وزعت بعض الدوائر منشورات ممهورة باسم السيوعيين ، فى الأيام القليلة الماضية . تدعو فيه المواطنين الى نبذ الدين الاسلامى واسقاطه ، واعتناق الشيوعية . معلى أثر هذه المنشورات نظمت حملة فى المساجد ضد الشيوعيين "الذين يهاجمون معتقدات أغلبية سكان السودان ، وطالب بعض خطباء المساجد فى ذلك اليوم بوجوب اهدار دم الشيوعيين .
دفاع عن أفكارى :
ان هذه الحوادث لها خطورتها وهى فى رأيى تمسنى شخصيا لأنى أنتهج السبيل الماركسى فى ثقافتى وتصرفاتى وأؤمن بالنظرية العلمية الشيوعية ، وكل معارفى وأصدقائى يعرفون منذ زمن بعيد هذه الاتجاهات والثقافة التى أحملها . وأننى أتحمل مسئولية ازاء هؤلاء الأصدقاء والمعلرف وبينهم من يحمل اتجاهات معادية لأفكارى . بينهم من حظى بثقافة اسلامية أو مسيحية وبينهم الشخص العادى الذى يضطر فى الحياة دون فلسفة أو ثقافة .
ان انزعاج هؤلاء الاخوان يضع على عاتقى مسئولية أدبية فى توضيح رأيى وفق الثقافة التى أعتنقها ثم أن الدراسة الشيوعية من المدارس الفكرية التى تعيش فى بلادنا منذ فترة طويلة – وهى ككل ثقافة تسعى الى توسيع دائرة مؤيديها ، وقد دارت بينه وبين مؤيدى المدارس الفكرية حرب ما زالت قائمة حتى اليوم . بل هى أشد الآن منها فى أى وقت مضى . أن اهتمامى الكبير بمصير هذه الثقافة التى أعتز بها وأكن لها كل احترام وتجلة ، يلقى على عاتقى مسئولية توضيح موقفها ازاء الحوادث الأخيرة .
لكى أوضح الموقف وغوامضه أستميح القارىء عذرا اذا بسطت له جزءا من تجربتى المتواضعة : كيف أصبحت شيوعيا .
تجاربى :
فى نهاية الحرب العالمية ، عندما دب الوعى الوطنى فى أرجاء بلادنا ، انتظمت كغيرى من الطلبة المتحمسين فى غمار هذه الحركة يحدونى أمل ، هو المساهمة فى تخليص بلادى من نير الاستعمار . تحدونى حالة الفقر والؤس التى كان ومازال يحس يها المواطنون المتطلعون الى غد مشرق ، ملىء بالعزة والكرامة . وقد علقت الآمال حينذاك على زعماء حزب الأشقاء ، فى تحقيق تلك الأهداف التى آمنت بها . وهكذا وبمثل تلك الآمال العريضة ودعت وفد السودان (لمفاوضات الستقلل) فى مارس 1946.
ولكن هذه الآمال العراض والأمانى الحلوة بدأت تتضاءل أمام ناظرى . فى القاهرة ، وبعيدا عن أعين السودانيين . دب التراخى فى بعض هؤلاء الزعماء ، واستسلموا لراحة الشخصية . وفى غمار هذا الواقع الجديد تناسى الزعماء ما قطعوه على أنفسهم من أن "قضيتنا لا يحلها الا الذين ودعونا فى الخرطوم ، واستقبلونا فى القاهرة ." ... تساءلت ضمن عدد من الشباب عن سر هذه التحولات التى طرأت على مواقف الزعماء ولا يدرى الشعب كنهها .
نظرة سياسية :
وبمجهودى المتواضع ، وحسب قدرتى الفكرية اتضح لى أن هؤلاء الزعماء لا يحملون بين ضلوعهم نظرية سياسية لمحاربة الاستعمار . وأنهم ما أن دخلوا غمار السياسة ى مجتمع متقدم ومعقد كمصر ، حتى صرعتهم النظريات المتضاربة فأصبحوا يتقلبون كما تشاء مصالحهم . عرفت أن الاستعمار له نظريته السياسية التى يحارب بها الشعوب الضعيفة . وأن هذه النظرية نشأت فى مجرى تطور الرأسمالية الأوربية فى القرن الخامس عشر . واذا كان لشعبنا المغلوب على أمره أن يتحرر فلا بد أن يسير على هدى نظرية توحد صفوفه ، وتصرع الاستعمار. على هدى نظرية تسلط الضوء على كل زعيم أو متزعم ولا تترك له فرصة لجنى ثمار جهاد الشعب وتصحيته . على هدى نظرية سياسية تخلص الشعب من الجهل والخمول الذهنى الذى يحوله الى قطع من الشطرنج يحركها الزعماء أنا شاءوا.
