معينة، لتحويل الرؤية إلى واقع ملموس. فعدم الانتماء إلى الحركة الشعبية، بالمعنى التنظيمي، لا يتناقض بأي حال من الأحوال مع اعتناق الرؤية أو الاعتقاد فيها. وحقيقة، أجازف بالقول بأن كل المؤمنين بالرؤية هم "حركة شعبية" بيد أنه ليس كل من هو "حركة شعبية" يؤمن بها!
تهدف هذه المساهمة المتواضعة إلى إذكاء وإثارة النقاش والحوار حول مفهوم السودان الجديد في محاولة لإزالة سؤ الفهم الذي شاب الرؤية وذلك بتسليط الضوء على نشأة الفكرة وأصول تكوينها وتطورها، ورغم ما يعتو رني من شعور قوي بأن الكثير من المجتمعين هنا يقرونها ويؤيدونها. إذ خلافاً لما قد يعتقد المنتقدون والمتشككون فإن مفهوم السودان الجديد لا ينطوي بأي حال على مضامين عرقية أو عنصرية أو إنفصالية. بل هو بالأحرى إطار لمشروع قومي يستهدف بناء دولة المواطنة الحقة والمستدامة والقادرة على استيعاب المجتمع السوداني بكافة تنويعاته العديدة والمختلفة. فالمفهوم يدلّل على إطار مرجعي ذو طبيعة عالميه يتعدى السودان ويمكن تطبيقه في مناطق نزاعات أخرى شبيهة داخل وخارج القارة الأفريقية، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل حالة وفق شروطها الموضوعية. فوق كل ذلك يجب أخذ المشروع في الأساس على أنه إسهام فكري ضمن أدبيات الخطاب السياسي السوداني المستجد والجدل المحتدم في شأن إعادة بناء الدولة السودانية.
رؤية السودان الجديد: الأصول والنشأة
كان وراء فكرة السودان الجديد اهتمام الراحل د. جون قرنق بأزمة الحكم في السودان والحرب الأهلية في الجنوب إلى جانب سعيه الحثيث وبحثه الصادق من أجل الوصول إلى سلام دائم وعادل. وكان إخفاق اتفاقية أديس أبابا، التي كان الراحل د. جون قرنق من ألدّ وأشرس معارضيها، لكونها لا تحقق السلام والازدهار لجنوب السودان، هو الذي دفعه إلى التمحيص وإعادة النظر في طرق وأساليب التعامل مع الأزمة السودانية. ولعله تساءل: لماذا يتمادى السودانيون في الاقتتال فيما بينهم إن لم تكن القضايا المتنازع عليها بالغة الخطورة وترقى إلى هذا الحد من الخصومة؟ وخلص إلى أن التهميش بكل أشكاله والظلم والتفرقة والتبعية تشكل جذور المشكلة وهي الأسباب الرئيسية للنزاع، والتي لا يمكن التعامل معها باجتزاء وبأسلوب منح الصدقات وتقديم التنازلات لصالح المتمردين أو الثوار الساخطين كلما اشتعل النزاع في إقليم معين. فللسودانيين مشاكل في الشرق وفي الغرب وفي الوسط وفي أقصى الشمال. أن تعريف المشكلة بأنها "مشكلة الجنوب" تعد في حد ذاتها دعوة للتهميش! اجتهاد جون قرنق قاده لإعادة تعريف المشكلة على أنها "مشكلة السودان" وليست "مشكلة الجنوب" كما دأبت الأنظمة المتعاقبة على الحكم في الخرطوم تقليديا في الترويج لها. إن الدولة السودانية متمثلة في هيكل السلطة في المركز هي التي تحتاج لإعادة هيكلة جذرية حتى تتمكن من استيعاب الأشكال المتعددة للتنوع السوداني والتعامل مع كافة أشكال الإقصاء والتهميش لشعوبها. فالسمكة تتعفن من رأسها لا من ذيلها!
لم يكن قرنق سياسياً ومقاتلاً من أجل الحرية فحسب بل كان باحثاً ومفكراً عالمياً يسعى لتحقيق نظام دولي جديد. وإلى ذلك فهو لم يكن بمعزل عن التأثر بكل نظريات العالم الكبرى واتجاهات الفكر وعلم الثورات، وعليه فإن مفهوم السودان الجديد يأخذ بقليل من قبس الماركسية ومختلف مدارس الاشتراكية، كما يدين بصورة كبيرة للتراث الفكري الإنساني. فضلاً عن أنه يستصحب بشكل كبير تجارب مشابهة في تكوين الأمم وبناء الدول في كل من أمريكا الشمالية واللاتينية. لا غرو إذن أن البدايات الأولى لرؤية د. قرنق للسودان الجديد كان يشوبها بعض النزوع للاشتراكية. وكان الرأي آنذاك بأن الحل الوحيد لعلل البلاد يكمن في إطار سودان موحد تحت مظلة نظام اشتراكي يراعي الحقوق الإنسانية لجميع القوميات ويكفل الحريات لكل الأديان والمعتقدات والرؤى. وعلى كلِ، فإن الإتكاء على الإشتراكية لا يقدح في ولا ينتقص من مرتكزات مفهوم السودان الجديد. مع ذلك فقد أقر الراحل د. قرنق وشدد بأن مضمون هذه الإشتراكية لا يجوز تقريره ميكانيكياً. بالأحرى فإن "تمثّل وتنزيل الإشتراكية" في السودان سينجلي وتتضح معالمه في سياق تاريخي، ومع استمرار الكفاح من أجل التغيير وتطبيق برنامج التنمية الاقتصادية الاجتماعية أثناء الحرب وبعدها، ووفقاً لشروط السودان الموضوعية. إلى جانب ذلك، فإن آخر ذكر للاشتراكية فيما يتعلق بالسودان الجديد كان في معرض حديث قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان في 3 مارس 1984. فالاشتراكية كانت إلهام دفعت به الظروف الموضوعية التي كان لا بد من التفاعل معها والمحيط االسياسى الذي كان قرنق يعمل في إطاره، وهي على أي حال لا تلقى بأي ظلال أيديولوجية على رؤية السودان الجديد.
