مقالة عبد الخالق فى الرد على أحمد سليمان

فى مجالس الناس كثر الحديث عن القوات المسلحة بوصفها الأمل الوحيد للانقاذ. والحديث بهذا الاجمال خطر ويتجاهل تجربة الشعب فى بلادنا . فقد خبر السودانيون طيلة ست سنوات حكما عسكريا بعينه ، هو حكم كبار الجنرالات من المستوى المركزى الى مستوى الادارة الاقليمية.. وما خرج عملهم ونشاطهم فى حيز القضايا الجوهرية التى تواجه بلادنا بعد الاستقلال عن بعض الاجراءات ، وماكان فى امكانهم ولا فى مصلحتهم ، احداث تغيير جوهرى فى طريق تطور بلادنا .



  



  



  



وحاجة بلادنا التاريخية ليست اليوم فى مستوى بعض الاجراءات مثل "الضبط والربط والتنفيذ السريع" كما أنها ترفض قطعا المسخ الذى سموه حزما فى وسياسة ، فكانت وبالا على حركة الثورة فى بلادنا - احتقر كل فكر تقدمى وأهانه . وعزل بلادنا عن كل تقدم ، فأصبحت مريض افريقيا والعالم العربى بحق .. وشعبنا يعرف جيدا أن طريق الرأسمالية والخضوع لمتطلبات رأس المال الأجنبى التى أصابت الحرية الوطنية فى الصميم ، ما وجدت تمهيدا كما وجدته على أيام حكم الجنرالات .



  



  



  



أن الحديث عن أجهزة الدولة باعتبارها قوة اجتماعية منفصلة عن بقية المجتمع ، ومن ثم اعتبارها شيئا مميزا عن الفئات والطبقات التى جربت فى السلطة وفشلت ، غير سليم ومجاف للحقيقة .



  



  



  



والجماهير المستنيرة التى صنعت وتصنع الآن تاريخ بلادنا ما عادت تحتمل تحليل مجريات الأمور جزئيا . فهى فى الحركة السياسية تتخطى سريعا التحليل فى اطار الأحزاب. هذا الحزب أفضل من ذاك الخ . ان وعيا متزايدا بالنفاذ وراء التقسيمات الحزبية الى الصورة الطبقية الحقيقية للاحزاب يشرف على أقسام من جماهير الشعب السودانى بعد تجارب مريرة من الأمل والانتظار . وقف شعبنا على باب الوطنى الاتحادى حتى مل الوقوف ورجع آسفا حزينا . وعلى أبواب حزب الشعب الديمقراطى ، وبعد ثورة اكتوبر تكرر نفس المشهد ، الا أن الفترة كانت قصيرة وانصرف الشعب فى طريقه .



  



  



  



وعبر التقسيمات الحزبية تظهر بوضوح التقسيمات الطبقية التى تشد الأحزاب ببعضها وتؤكد أن السقوط فى الحكم وفى ميدان اتنمية (عصب التقدم) ليس سقوطا للآحزاب منفصلة عن بعضها ، بل سقوط لطبقات اجتماعية - سقوط لنادى الرأسمالية والطائفيين وعناصر التخلف فى الزراعة بشقيها .



  



  



  



والقوات المسلحة لا تخرج من دائرة التحليل الطبقى ، وتشكل فى مستواها الأعلى وبالتجربة ، جزءا لا يتجزأ من النادى الذى سقط طريقه الاقتصادى . وأصبح لا مفر من نظام سياسى جديد يعقب القوى الاجتماعية التى حكمتنا من قبل وتحكم اليوم فعليا - على تعدد الحكومات الحزبية منها والعسكرية .



  



  



  



وفى ثورة اكتوبر ، ولفترة بسيطة ، أمتحن أيضا شعبنا فى القيادة ، الفئة العليا من البرجوازية الصغيرة ، وخاصة بين أوساط المثقفين . وما استطاعت هذه الفئة - رغم منجزاتها - أن تمنح شعبنا القيادة - فقد كانت أضعف من هذه المهمة التاريخية الثقيلة . لقد كان التفاف الجماهير المتقدمة حول جبهة الهيئات قائدة الاضراب السياسى والقوة الرئيسية فى اسقاط الحكم العسكرى يعبر عن رغبة شعبنا فى السير وراء قيادة جديدة تستطيع أن تحل مشاكله المزمنة لفترة مابعد الاستقلال . وما انهارت جبهة الهيئات لأنه فرض عليها صراع صناعى بين الشيوعيين والاخوان المسلمين - هذا تفسير غير مرض لتجربة شعبية ذات أبعاد واسعة ومعان عميقة .



  



  



  



ماكان الصراع ايدلوجيا بين طريق جديد يعلن سقوط الطريق الثالث الذى أدمى السير عليه أقدام شعبنا ويشق منفذا جديدا للتقدم وبين الطريق القديم . وقد كان الاخوان المسلمون ومازالوا بين البرجوازية الصغيرة الممثلين لمصالح النادى القديم الذى ساقط



  



  



  



فى امتحان القيادة . وفى اللحظات الحاسمة عجزت الفئة الاجتماعية الجديدة التى منحها الشعب تأييدا بالغا عن فهم وادراك القيقة الأساسية للسير بالثورة الى الأملم ، وأعنى قضية الديمقراطية . لقد رجحت تلك الفئة الا من قلة مارست النضال العملى بعد الاستقلال وأخرى انتقلت الى مواقع النظرية الشاملة للتقدم الاجتماعى - رجحت الديمقراطية الليبرالية المشوهة طريقا للسلطة فى بلادنا . وكان هذا اختيارا للطريق القديم للديمقراطية الليبرالية المشوهة والتنمية الرأسمالية وهما لب سلطة النادى القديم فى بلادنا .