لقد هدانى هذا الجهد الى النظرية الماركسية ، تلك النظرية السياسية التى نشأت خلال تطور العلم ، والتى تقوم على أساس اعتبار السياسة والنضال من أجل الأهداف السياسية علما يخضع للتحليل . ولأول مرة عرفت أن الاستعمار ليس شيئا أبديا وانما هو تطور اقتصادى للرأسمالية الأوربية ، وأنه كبقية الأنظمة خاضع للتطور أى أن سينتهى ويحل محله نظام جديد ...
تناسق الماركسية :
وكشخص وضعته ظروف الحياة ، لا كزارع أو صاحب أملاك – بل كمتعلم نال بعض التعليم المدرسى ، كان لابد لى كغيرى أن اقوم بجهد للأنال قدرا من الثقافة ينفعنى فى تطوير فكرى وتوسيعه . لم أكن أهدف الى أى ثقافة ولكن الى الى الثقافة التى تعطى تفكيرا غير مضطرب أو متناقض مع الظواهر الطبيعية والاجتماعية . ان الكثيرين يقرون بأن الثقافة الغربية نقصها التناسق وهى مضطربة لا استقرار لها . وليس أدل على ذلك من الفلسفة الوجودية التى تمخضت عن هذه الثقافة .
ان النظرية الماركسية تمتاز بالتناسق . ولأول مرة تضع قيما عالمية للأدب والتاريخ والفن والفلسفة مما كنا نعتقد أيام الدراسة أنها بطبيعة الحال لا يمكن أن تكون لها قيم أو تشملها قواعد والا فقدت طبيعتها . اننى كفرد يحاول تثقيف نفسه وجدت النظرية الماركسية خير ثقافة وأنقى فكرة .
ان تجربتى البسيطة توضح أننى لم أتخذ الثقافة الماركسية لآننى كنت باحثا فى الأديان . ولكن لأننى كنت ومازلت أتمنى لبلادى التحرر من النفوذ الأجنبى – أتمنى وأسعى لاستقلال بلادى وانهاء الظروف التى حطت علينا منذ عام 1898 – أتمنى وأسعى لاسعاد مواطنى حتى تصبح الحياة فى السودان جديرة بأن تحيا . ولأننى أسعى لثقافة نقية غير مضطربة تمتع العقل وتقد البشرية الى الأمام فى مدارج الحضارة والمدنية .
الشيوعية والاسلام :
هل صحيح أن الفكلرة السياسية الشيوعية تدعو لاسقاط الدين الاسلامى؟ كلا ، ان هذا مجرد كذب سخيف . ان كرتى التى أؤمن بها تدعو الى توحيد صفوف السودانيين المسلمين منهم والمسيحيين والوثنيين واللادينيين ضد عدو واحد هو الاستعمار الأجنبى بهدف واحدهو استقلال السودان وقيام حكم يسعد الشعب ويحقق أمانيه . وان القوى التى تقف حائلا دون اسعاد وحرية السودانى المسلم أوالمسيحى.. لا يمكن أن تكون الاسلام لأننا لم نسمع أو نقرأ فى التاريخ أن الجيش الذى غزا بلادنا عام 1898 هو القآن أو السنة . ولم نسمع فى يوم من الأيام أن المؤسسات الاحتكارية البرطانية التى تفقر شعبنا جاءت على أساس الدين الاسلامى أو المسيحى . ان الفكر الشيوعى ليس أمامه من عدو حقيقى سوى الاستعمار الأجنبى ومن يلفون فى فلكه . اذن أين هذا الهدف من محاربة الاسلام ؟
ان الفكرة الشيوعية تدعو فى نهايتها الى الاشتراكية حيث يمحى استقلال الانسان لاخيه الانسان . أين هذا الهدف من محاربة الدين الاسلامى ؟
ان الفكرة الشيوعية تدعو الى اخضاع العلم والمعرفة لحاجيات البشرية من بحوث علمية ,ادبية وتشذيب الانسان وتحريره من الخوف من المستقبل الذى يدفع الانسان الى الحاجة والى درك لا يليق بالبشرية من سرقة ودعارة واحتيال وكذب . أين هذا الهدف من الدين الاسلامى ؟
بقى أن أقول للدوائر التى أصدرت هذا المنشور أن الرجل الشريف يصرع الفكرة السياسية بالفكرة السياسية ويعارض فكرة معينة بالحجة والمنطق . ان محاولة تزييف أفكار أعدائكم أو من تعتقدون أنهم أعداؤكم ، بهذه الطريقة الصغيرة لا تليق ، فوق أنها عيب فاضح . أما أساليب الدس فهى من شيم الصغار ...