اعتبارات منهجية: مصدر اللبس والتشويش
الإخفاق في التمييز منهجياً بين رؤية السودان الجديد من جانب، والحركة الشعبية (على المستوى التنظيمي، والمستويين الاستراتيجي والتكتيكي) ومتطلبات العملية السياسية لبناء السودان الجديد في مسيرة الكفاح ( سياسياً وعسكرياً وتفاوضياً)، من جانب آخر؛ يشكل أحد الأسباب الرئيسة في إرباك المفهوم. فبعض المنتقدين والمتشككين دأبوا على الانشغال، ومنذ أن طرح الراحل زعيم الحركة الشعبية فكرة السودان الجديد في النصف الأول من الثمانينات، بتساؤلات حول أصل وبذور تكوين الحركة الشعبية ومكوناتها العرقية وأدائها السياسي والعسكري بينما أولوا قليلا من الاهتمام، إن لم يهتموا أصلا، لاختبار الحركة بشكل موضوعي أو تمحيص ما ظلت تبشر به وتدعو له من رؤية.
فالوحدة مثلاً، في ذاتها قيمة جوهرية تتكامل تماما مع، ولا تنفصل عن رؤية السودان الجديد‘ كما هي هدف كبير تطمح فيه وتتطلع إليه قطاعات عريضة من المجتمع السوداني في كل أنحاء البلاد. هذه الدعوة الأصيلة، على أي حال، لم تجد حظها من القبول الجاد كونها صادرة عن "جنوبي" بل تم ازدرائها وتحقيرها ربما لحين ظهور د.قرنق في الخرطوم ثم رحيله المفاجئ والمأساوي. ورغم أن حق تقرير المصير أصبح مطلباً للحركة الشعبية لتحرير السودان فقط في 1991 تجاوباً مع شروط موضوعية في الخرطوم والجنوب، إلا أنه غالباً ما يتم تصويره وكأنه دليل دامغ على الميول الانفصالية للحركة الشعبية وقائدها. وحقيقة، يجب أن ينظر إلي حق تقرير المصير باعتباره وسيلة أو آلية لتحقيق الوحدة الطوعية في ظل بيئة غير مؤتية وعدائية، فهو ليس من المبادئ الأساسية للسودان الجديد. و هذا ببساطة ما يفسر عدم ظهوره في أدبيات الحركة إلا بعد 9 سنوات من تأسيسها وفي لحظة تاريخية من العملية السياسية للصراع من أجل بناء السودان الجديد .
كما إن فصل الدين عن الدولة هو أيضا أمر جوهري في بناء دولة المواطنة وجزء لا يتجزأ من رؤية السودان الجديد. وهذا بدوره قد شابه الالتباس مع الإستراتيجية السياسية للحركة الشعبية، وبمعنى آخر تم خلط الرؤية مع العائد السياسي للمفاوضات. ربما لذلك استشعر بعض الناس أن الحركة الشعبية بقبولها لمسألة الإبقاء على، وتطبيق الشريعة في الشمال قد ارتدّت عن موقفها فيما يختص بالعلاقة بين الدين والدولة. ولكن، لابد أن ندرك أنه في سياق الظروف التي كانت تحيط بالمفاوضات كان هناك اختياران فقط على الحركة الأخذ بأحدهما. أحد الخيارات كان أن تتمسك الحركة بفصل الدين عن الدولة في جميع أنحاء السودان مما سيؤدي إلى تجميد أو انهيار المفاوضات، ولم يكن ذلك ليبدو سائغاً لقواعد الحركة في الجنوب أو مقبولا للشعب السوداني ولا للوسطاء. أسوأ من ذلك أنه كان ممكناً أن يعود بالبلاد إلى دائرة الاحتراب. الخيار الثاني يتمثل في السعي من أجل الوصول إلى حلول عملية من شأنها إنهاء الحروب دون التفريط في حقوق المواطنة لغير المسلمين، ليس في الجنوب فقط، إنما في عموم السودان. لذلك فإن ما تم إنجازه عبر التفاوض كان مجرد خطوة للأمام في العملية السياسية الطويلة والشائكة لبناء السودان الجديد.