  



  



  



اذا فالسلطة الجديدة يبحث عنها فى اطار مفهوم ثورى جديد للدمقراطية ، يدعو كنتيجة منطقية له قوات اجتماعية جديدة لقيادة النادى ، يدعو الناس الذين تتطابق مصالحهم التاريخية مع مصلحة أغلبية أمتنا بمسلك تلك الديمقراطية ، وحل مشكلة السلطة السياسية على أساس هذا المفهوم. ولن نمل القول بأن هذا النادى تقوم دعائمه بين الطبقات الحديثة فى بلادنا من عمال ومثقفين ثوريين وجماهير كادحة فى القرى والبوادى ومن رأسمالية وطنية ذات قدرة حقيقية على العمل فى ميدان التنمية ، لا تلك الفئة الطفيلية فى المجتمع .



  



  



  



والقيادة فى هذا النادى لا يمكن أن تكون مفروضة ، بل هى تنبع من المهمة الجوهرية التى تتجمع حولها تلك القوى الاجتماعية . ومن حقيقة أن الطبقات الحاكمة منذ الاستقلال حتى اليوم فشلت فى مواجهة تلك المهمة وحلها بطريقة سليمة . لذا لم يعد هناك مناص من الاعتراف بأن المهمة الجوهرية لشعبنا بعد الاستقلال أو التى تتحكم فى سير خطاه وتفسر كثيرا من المظاهر التى تثير فى النفس السخط من حيلتنا السياسية والاجتماعية والثقافية ... لذا أصبح أمرا متفقا عليه بأن البديل للخطة الراهنة لحل مهمة النهضة الاقتصادية - التى فشلت على مدى ثلاثة عشر عاما منذ الاستقلال - هى خطة للتنمية على غير الطريقة الرأسمالية ، فان قيادة العاملين فكرا وواقعا هى النتيجة المنطقية للسنوات والأيام المظلمة التى عاشها الشعب السودانى منذ الاستقلال .



  



  



  



وفى نهوض السلطة الجديدة بين أوساط الشعب الواسعة ، بين لهيب الامتحان القاسى الذى تفرضه الثورة المضادة على قوى الشعب فى بلادنا ، وبين البحث الجاد عن أخطاء ونقائص وفضائل العمل الثورى توضع الضمانات والشروط اللازمة لقيام تجمع طبقى جديد مضمون القيادة والثبات ، واضح فكريا لا فى مهمة السير بالثورة الوطنية الديمقراطية قدما ، بل واضح أيضا فى الآفاق الاجتماعية لتلك الثورة .



  



  



  



ما عاد أمرا ممكنا استبعاد النظرية الماركسية عندما تطرح قضية الوضوح لهذا التجمع الطبقى البديل للنادى القديم . فقد دفعت الحركة الشعبية الثمن غاليا وهى تقيم بينها وبين الماركسية حجابا مصطنعا ، وتسلك طريق التجريب . باستبعاد الماركسية عجزت أقسام كبيرة من الفئات الاجتماعية القائدة على التقدم فى العالم الثالث من أن تضع الصيغة السليمة للتحالف بين الطبقات الثورية. عجزت تلك الأقسام عن تطبيق مفهوم سليم للديمقراطية الثورية ، التى ترفع من نشاط الجماهير الشعبية وتطلق قدراتها الخلاقة وتجعلها رقيبة بالفعل على السلطة وتقييد فى نفس الوقت النشاط المعادى للثورة .. عجزت عن أن تبنى مفهوما ثوريا لطبيعة جهاز الدولة القديم وطبيعة الدولة ذاتها . فانقلب ذلك وبالا على حركة التقدم. وأصبحت أجهزة الدولة أداة من أدوات الثورة المضادة التى تلف بليلها الحالك كثيرا من بلدان آسيا وافريقيا اليوم..الخ .



  



  



  



وكل هذه العقبات التى تفرضه فرضا المراحل العليا من الثورة الوطنية الدمقراطية تجد اجابة واضحة فى التطبيق الماركسى بين ظروف حركة التحرر الوطنى العالمية . وكل فئة اجتماعية جادة فى هذه الظروف لا بد أن تعمل الفكر فى تلك القضايا وتديم التأمل . خطر أى خطر اجهاض هذه الثورة الفكرية ، وتحويل التغيير الثورى الذى يسير فى باطن مجتمعنا اليوم الى مجرد شكليات ، وانتقال للسلطة دون وجود مقومات حقيقية لكى تصبح السلطة الجديدة ملبية للمرحلة الحالية من تطور بلادنا .



  



  



  



وفى اعتقادى أنه لكى تصعد طبقات اجتماعية جديدة للسلطة وتستعملها فى مستوى ما وصلت اليه مرحلة التطور الثورى فى بلادنا فانه لا بديل للعمل الشعبى بوصفه مركز الثقل ، مهما تعددت الأشكال المباشرة لانتقال السلطة . وتجربة العالم الثالث تؤكد أن هناك أكثر من شكل واحد لهذا الانتقال ..



  



  



  



____________________________________________________



  



  



  



المصدر : د. محمد سعيد القدال (الحزب الشيوعى وانقلاب 25 مايو - 1986 ، الخرطوم )




View sudan's Full Portfolio