وكما ألمحنا أعلاه، فإن نموذج الدولة الواحدة بنظامين كان رد فعل مباشر لموقف الحكومة المتشدّد حول فصل الدين عن الدولة. وقام النموذج على مقترح الترتيبات الكونفدرالية الذي طرحته الحركة منذ بداية المفاوضات، والتفكير الذي ساور البعض بأن النموذج صنيعة أمريكية أو أجنبية فيه مجافاة للحقيقة ومطاوعةً للظنون. ولذلك استهدف المقترح تأكيد الوحدة الوطنية دون الحط من قدر غير المسلمين وتحويلهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية في وطنهم. والواقع أن مقترح الكونفدرالية كان يمثل النموذج الثاني من النماذج الخمسة المطروحة في ورقة (وسائل حلّ النزاع السوداني) التي قدمها زعيم الحركة في عام 1993 أثناء مفاوضات أبوجا. ولم يكن د. قرنق تحت تأثير أي وهم بأن النموذج الثاني (دولة واحدة بنظامين)- والذي تمخض عن اتفاقية السلام الشامل- يمثل أو يرقى إلى السودان الجديد الذي تصبوا إليه الرؤية. ولذلك أطلق على هذا النموذج (السودان الجديد في حدّه الأدنى) ويستند إلى فرضية أن الترتيبات الكونفيدرالية ستوفر مساحة لتطوير وتعزيز رابطة سودانية جامعة خلال فترة انتقالية قد تقود إلى (سودان متحّول ديمقراطيا) كما يشير (النموذج الأول) أو إلى تقسيم البلاد إلى دولتين مستقلتين ( النموذج الخامس). أما النموذج الثالث فيقوم على فرضية سودان عربي إسلامي يسيطر على الجنوب (وضعية ما قبل اتفاقية السلام الشامل) والذي يفضي بالتأكيد إلى انفصال الجنوب. و(النموذج الرابع) هو نموذج نظري بحت يقوم على افتراض سيطرة دولة علمانية افريقية محلية تؤدي إلى تكوين دولة مستقلة في الشمال. أما الطريقة المثلي للمحافظة على الوحدة فتتمثل في التحول مباشرة من النموذج الثالث (السودان القديم) إلى النموذج الأول (سودان متحّول ديمقراطيا)، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بهزيمة نظام السودان القديم المسيطر هزيمة حاسمة ونهائية. وعلى أي حال، إن لم يكن ذلك ممكناً واختارت الحركة المفاوضات كطريق تسوية النزاع، فإن الخيار الأفضل الثاني يتمثل في التوجه نحو السودان الجديد عن طريق النموذج الثاني (السودان الجديد في حده الأدنى، الكونفيدرالي) أو نموذج (دولة واحدة بنظامين). والواضح أن هذا الخيار يعني القبول بمخاطرة احتمال الانزلاق نحو النموذج الخامس (الانفصال) باعتباره مساوياً لتكلفة فشل القوى الداعية لسودان جديد وديمقراطي في تحقيق انتصار حاسم ونهائي على النظام. وهذا بالتأكيد ليس خياراً انفصاليا. ولكن السير إلى نهاية الطريقً حتى يتحقق السودان الجديد فليس بمسئولية الحركة الشعبية بمفردها ولوحدها، وإنما يمثل تحدياً لكل قوى التغيير الأخرى، خصوصا في شمال السودان‘ والتي يفترض أن تقوم بكل ما هو ضروري وأن تلعب الدور المطلوب لتحريك الأوضاع من النموذج الثاني إلى النموذج الأول، بدلاً من السماح لها بالانحدار نحو النموذج الخامس. وهذه كلها عملية سياسية في سياق الصراع من أجل التغيير ويجب أن لا نخلط بينها وبين رؤية السودان الجديد.
هناك اعتبار منهجي آخر تجدر ملاحظته وهو أن السودان الجديد ليس بنقيض للسودان القديم، كما أن الرؤية لا تهدف إلى هدم السودان القديم كليةً وبناء سودان جديد على أنقاضه. فبناء السودان الجديد هو بالأحرى عملية "تحويلية" قوامها إحداث تغييرات اقتصادية واجتماعية جوهرية وإعادة هيكلة سياسية تستصحب كل العناصر الإيجابية في السودان القديم مسترشدة بكل تجاربنا التاريخية والمعاصرة، ومدركة بل ومؤهلة لمجابهة التحديات الضخمة للقرن الحادي والعشرين. وستكون مهمة الحركة الشعبية وقوى التغيير الأخرى، خصوصاً في الشمال، والتي نشأت وترعرعت في السودان القديم نفسه، الأخذ من أفضل مكوناته وأكثرها إيجابية ورقيا في سياق التجارب الخاصة لكل من هذه القوى لقيادة عملية التحوّل صوب سودان جديد.
من جانب آخر، فهنالك بعض القوى التي استفادت ومازالت تستفيد من السودان القديم وهي تعي جيداً أن في السودان الجديد تهديدا لمصالحها سواء كانت تلك القوى في سدة الحكم أم كانت معارضة له. وهذه القوى ماضية في عزمها على تضليل قواعدها وبث الخوف في صفوفها بأن مفهوم السودان الجديد ما هو إلا اسم مستعار وتجميل لفكرة تكرّس دولة إفريقية مسيحية مناهضة للإسلام والعروبة وتعمل بالتنسيق مع الصهيونية على استبدال الهوية الأسلاموعربية للسودانيين (خصوصاً في الشمال). إن هذه الادّعاءات غير المؤسسة والتي تذكي جذوتها النعرة العنصرية والهوس الديني قد تم التصدّي لها بصلابة في أماكن أخرى وتجاوزها الزمن تماماً؛ وحتى في ورقة (وسائل حلّ النزاع السوداني) التي طرح فيها زعيم الحركة الشعبية نماذج الحل الخمسة في عام 1993 أثناء مفاوضات أبوجا، أكّد الراحل على أن النموذج 4 (حيث السيادة لدولة أفريقية علمانية) هو نموذج افتراضي ونظري بحت. وفى حقيقة الأمر، إذا كان النموذج الأول، سودان ما قبل اتفاقية السلام الشامل (السودان العربي-الاسلامى) تستحيل استدامته فكيف يستقيم عقلا أن يفكر صاحب هذه الرؤية الثاقبة في سودان على (النموذج 4) غير قابل للحياة، على حد سواء!
ومثال صارخ للالتباس والخلط بين رؤية السودان الجديد والحركة الشعبية، كتنظيم سياسي، مقال نشر مؤخرا في صحيفة "سودان تريبيون" والذي اعتبر خطأ استخدام عبارة "السودان الجديد" لوصف المناطق الواقعة تحت سيطرة الجيش الشعبي في الجنوب، جبال النوبة والانقسنا، وكأنها تتطابق مع تعريف جغرافي لمفهوم السودان الجديد من قبل الحركة الشعبية. وبالطبع ليس هذا بصحيح ومن السذاجة بمكان أن يصدر من حركة ظلت تقاتل أكثر من عقدين من الزمان من أجل التغيير.
السودان الجديد: إطار قومي لإعادة بناء الدولة السودانية
السودان القديم: ما خطبه؟
اتساقاً مع تعريف الأزمة السودانية بأنها "مشكلة السودان" وليست "مشكلة الجنوب" فحسب، فإن تصور الحل يكمن في تحوّل السودان ككل، وذلك بعد إجراء تحليل متعمق ودراسة متأنية للسودان القديم. ويتجلى المدخل لهذا الحل في تكشّف أزمة الهوية الوطنية التي أفرزتها أطر الحكم بعد الاستقلال في أغلب أنحاء القارّة الأفريقية. فأزمة الهوية هي نتاج لتطوُّر تاريخي. فقد تشكلت الدولة الأفريقية (أو السودانية) تاريخياً من عدة عناصر وتنويعات إثنية وعرقية وثقافية وسمتها بتركيبة تعدّدية. فكانت الدولة الأفريقية، ولا تزال، تتألّف من وحدات عرقية متمايزة، لدرجة أنه كان من الممكن لغالبيتها أن تزعم إبان الاستعمار بأنها قومياتٌ قائمةٌ بذاتها. وفيما درجت السلطات الاستعمارية على تطبيق سياسات تفاضلية تمايز سياسياً واقتصادياً بين المجموعات والأقاليم المختلفة، لازم تلك التعددية تفاوتاً كبيراً في صوغ معادلة السلطة وتقسيم الثروات القومية والخدمات الاجتماعية وفرص التنمية. وأفضى هذا التنوع الغزير مقروناً مع تلك التباينات الشديدة إلى زرع بذور النزاع والشقاق بين العناصر المكونة لهذا التنوع. وبدلا عن أن تنشد حلولا بعينها لمعالجة هذه التباينات عبر انتهاج نظام تمثيل عادل وتوزيع منصف للثروات، فإن غالبية حكومات ما بعد الاستقلال آثرت فقط الركون مجملاً إلى تبنّي الأنماط الدستورية التي خلّفها المستعمر. وباتّخاذها ذاك المنحى أرست تلك الحكومات مفاهيم أحادية جامدة للوحدة تمّخض عنها قمع أشكال التنوّع العديدة، منتقصةً بذلك حقوق العديد من الأفارقة، تاركةً إيّاهم بلا حول ولا قوة، يتطلعون ليس فقط للاعتراف بخصوصية هوياتهم إزاء هيمنة الأغلبية بل لتمثيل كياناتهم عبر الأطر الدستورية وأنظمة الحكم في الدول التي يعيشون في كنفها. أفضت هذه السياسات في العديد من الأقطار الأفريقية إلى النزاع المسلح والمطالبة بحق تقرير المصير بشتى الصيغ والدرجات .
لا يستثنى السودان من هذا الواقع، إذ أن القطر عانى طيلة سبعة عشر عاماً حرباً انفصالية اشتعل فتيلها قبل أربعة شهور فقط من الاستقلال. توقفت تلك الحرب مؤقتا نتيجة لاتفاقية سلام هشة دامت عقدا من الزمان اشتعلت بعده الحرب مجددا بسبب نقض الحكومة، من جانب واحد، للاتفاقية. ومن هنا جاءت تساؤلات الراحل قرنق حول كنه المشكلة ولماذا يعرض أي مجتمع نفسه لأجيال من المعاناة والاقتتال على امتداد البلاد؟ إن محاولات الأنظمة المتعاقبة على الحكم في الخرطوم منذ 1956 إقامة وحدة تقتصر على اثنين فقط من مكونات التنوع التاريخى والمعاصر مع إقصاء محددات التنوع الأخرى لهو أساس مشكلة السودان الذي ينبغي تعريف الأزمة السودانية على ضوئه. هكذا عمدت الدولة السودانية إلى إقصاء الغالبية العظمى لأهل السودان من المشاركة في الحكم وبالتالي تهميشها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مما حرض المهمشين للجوء إلى المقاومة. ولطالما كان السودان ولا يزال يرزح تحت نير الحروب، كما برهن على ذلك مؤخراً النزاع المسلح والاقتتال الدائر في دارفور وشرق السودان. ومرد ذلك ببساطة هو أن الأغلبية في السودان لم تعد مشاركة أو صاحبة حق في حكومات يفترض أنها تمثلها. ويكمن الحل لهذه المشكلة الأساسية في بناء دولة سودانية تسع الجميع بلا استثناء؛ أي دولة مواطنة حقة وإدارة حكم سياسية جديدة يتساوى فيها السودانيون في الحقوق والوجبات بغض النظر عن الدين والأصل والعرق والقبيلة والنوع.
دعائم السودان الجديد
خلافا للإستراتيجية السياسية والمواقف التفاوضية للحركة الشعبية لتحرير السودان، فإن المرتكزات النظرية للسودان الجديد المفصلة في مارس 1985 ظلت ثابتة لم تتغير، وإنما استفيض في بيانها وتفصيلها، نورد حيثياتها فيما يلي.
بلورة الهوية السودانية
بلا شك أن السودان مجتمع متعدد الأعراق والثقافات. وإن إحدى مشاكل السودان القديم أنه كان، وما زال، يبحث عن ذاته ويطرح تساؤلات مضنية حول هويته الحقيقية، فنحن قطر عربي كما أننا قطر أفريقي، ولكن هل نحن هجين؟ هل نحن عرب أم أفارقة؟ فمن نحن؟ وحينما نفشل في تعريف هويتنا، بسبب أننا لا نبحث عنها داخل السودان بل نبحث عنها بالخارج، "يلوذ البعض بالعروبة وإذ يخفقون في ذلك يلجأون إلى الإسلام كعامل موّحد، بينما يصيب الإحباط البعض الآخر حال إخفاقهم في إدراك كيف يكونون عرباً بينما اقتضت مشيئة الخالق خلاف ذلك؛ فيلجأون للانفصال". أما السودان الجديد فتتساوى في الإنتماء إليه كل القوميات التي تقطنه الآن؛ وما تاريخه وتنوعه وثرواته إلاّ تراثاً مشتركاً بينها. إذن فلن يصح تعريف الهوية السودانية وفقاً لعاملين اثنين فقط (العروبة والإسلام) مع استبعاد بقية المحددات الجوهرية المتجذرة في تنوع السودان التاريخي والمعاصر. لذلك فإن عملية البناء الوطني تستوجب إمعان النظر داخل القطر واستصحاب تجارب الآخرين وصولاً لتكوين أمة سودانية متفردة. وهناك العديد من الأقطار والشعوب والأمم ممن فعل ذلك. "فقد هاجر الإنجليز إلى أمريكا وأنشئوا ثلاثة عشر مستعمرة، ولكن ظلوا كما هم ذات الإنجليز يتحدثون الإنجليزية ويدينون بالمسيحية كما اضطروا إلى محاربة إنجلترا لنيل استقلالهم. وهاهم الآن الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يدّعون أنهم إنجليز رغم تحدّثهم بالإنجليزية. الإنجليزية هي لغة أمريكا ولكن تلك البلاد هي أمريكا وليست إنجلترا. مثال آخر جيد ساقه البرتغاليون والأسبان. والأسبانية هي لغة الأرجنتين وبوليفيا وكوبا، مع ذلك يظلون نفس الدول وليس أسبانيا. وبالمثل لا يمكن الزعم بأن العربية في السودان هي لغة العرب وإنما لغة السودان وأهل السودان" .
الوحدة على أسس جديدة
أن الوحدة التي تأسس عليها السودان القديم ليست حيوية وغير قابلة للبقاء أو الاستدامة. فهذه الوحدة متجذرة في الهيمنة السياسية والثقافية والاقتصادية لبعض النخب والمجموعات بينما أستبعدت مجموعات أخرى أساسية من عملية صياغة أسس المجتمع السوداني وتم عزلها عن المشاركة الفاعلة في السلطة السياسية وعن التعبير عن هوياتها القومية والثقافية وعن قسمة نصيبهم في الثروة القومية، وتم كل ذلك في إطار نموذج تنمية غير متكافئة. إن للسودان تاريخ عريق وغني منذ أيام الحضارة الكوشية التي ترجع إلى آلاف السنين قبل ميلاد المسيح، وهذا ما نعته الراحل قرنق بالتنوع التاريخي. بينما يشكل سودان اليوم محصلة ناقصة ونتاج غير مكتمل لعملية تفاعلات وتحولات تاريخية طويلة ومعقدة أنتجت هذا المزيج المتنوع عرقيا وثقافيا ودينيا ولغويا واقتصاديا وجغرافيا. وتمثل هذه التشكيلة التنوع المعاصر للسودان. اقتصر السودان القديم وحدة البلاد على محددات وعناصر انتقائية من المجموع الكلي للعناصر التي تشكل جميعها التنوع التاريخي والمعاصر للسودان، بينما تم إهمال وتجاهل مكونات حيوية ومفتاحيه أخرى.
إن الوحدة التي تأسست على هذه المكونات الجزئية وما صاحبها من تبعات سياسية واقتصادية واجتماعية ستظل دوما هشة وغير قابلة للاستمرار. فلابد للترتيبات الدستورية والمؤسسية وبرامج وسياسات السودان الجديد من أن تعكس هذين النوعين من التنوع التاريخى والمعاصر. وهذا من المتطلبات الضرورية لبناء أمة عظيمة موحدة طوعيا في تنوعها بدلا عن أمة منقسمة على نفسها بسبب التنوع. بل إن الإصرار والمثابرة على تماثل دين واحد مع الدولة، وبالتالي إقامة دولة دينية لا يقود إلا لإحداث شروخ عميقة في نسيج المجتمع السوداني مفضيا في آخر الأمر إلى تشظى البلاد وتفسخ الدولة السودانية. ومرد ذلك ليس فقط لأن كل السودانيين لا يدينون بالإسلام، بل لا يوجد إجماع حول قوانين الشريعة حتى وسط المسلمين أنفسهم. ولذلك يجب أن لا نسيء تفسير المقصود بفصل الدين عن الدولة، سواء كان ذلك عمدا أو عن جهل، ليعنى إبعاد الدين عن الحياة والمجتمع ولو بأي شكل من الأشكال. فهذا ليس بممكن لأن الدين جزء أصيل من الإنسانية. علاوة على أن كل السودانيين لهم معتقداتهم، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يعتقدون في الديانات الأفريقية التقليدية. فكل ما تقترحه رؤية السودان الجديد هو أن الدين ينظم العلاقة بين البشر وخالقهم وهى علاقة بطبيعتها محكومة بالتشريعات الدينية في المجال الخاص. بينما الدولة مؤسسة اجتماعية وسياسية استنبطها البشر وينتمي إليها الجميع بغض النظر عن معتقداتهم الدينية المختلفة. ولهذا كان الراحل د. قرنق يتساءل في تعجب: لماذا نغرق أنفسنا في خلط المواضيع و نفرق بين شعبنا فينقسم الناس ويحصدون الشقاق نتيجة لذلك !!
إعادة هيكلة السلطة
وهذا يعنى ابتداء إعادة هيكلة السلطة المركزية بصورة تضع في الاعتبار مصالح كل المناطق والقوميات المهمشة، سواء أولئك الذين حملوا السلاح أو الذين ظلوا يعارضون بصبر وفى صمت. وهذه هي الطريقة الوحيدة لإنهاء احتكار السلطة في يد فئة قليلة أيما كانت خلفياتهم وسواء جاءوا في زى الأحزاب السياسية أو أسر حاكمة أو طوائف دينية أو ضباطا في الجيش. فقد كان تمثيل الجنوبيين والمجموعات المهمشة الأخرى في الحكومات المركزية دائما رمزيا وبدون استشارة أو مشاركة فعالة في عملية تكوين هذه الحكومات، فغالبا ما تتم دعوة هذه المجموعات للانضمام إلى الحكومات "الوطنية" كطفيليين أو متفرجين وليس كشركاء متساوين وأصليين. وقد دفع هذا الإقصاء بالنخب والمتطلعين إلى السلطة في هذه المناطق للرجوع إلى، والاتكاء على قواعدهم الاثنية والإقليمية والى تكوين حركات وتنظيمات سياسية إقليمية. وهذا ما وصفه الراحل قرنق "بالصدف التي لا تحدث صدفة!" إذ دائما ما تنتهي السلطة بيد مجموعة أو مجموعات معينة من شمال السودان. وثانيا، التشديد على لامركزية السلطة وذلك بإعادة تعريف العلاقة بين المركز في الخرطوم والأقاليم ومنح سلطات أوسع لهذه الأقاليم في شكل فدرالي أو حكم ذاتي، أين ومتى ما كان ذلك ضروريا، حتى تتمكن الجماهير، وليس النخب الإقليمية، في ممارسة سلطات حقيقية من أجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية وترويج وتطوير ثقافاتهم المختلفة.
الحكم الديموقراطى وحقوق الإنسان
وما يجب التطلع إليه والترويج له وحمايته هو سودان جديد ديموقراطى لا تكون فيه المساواة والحرية والعدالة الاقتصادية والاجتماعية مجرد شعارات بل واقعا ملموسا يعيشه الناس. فالديمقراطية في السودان الجديد ليست هي ديمقراطية الماضي الصورية والإجرائية والتي كانت بمثابة تمويه لإدامة المصالح المكتسبة لبعض المجموعات. فقد خضعت الحقوق المدنية في تلك الديمقراطية الصورية لأهواء الحكام، بينما ظلت الأغلبية في الأقاليم على هامش السلطة المركزية والتي تعاملت معها وكأنها تابع يسهل التخلص منه أو مناورته بالتحايل والنفاق السياسي. يمثل التحول الذي تنشده رؤية السودان الجديد نقلة في المنظور الاقتصادي والاجتماعي يستلزم الاعتراف بالتنوع السياسي وذلك بضمان الحرية الكاملة للتعددية السياسية. وهذا بالضرورة يستدعى تعميق حقوق الإنسان وكافة الحقوق الدستورية واحترام استقلال القضاء، بما في ذلك محكمة دستورية لا تنتهك حرمتها والالتزام بحكم القانون من قبل الحكومة والمحكومين وتأسيس خدمة مدنية ذات كفاءة واستقلال حقيقي على كل مستويات الحكم. كما تسعى رؤية السودان الجديد إلى إعادة صياغة النظام التشريعي بأسلوب يضمن تحقيق التوازن والضبط ويكفل السلطات الممنوحة للأقاليم لكي لا يتم سحبها أو إضعافها بواسطة مراكز السلطة الأخرى. فيجب أن لا تؤخذ الديمقراطية كوسيلة للصراع من أجل السلطة واستحقاقاتها فحسب، بل لابد من فهمها كنظام تنافسي لترسيخ الحكم الراشد وضمان توفير وتطوير الخدمات الاجتماعية ووصولها لأهلنا في كل أنحاء السودان بدون الخدش في كرامتهم أو الانتقاص من قيمتهم الإنسانية.
التنمية المتوازنة والمستدامة
لا يكتمل مشروع السودان الجديد بدون تطوير منظومة اقتصادية يتم من خلالها الاستخدام العقلاني والرشيد لموارد البلاد الطبيعية والبشرية الوفيرة لوقف التنمية غير-المتكافئة ولوضع حد لكل أشكال التهميش والحرمان وللتوزيع العادل لثمار النمو والتنمية. ويمثل الاقتسام الملائم والعادل للثروة بين شعوب وقوميات السودان المختلفة جزءا لا يتجزأ من منظومة التنمية المتوازنة.
خاتمة
إن الأزمة الوطنية التي أبتلى بها السودان منذ استقلاله في 1956 هي في الأساس أزمة هوية أساسها عجز السودانيين عن التصالح مع واقعهم الثقافي والاثنى والذي يجعل منهم أمة. فجاءت رؤية السودان الجديد في جوهرها كإطار قومي ورابطة اقتصادية واجتماعية وسياسية متجذرة في ومستوعبة للتنوع المتعدد الذي يتميز به السودان. فهي، إذن، إطار لإعادة تشكيل كل السودان وصوغ الديمقراطية وتحقيق المساواة والحرية والتقدم، وهذه كلها مكونات أساسية للاستقرار والديمقراطية الحقيقية. وهذا بالتحديد ما يميز السودان الجديد عن السودان القديم والذي تأسس على عنصرين فقط من مكونات التنوع التاريخى والمعاصر للسودانيين. فجوهر الرؤية هو الإدارة العادلة للتنوع واحترام هويات وثقافات كل المجموعات القومية. وبالرغم عن أن السودان هو منطلق وبؤرة اهتمام رؤية السودان الجديد إلا انه يمكن تطبيقها عالميا في الدول والمناطق الأخرى التي تمزقت أوصالها بسبب التنوع والتباين العرقي والاثنى والثقافي والديني. وبذلك، فان الرؤية ليست بعقيدة أو أيديولوجية للحركة الشعبية، ومن ثم يجب أن لا نخلط بينها وبين الهيكل التنظيمي للحركة أو استراتيجياتها وتكتيكاتها وما يصاحبها من عمليات سياسية تهدف إلى تحقيق الرؤية، ولو أن كل هذه مواضيع مشروعة للنقاش والحوار والتقييم النقدي.
توسيع دائرة الحوار
إن حالفني التوفيق في توضيح رؤية السودان الجديد من خلال هذا العرض، فإن قاعدة إتحاد الكتاب السودانيين وكل المشاركين في هذا المؤتمر العام سيوافقونني الرأي على الآتي:
• هذه الرؤية هي بمثابة مشروع قومي لبناء سودان موحّد وقابل للحياة يجنّب البلاد خطري التفكك والانشطار. فالرؤية للسودان القديم المنافسة في كلتي نسختيه، منذ الاستقلال وحتى 1989 ومن 1989 إلى 2005، قد أخفقت في صون وحدة البلاد واستدامتها؛ بينما رؤية السودان الجديد ترتكز على مفهوم المواطنة الذي لا شك عندي أن غالبية الحضور في هذا المؤتمر يساندونه.
• الحركة الشعبية لتحرير السودان هي التي تقدمت برؤية السودان الجديد. ولكن، مثلما أن السودان القديم يتعرض لتغيّرات جذرية في مسيرة انتقاله نحو السودان الجديد فإن الحركة الشعبية لتحرير السودان نفسها لابد أن ينالها التطوير وتخضع بذلك لتحولات أساسية. ورغم أن الحركة ظلت تحتفظ بمضمونها الرئيسي، إلا أنها شهدت تحولات عبر السنين، وفي غضون تلك التحولات بدت الحركة مختلفة في المراحل المختلفة للكثير من الناس وجماعات المهتمين مما يفسر اللبس- القائم عند البعض- حول طبيعة ومضمون الحركة الشعبية. إن اتفاقية السلام الشامل، والتي أفضت إلى أكثر التحولات الدستورية جذرية بعد الاستقلال، قد أدخلت الحركة الشعبية لتحرير السودان في مرحلة جديدة (جمهورية ثانية) تتسم بالعديد من حالات الانتقال وما تستدعيه من إدارة فاعلة لهذه التحولات. فبانتقالها من مربع الحرب للسلام فان الحركة الآن مواجهة بإدارة تحول دقيق ثلاثي المسارات: أي من تنظيم سياسي-عسكري إلى حركة سياسية، ومن حركة إقليمية إلى حركة قومية ، ومن خانة المعارضة إلى الشراكة في الحكومة. أضف إلى كل هذا الرحيل المفجع والمفاجئ لزعيمها والذي بلا شك قد زاد وضاعف من أعباء الحركة في التعامل مع هذه التحوّلات المتعددة.
• رؤية السودان الجديد ليست برنامجاً تحتكره الحركة الشعبية وحدها أو أي كيان سياسي آخر منفرد، وإنما كما قدمنا، هي إطار قومي من شأن الأحزاب والتنظيمات السياسية وضع سياساتها وبرامجها الخاصة على ضوئه.
• كان الراحل زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان مدركاً منذ تأسيس الحركة أنها لن تكون قادرة بمفردها على تحقيق التحوّل من السودان القديم صوب السودان الجديدً. لذلك، كان الراحل حريصاً منذ البداية على خلق صلات مع ومد يديه إلى مختلف القوى السياسية والاجتماعية في الشمال. كما كان له دورا محوريا في جمع هذه القوى في وقت مبكر في كوكا دام-إثيوبيا في مارس 1985. كما كانت الحركة الشعبية عضوا فاعلا في التجمع الوطني الديموقراطى وتبوأ قائدها رئاسة القوات المشتركة للتجمع. وهكذا، فإن الحركة الشعبية أقامت تحالفات مع جميع القوى السياسية الحديثة والتقليدية بغرض المضي قدماً بعملية البناء الوطني. ورغم أن أوضاع ما بعد اتفاقية السلام الشامل قد خلقت واقعا سياسياً جديداً إلاّ أن الحركة الشعبية عازمة على التفاعل مع القوى السياسية الأخرى بإقامة تحالفات تخدم أهداف ومرامي السودان الجديد.
إن منظمي هذا المؤتمر جديرون بالثناء لطرحهم رؤية السودان الجديد للمناظرة والنقاش في هذا المنبر المعتبر. ولكن من الأهمية بمكان أن نمضي قدما بهذا المجهود وذلك بتوسيع دوائر الحوار عن طريق الدراسات والأبحاث الجادة وبإشراك كل قوى التغيير، خصوصا في الشمال.
أولاً: من المهم تحديد المواضيع والقضايا الملحة التي طرحتها الرؤية وما تستدعيه من بيان وتفصيل. إن قائمة مختصرة بهذه القضايا تشمل ضمن أخريات: ثنائيات السودان القديم/الجديد، الحداثة/التقليد، مفهوم التهميش، قضية العرق والطبقة، التعددية الديمقراطية والثقافية، قضايا المرأة والحقوق المتساوية، الديمقراطية وحقوق الإنسان، الدستور وحكم القانون، الثقافة ووسائل الإعلام، اقتصاد السوق وتطوير القطاع الخاص.
ثانياً: يبدو أن الوقت قد حان بأن تدخل قوى التغيير والسودان الجديد في الشمال والحركة الشعبية في حوار صريح وبناء حول الانتقال نحو السودان الجديد في سياق اتفاقية السلام الشامل. في هذا السياق يبرز سؤال هام حول كيف لنا أن نوظف الوضع الجديد الذي أرست قواعده اتفاقية السلام الشامل لصالح الدفع بمشروع السودان الجديد إلى الأمام، وهو سؤال يشكل في حد ذاته مجالا خصبا للبحث والتفاعل والحوار. فان كان البعض يرى بأن الحركة الشعبية قد تراجعت عن رؤية السودان الجديد وتقزمت إلى محض حركة إقليمية جنوبية فما هو موقف قوى التغيير الأخرى في الشمال؟ إن السؤال الذي يغلب تأطيره بشكل خاطئ في الشمال حول مصير الشماليين في الحركة بعد رحيل د. قرنق يجب إعادة صياغته ليكون: ما هو مصير كل الشماليين وليس فقط المنتسبين للحركة إذا تراجعت إلى كيان سياسي جنوبي؟ هل لهذه القوى أي مشروع بديل لرؤية السودان الجديد؟ أليس من صميم مصلحة السودانيين في الشمال، خصوصا المتطلعين إلى سودان جديد موحد، مؤازرة الحركة عبر المشاركة الفاعلة في تحولها إلى حركة سياسية قومية وذلك باعتبارها الضمان الوحيد لمحاصرة الأجندة الانفصالية والاتجاهات القائمة على الانتماءات الضيقة للتيارات المنكفئة على ذاتها؟ كيف يمكن مناقشة ومعالجة كافة هذه القضايا المطروحة؟ ومن ناحية أخرى، إذا أخفقت الحركة الشعبية في تحويل نفسها إلى حركة قومية قوية، فالتنظيمات السياسية ليست بمعصومة عن الفشل، فما هي الإستراتيجية- فكريا وتنظيميا- التي أعدتها (أو ستقوم بإعدادها) قوى التغيير في الشمال لتحقيق أهداف السودان الجديد- أو لنقل أهداف التحول الديموقراطى؟ ففي سياق تطورها طرحت الحركة "مشروعا وطنياً ديمقراطياً" هو الوحيد، في رأي، القابل للتطور والتطبيق. ويحمل هذا المشروع كل ما هو ايجابي وثمين في تجربة الحركة الشعبية، كما يأخذ من قوى السودان الجديد في شمال السودان أرقى وأكثر مكونات تجاربها السابقة ايجابيةً، إضافة إلى العناصر الايجابية للسودان القديم. إذن، فالسؤال الأهم الذي يطل برأسه (سؤال المليون دولار): ما هي الاستراتيجيات بعيدة المدى لقوى التغيير في الشمال إذا صوت الجنوبيون لصالح الانفصال في الاستفتاء المقرر بنهاية الفترة الانتقالية؟ وما هي طبيعة "دولة شمال السودان" التي يطمحون لبنائها؟ أوليس ذلك احتمال يلوح في الأفق؟